www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

خلف المحيطات… بقلم آرا سوفاليان

0

في تلك الدول التي تخلت عن مبادئها… والتي باتت تحكمها شركات النفط… التي عبثت بالقيم وغيرت قواعد اللعبة… معتبرة بشرهاً بشراً وناسها ناساً وانسانها الواقع خلف المحيطات إنساناً… وما عدا ذلك وفيما يتعلق ببشر الشعوب الأخرى… فهم بالمحصلة أشباه بشر ومراكز استهلاك… يمكن التضحية بها… وهذه الازدواجية في التعامل مع الإنسان قاتلة ومحبطة للآمال… وخاصة عندما يستنفر طاقم طوارئ مستخدماً الحوامة لإنقاذ حيوان عالق على حافةٍ عالية… ولا يستنفر أحد لتقديم علبة حليب لطفل أفريقي يموت من الجوع أو لشعبٍ عالق يموت من الفوضى لأن صانع الحرائق لا يهمه إخمادها.

خلف المحيطات… بقلم آرا  سوفاليان

في تلك الدول التي تخلت عن مبادئها… والتي باتت تحكمها شركات النفط… التي عبثت بالقيم وغيرت قواعد اللعبة… معتبرة بشرهاً بشراً وناسها ناساً وانسانها الواقع خلف المحيطات إنساناً… وما عدا ذلك وفيما يتعلق ببشر الشعوب الأخرى… فهم بالمحصلة أشباه بشر ومراكز استهلاك… يمكن التضحية بها… وهذه الازدواجية في التعامل مع الإنسان قاتلة ومحبطة للآمال… وخاصة عندما يستنفر طاقم طوارئ مستخدماً الحوامة لإنقاذ حيوان عالق على حافةٍ عالية… ولا يستنفر أحد لتقديم علبة حليب لطفل أفريقي يموت من الجوع أو لشعبٍ عالق يموت من الفوضى لأن صانع الحرائق لا يهمه إخمادها.
صورة مرعبة أفقدتني الرجاء وهي لطفل أفريقي يحتضر وخلفه طير كاسر ينتظر… ينتظر أن يموت الطفل ليسعد هو بوجبة هانئة… هذه الصورة وصلتني عبر البريد الإلكتروني فسببت لي ألم هائل… وتعود بي الذاكرة إلى بدايات محطة الجزيرة… وفاصلها الإعلاني الشهير حيث يجلس طفل أسمر في حضن والدته، والحاضن لا يختلف عن المحضون فكلاهما هيكل عظمي مكسي بطبقة جلد رقيقة تستند مباشرة على العظم… وكلاهما يقاوم الموت والجوع ولا يهتم للذباب السمج… ودفعت طفلتي الصغيرة البيبرونة بلسانها ونظرت إلى أمها وقالت لها… لماذا يبكي هذا الطفل في حضن أمه… فأجابتها أمها… لأنه مريض ولا تستطيع والدته أخذه إلى الطبيب… فنظرت طفلتي في عيني أمها وقالت لها: عندما يعود البابا من الشغل سأطلب منه أن يأخذ هذا الطفل إلى عيادة الدكتورة لينا الخوري… وعادت لتلتقط البيبرونة… فاستطردت أمها قائلة: هذا الولد مريض لأنه محروم من الحليب فهو جائع ومثله كثيرون … ودفعت طفلتي الصغيرة البيبرونة من جديد بلسانها ونظرت إلى أمها وقالت لها… عندما يعود البابا من الشغل سأطلب منه أن يشتري لهم نيدو وسيريلاك… وعدت من الشغل وكانت نائمة وأخبرتني أمها بما حدث.
