www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

عاطفة الحب بين الموجود والمنشود/بقلم: نورية لحلو

0

الحب هو تلك الثورة العاصفة في الذات، أو ذاك البركان الهائج في الأعماق الذي يهزّ النفس هزّا، ويرجّها رجّا، ويجرفها جرفا، فإذا هي في ساحات التمرّد تتجاسرُ على الضوابط التي أرساها المجتمع، وتتطاول على تبريراته الدينية أو القانونية أو الأخلاقية أو العاداتية.

عاطفة الحب بين الموجود والمنشود
بقلم: نورية لحلو
الحب هو تلك الثورة العاصفة في الذات، أو ذاك البركان الهائج في الأعماق الذي يهزّ النفس هزّا، ويرجّها رجّا، ويجرفها جرفا، فإذا هي في ساحات التمرّد تتجاسرُ على الضوابط التي أرساها المجتمع، وتتطاول على تبريراته الدينية أو القانونية أو الأخلاقية أو العاداتية.
 الحب هو تلك العاطفة الهيّاجة الوهّاجة  التي إذا ما شبّتْ في نفس الإنسان خرّ لها وأذعن، ولم يملك من ناصيته غير ما يحثّه على تحدي المحظورات والبوح بالمكنونات من أجل الوصال بالمحبوب، ولعلّ هذا هو ما ذهب إليه بعض الشعراء في اعتبارهم الحبّ داء عصيّا، إذا استبدّ بالذات لا تُشفيه غيرُ صورة لمحبوب حوّامة طوّافة أو قبلة منه متخفّية متستّرة.
 فعلا إنّه لعمري تلك الجذوة المتوقّدة في النفس التي لا يملك معها المرءُ تحكّما في البوح بلوْعتها أو جحودا في التصريح بحرقتها، مهما كانت طبيعة العاشق في الصلابة والتجلّد. جذوة تشبّ في القلوب فتنعشها وتغذّيها، وتُمطر فيها أحاسيس رقيقة عذبة جميلة مهذّبة، وتغسلها من أدرانها المُتعبة، وتطارد منها همومها المتراكمة، فيستحيل حزنُها فرحا وألمُها لذّة وشقاوتُها سعادة وضعفُها قوّة جبّارة خلّاقة، وبالنتيجة ترقّ وتلينُ مهما كان تجالدُها أو تجلّدُها أو تجلّفُها، وتتحلّى بشيم الإخلاص والصدق والتواضع والإيثار.
 وغالبا ما يحقّقُ العاشقُ وصاله بالمحبوب وارتباطه به، رغم ما قد يلقى من العوائق والشوائب. أما أولئك الذين يحاولون ويغالبون فيعجزون ويتهاوون أمام سيول الصدّ والردّ والمنع والردع، فغالبا ما لا يلقون من المصائر غير الاعتلال والهزال أو التيه والجنون أو التمرّد والهروب أو الانتحار والبوار.
 لقد جبل اللّه جلّ جلاله عباده على عاطفة الحبّ، وجعلها مغذّية لنفوسهم المُنهكة مُؤطرة لعلاقاتهم المختلفة، فبات كلّ إنسان ساعيا بجبلّته، لاهثا لتنمية هذه العاطفة وتشبيبها، تائقا مُتطلّعا لتذوّق حلاوتها، حيث يطيبُ العيش ويهنأ، وتسعدُ الحياة التي يُعدّ الحبّ مُقوّما من مقوّماتها، بل يُعدّ ماء وأُكسيجينا لا يستقيم وجود الإنسان إلّا بهما.
 هذه العاطفة التي تكاد تنعدمُ في ذواتنا المعاصرة وفي علاقاتنا الراهنة بفعل الضغوط المتضاعفة والتقلّبات المتزايدة.
 ولقد أشار الشاعر السوري الراحل نزار قباني إلى هذه الحاجة العاطفية الحيويّة في قوله:
الحبّ في الأرض بعضً من تصوّرنا                  إنْ لم نجده عليها لآخترعناهُ                