وكبرت هذه الطفلة ونجحت بالأمس إلى الصف الخامس… وفي كل مرة أتذكر هذه الحادثة أسأل نفسي هل يعقل أن تختزن هذه الطفلة هذا القدر الهائل من الإنسانية… وتتفوق بمخزونها الإنساني الطفولي البريء وهي في طور تعلم الكلام على سادة هذا الكوكب وحكامه وفلاسفته ومنظريه القابعين هناك خلف المحيطات حيث يديرون دفة العالم مستخدمين ديمقراطيتهم… ولا يتوانون عن استنفار طاقم طوارئ  مستخدماً الحوامة لإنقاذ حيوان عالق على حافة عالية… ولا يتوانون عن استخدام نفس الحوامات لتقديم جرعات الموت هنا وهناك للأطفال ولآبائهم وأمهاتهم.
 الأرواح عندهم رخيصة… وصرعوا رؤوسنا بغير ذلك… الإنسان خارج بلادهم لا يساوي كلب نافق … ونفخوا قلوبنا بغير ذلك… الأطفال في نظرهم ألف ألف دريئة مشاع تنمّي مواهب ألف ألف رامٍ مستذئب… وألفت عيوننا مشاهدة ذلك. 
أما معاملة إنسانهم في بلادهم… فتختلف بمقدار ألف سنة ضوئية… فهناك خلف المحيطات يجلس الكبار أمام شاشات الإظهار المتصلة بشبكات ماكرووية تتفرع في متاهات لا يمكن الإحاطة بها لتتصل بشبكات أخرى منتهية بشاشات إظهار متصلة بعدسات ولواقط صوت تبدأ من سيارات الإسعاف ومنذ اللحظة التي يتم فيها نقل المصابين إلى السيارة… مروراً بالطريق الموصل إلى المشفى… فالأروقة المفضية إلى غرف العمليات… والعناية المسبوقة والطاقم الطبي تواكبان المصاب أو المريض حتى يتم تجاوز المحنة.
والطائرات العمودية جاهزة ومستنفرة وتحت الطلب… تحلق بعد ثوانٍ من تلقي الاستغاثة… أما جرحانا فيموتون في الطريق… فلا سيارة إسعاف تصل ولا من يحزنون ليتولى المارة إسعاف الناس كل على طريقته فالعالق يخسر يد أو رجل أو يصاب بخلع في مكان ما أو عطب نتيجة سوء النقل وسوء الحمل فتوخياً للسرعة ولا شيء في سوريا مستعجل إلاَّ سيدنا عزرائيل الذي أوجد له نقاط توقف واستراحات على جنبات اوتوستراداتنا… حيث يحمل ويلقى الجريح أو المصاب وبنفس الطريقة التي يحمل ويلقى بها كيس الخضراوات على ظهر شاحنة فيصاب بخلع في رقبته وتتحطم فقراته ليصبح مقعداً بالإضافة إلى إصاباته السابقة ويعتبر محظوظاً إذا استطاع الحفاظ على مخزون دم كافي لإبقائه على قيد الحياة حتى لحظة الوصول إلى المشفى بعد نهب أمتعته وماله وحاجياته وموبايله وشكلة مفاتيحه، ويكون اسعد المحظوظين في الكرة الأرضية إذا وجد من يعمل على إسعافه دون أن ينقع في النقالة لينزف حتى الموت فيصل إلى البراد  ونحن في عصر السرعة ولا بل نحن ملوك السرعة في كل شيء من خلف مقود السيارة وحتى البراد  بشرط وجود الكهرباء.
وجاء إلى سوريا أحد الكبار… وهو من الأطباء الجالسين هناك أمام شاشات الإظهار المتصلة بشبكات ماكرووية تتفرع في متاهات لا يمكن الإحاطة بها لتتصل بشبكات أخرى منتهية بشاشات إظهار متصلة بعدسات ولواقط صوت تبدأ من سيارات الاسعاف ومنذ اللحظة التي يتم فيها نقل المصابين إلى السيارة… مروراً بالطريق الموصل إلى المشفى… فغرف العمليات.
ويعرف بالملاك الحارس… حيث يتولى القيادة من خلف شاشة الكومبيوتر والكاميرا والمايكروفون ويرشد العاملين والمسعفين والسائقين السائرين بالروح البشرية وهي أمانة في أعناقهم، حتى لحظة الوصول إلى غرف العمليات فيوجه الأطباء لأنه عاين الحالة وفرغ من دراسة التقارير ولديه التصور المسبق لكل شيء والخبرة المذهلة وبالتالي فهو يتولى كل شيء عن بعد، هو بالعين الخبيرة وبالمخزون الهائل من التجارب، والأطباء في غرف العمليات بتجهيزاتهم وآلاتهم… وحتى نهاية الإنعاش…حيث يهنئ الأطباء والممرضون والممرضات وملاكهم الحارس يهنؤن بعضهم بعضاً بعد أن تنطلق صيحة (باسد… يعني نفد بالعامية أو مشي خشبو… بعكس ما يحدث عندنا عندما يقرر الجميع أنه ـ (نصيبه هيك خالص عمرو الله يرحمو… هيك قدرو!) وتصبح المسألة أصعب عند متابعة أربعة حالات وأحياناً أكثر… ويطلق على هذا النوع من الناس بالأساتذة الكبار.
وجاء إلى سوريا أحد الكبار في زيارة للأهل… وجاء يبحث عن ثلاثة آرا  سوفاليان و ن ـ الحموي و زاهر سحلول… ولا يوجد  شيء في الدنيا أسهل من العثور عليَّ فلقد أوكل مهمة البحث عني إلى طبيب أسنان صديق له وتولى طبيب الأسنان مهمة إحضاري إلى العيادة بوقت قياسي وهو مسافة الطريق وكانت المفاجأة أحسست أنه يعرفني منذ فترة سابقة… وسألته فقال لي أن القارئ يتأثر بالكاتب… وهذا ما يبرر شعور الألفة الموجود بيننا دون سابق معرفة.
سألته: كم من الأرواح أنقذت يا دكتور… ونظرت إلى عينيه… قال لي: الله هو المنقذ وهو الشافي وبيده كل شيء… ونحن لسنا أكثر من واسطة… و أردف قائلاً كنت أترصد مقالاتك لأجد فيها ذاتي وأجد طفولتي كما في مقالة تلك الراهبة، وحارتي ولعبي وروضتي كما في مقالة كنا صغاراً وكان العيد أجمل، ثم مدرستي يوسف العظمة وأساتذتي ونادي الكشافة  كما في مقالة أين النشيد العربي السوري وأثرت شجوني في مقالتك آخر مرتبات الندالة، وهي آخر مقالة قرأتها لك.
قلت له إن محرك البحث في سيريانيوز يعطيك آخر ثلاثون مقالة فقط، وفي الواقع فإن مجموع كتاباتي زادت عن المائة…
قال: أما تعليقاتك التي لا توفر أحداً فأعرف أنها لك منذ أول سطر أو أول كلمة أو أول حرف… قلت له: لقد حيرتني أيها البروفيسور فأنا لي أخ في كندا ليس لديه الوقت لطباعة صفحة من إحدى مقالاتي يناولها لأمه التي كادت أن تنسى الكلام لعدم وجود أحد يحدثها فتعلمت لغة الصمت… ومقالاتي هي من النوع الطويل فأستحلفك بالله أن تقول لي من أين تجد الوقت لقراءة مقالاتي.
قال: هناك مونيتور متصل بأنترنيت فضائي على مدار الساعة وهو في أقصى اليسار وسيريانيوز نجمته المتألقة ففي الفترات التي لا يوجد فيها شيء وخاصة في ساعات الصباح الأولى وأحياناً بين العمليات بعد زوال الخطر استرق النظر لأجد نفسي مندمج بالقراءة  لأصل إلى نهاية المقال فأتذكر بلدي وحارتي وأهلي وجيراني… ويتم تمرير الرابط إلى أطباء آخرين أصلهم من سوريا… فمقالاتكم انتم الثلاثة أنت و ن ـ الحموي وزاهر سحلول تخفف عنا قسوة الغربة، وكنت قد قررت زيارة بلدي ورؤية أهلي هذا الصيف ووضعت على لائحة أولوياتي مقابلتكم انتم الثلاثة لأنكم شركائي وتناوبون معي في غرفة المراقبة والتوجيه وتحضرون عملياتي.