لقد أمسى مجتمعُنا المعاصرُ أكثر من أيّة مرحلة سابقة مُفتقرا للأحاسيس الرقيقة، غير مُشبع بعاطفة الحبّ الجميلة، لأنّه لم يعدْ يرعى عواطف العشق والغرام، ولم يعد يهيئ لها البنية المناسبة التي تحتضنها وتؤطّرها وتتّجه بها الوجهة التي تضمنُ لها نقاوتها واستمرارها وخلودها،  بل على خلاف ذلك عمل على محاصرتها أو تأثيمها أو تجريمها أو تحريمها، ولم يترك  أمام الناس غير نافذة الزواج كإطار لضبط العلاقات العاطفية دون أن يهتمّ بما تواجهُه هذه النافذة في حدّ ذاتها من صُعوبات، حسبي منها التكاليفُ الباهظة للحياة والانخفاضُ المتزايد في نسب المتزوجين والارتفاعُ المتسارع لنسب الطلاق واتساعُ دائرة العنف الزوجي.
 لم يعد الحبّ الدافع المباشر والمحرّك الأساسيّ والمُحصّن الكبير لمؤسسة الزواج، بل للأسف  أصبحت الصفقات والحسابات التي تتعلق بالملكيات والمداخيل  أو الضرورات الملحّة كالحاجة للإنجاب أو الهروب من العنوسة وراء تشكيل أغلب العلاقات الزوجية. وحتّى تلك التي أُقيمت في أحسن الأحوال على الإعجاب كحالة انبهار لشخص بشخص آخر والانجذاب لخصاله المميزة  الظاهرة في هيئته وهندامه وسلوكه أو الباطنة في أحاسيسه وأفكاره، فنادرا ما أثمرتْ حبّا حقيقيّا، لأنّ المُعجب بعد اتخاذه من المُعجب به قدوة وزوْجا، سريعا ما تهتزّ لديه الصورة النموذجيّة التي كوّنها حولهُ لمجرّد اكتشافه فيه (المعجب به = النموذج) لنقيصة أو لخطإ، وبالتالي يحدُث التباين والتجاذب والشقاق وربّما الصدام والقطيعة.
كثيرٌ من العلاقات الزوجية تُبنى على أساس الإعجاب ويُخيّل لأصحابها أنهم يعيشون أو يشيّدون حبّا، لكنْ سريعا ما تهنزّ علاقاتهم وترتجّ وتتصدّع، ويكتشفُ صنّاعها أنّهم أقاموا صروحا، وأشادوا قصورا على أسس من سراب لطالما توهّمُوا أنّها حبّ.
 لقد شهد مجتمعنا المعاصر انحرافا خطيرا عن السبل القويمة في رعاية العلاقات العاطفية وتأطيرها وحمايتها من الأخطار الاجتماعية والصحّية، وغلبت الفوضى على الحياة البينيّة بما فيها الزوجيّة، وسادت في الواقع كثيرٌ من المشاكل المستعصية، ولم يعد الحبّ كسنّة إلهية تلك القوّة الجذّابة التي تشدّ الرجل إلى المرأة كما تشدّ المرأة إلى الرجل وتقرّر مصيرهما في الاستمتاع بذاتيهما، ولم يعد بالتّالي بينهما معنى لمناخ السكينة والدفء والوئام الذي ألحّتْ عليه التعاليم الإلهية، بل غالبا ما أضحت المؤسسة الزوجية في واقعنا الراهن ثلّاجة للأحاسيس المتوهّجة والعواطف المتوقّدة، وساحة شائكة يحكمها التشنّج والنزاع، ويتربّص بها العنف الجسدي واللفظي، وتنفك فيها غالبا عُرى الروابط، وتنقطع جسور التعايش.
خلاصة قولي لا بُدّ من توجيه صحيح للعلاقات الزوجية، ولا بُدّ من ترشيد دائم للحياة العاطفية ومنها الغراميّة، وهذا يتطلّب في نظري فتح حوار علنيّ جريء مع الأجيال الجديدة من أجل صياغة تصورات جديدة وحلول ناجعة، تُمازج بين روح العصر وروح الدين، وتساعد على بناء صروح عاطفيّة لا تهزّها هازّة ولا ترجّها راجّة.
 هكذا يبدو لي المخرج مُمكنا ممّا يتخبّط فيه الذّكر والأنثى من مشاكل وتعقيدات.
 فهل يعي مجتمعُنا المآزق التي آلتْ إليها الحياة العاطفية المعاصرة فيأخذ بأسباب الإصلاح وزمامه؟
 أم ستظلّ الأوضاع العاطفية في تخبّطها وعاطفة الحب في تأزّمها؟   
نورية لحلو
Email : alaoui_samira@hotmail.com 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.