قلت له: تحققت أمنيتك الأولى ورأيتني، وبالنسبة للثانية سأرسل ايميل إلى الأخت ن ـ الحموي أما الثالثة والمتعلقة بزاهر سحلول فصعبة لأن زاهر في دبي وسأرسل له ايميل يتعلق بالموضوع.
ولم أتلقى رد من الأخت ن ـ الحموي، أما زاهر وبشهامته المعهودة فلقد اتصل من دبي على جهازي الخلوي فحدثته بالموضوع من طأطأ إلى السلام عليكم وقلت له: زاهر مشان الله  حرف الـ ن إلى ماذا يرمز فو الله لقد نسيت وسألني البروفيسور فتحايلت ولم أجب… والمشكلة هي أدبه الجم حيث لم يرد
 إحراجي ولكن ماذا لو أعاد السؤال في الغد… فضحك زاهر وقال نعمت أخي آرا هي الأخت نعمت… وتذكرت وقلت في نفسي جلَّ الذي لا ينسى… وقلت لزاهر سآخذ رقم جوال البروفيسور ونرتب مكالمة معك… وكانت المفاجأة أن البروفيسور لا يريد حمل موبايل في سوريا ولا يريد أن يقيده أحد.
وفي مطعم قصر البلور في باب توما جلسنا نتناول طعام العشاء بلا دخان ولا نراجيل ولا كحول من أي نوع لأن المحتفى به لا يتعامل مع هذه الأشياء بالمجمل، ورائحة المشاوي تختلط برائحة سور الياسمين الذي يحجب النهر الذي تحول إلى جدول صغير رغم مساعي اليابانيين الذين تبرعوا بالمال والخبرة والآليات لإنقاذ بردى دون جدوى لأن بردى يسحب بالكامل في جداول قبل دخوله دمشق ولا يصل منه إلاّ كل قطرة ـ طويلة عمر.
والمحل على الطراز القديم ورباعيات الخيام ثم الأطلال ثم فكروني والكونترباص يأخذ بمجامع الووفر وأصوات التريبل ذهبت من الشريط الذي دار مرات ومرات وعدنا سيراً على الأقدام إلى العباسيين ومررنا بالقصاع والغساني حيث ملاعب الصبا ومعنا صاحب العزيمة صديقي وصديق البروفيسور الحميم.
في اليوم التالي اعتذر البروفيسور عن تلبية دعوتي فتم تأجيلها فاعتذر ثانية ولم نتمكن من تأجيلها ولو أنها كانت منقولة على المونيتورات كما يحدث خلف المحيطات لجاء معتذراً عن اعتذاره.
وحضّرت له السيديات التي طلبها وسجلت له سي دي يحوي كل مقالاتي وفي كافة المواقع التي تستضيف أعمالي بالإضافة إلى أعمالي الموسيقية… لأكتشف بأنه سافر إلى خلف المحيطات من جديد ورجعت إلى البيت خائباً والسيديات على المقعد أمامي… وكانت سيارة إسعاف تلعلع من خلفي وأنا في أقصى اليسار والسير متوقف ومشلول والممرض يمسك الميكروفون ويصرخ بالناس ويطلب منهم إفساح المجال وسيدنا عزرائيل يفعل نفس الشيء بلا ميكروفون فصعدت إلى الرصيف مفسحاً فربحت سيارة الإسعاف ثلاثة أمتار وتوقفت وبقيت أنا على الرصيف… وفكرت ملياً وتمنيت أن لا تطول وقفة شعبنا ولا أمتنا ولا وطننا على الرصيف لأننا جديرون بما وصلوا إليه ولأننا أحق بمن أوصلوهم إلى ما وصلوا إليه والله كريم.
Ara Souvalian
ara@scs-net.org
دمشق 20/07/2007

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.