www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

الأفران الطينية القديمة في قطاع غزة رغم تعب أصحابها الا انهم /غزة /علاء الحلو :

0

كنا نسير أنا وزميلي من جريدة القدس في أحد شوارع قطاع غزة صباحا ونتحدث عن أفكارا جديدة لتقارير نقوم بها, ولفت انتباهي رجل عجوز دخل في سرداب مظلم تشتعل به النيران, فتحدثت الى زميلي عن ذلك المشهد الغريب خوفا مني على ذلك العجوز, فقال لي أن هذا ليس سردابا إنما “فرن عربي طيني قديم” وهذا العجوز هو صاحب الفرن, ويقوم خلاله بصناعة الخبز وطهي المأكولات, عندما سمعت ذلك الكلام قررت أن أغوص في أعماق ذلك الرجل الغريب كي أجد عنده أجوبة على عشرات التساؤلات التي بدأت تدور في ذهني الذي لم يعتاد على مشاهدة هذه الأفران الحجرية.

الأفران الطينية القديمة في قطاع غزة رغم تعب أصحابها الا انهم يخشون انقراضها
غزة /علاء الحلو :
كنا نسير أنا وزميلي من جريدة القدس في أحد شوارع قطاع غزة صباحا ونتحدث عن أفكارا جديدة لتقارير نقوم بها, ولفت انتباهي رجل عجوز دخل في سرداب مظلم تشتعل به النيران, فتحدثت الى زميلي عن ذلك المشهد الغريب خوفا مني على ذلك العجوز, فقال لي أن هذا ليس سردابا إنما “فرن عربي طيني قديم” وهذا العجوز هو صاحب الفرن, ويقوم خلاله بصناعة الخبز وطهي المأكولات, عندما سمعت ذلك الكلام قررت أن أغوص في أعماق ذلك الرجل الغريب كي أجد عنده أجوبة على عشرات التساؤلات التي بدأت تدور في ذهني الذي لم يعتاد على مشاهدة هذه الأفران الحجرية.
 
وبفضول , دخلت على الرجل العجوز الذي كان يحتسي الشاي حيث أن النهار ما زال في بدايته ولم يقبل الزبائن بعد, وسألته إن كان هناك مجالا للحديث معه, فأجابني بالقبول على الفور,وقال “أهلا بك يا بني أنا اسمي وجيه المبيض أبلغ من العمر حوالي 65 سنة وأمتهن الخبازة منذ ما يزيد عن الخمسين عاما, بدأت العمل من السنة الخامسة عشر من عمري في أحد الأفران عاملا تحت يد خباز أقرب إليه الخبز قبل أن ينضج وبعد الخبازة أقوم بأخذ الخبز وأضعه في المكان المخصص له, بقيت على هذا الحال لفترة من الزمن حتى تمرنت على كيفية الخبازة فهي ليست سهلة كما يعتقد الجميع بل تحتاج الى جسم سريع الحركة ويتقنها بشكل جيد”.
وتابع الحاج أبو علاء حديثه وقال “في السابق عندما كنت في سن الشباب لم يكن الأهالي مهتمين بالعلم لذلك كنت أهرب من المدرسة الى الفرن وأهملت التعليم على الرغم من أن رفاقي في المدرسة توظفوا في سن مبكرة لأن البلد كانت متعطشة وبحاجة الى المتعلمين فيتم توظيف المتعلم وهو ما زال في الإعدادية”.
 
أما عن حال مهنة الخبازة قبل خمسين سنة فقد أشار أبو علاء الى أن جميع سكان المناطق كانوا يعتمدوا على الأفران العربية في الخبازة نظرا لعدم وجود وسيلة أخرى تسد مكانها فكانت المرأة ترسل مع ابنها الأواني التي تحتوي على العجين لكي يتم خبازتها, وكانت أيضا ترسل “الطهمات” أي الأكلات اللذيذة والمكلفة والموسمية التي كانوا يعدونها في فترات متباعدة “معجنات اللحمة, الكعك, الحلبة الحلوة” والكثير من الطهمات الأخرى, وكان الزبائن يصطفوا بطابور يصل في معظم الأحيان الى خارج الفرن, أما الآن فقد انتشرت الأفران الأوتوماتيكية التي تحتوي على الآلات الحديثة والتي تنجز العمل في لحظات قليلة وبكميات كبيرة, مؤكدا على أن أصحاب الأفران العربية القديمة لا يستفيدوا بشكل كبير إلا عند انقطاع التيار الكهربائي, أما في اللحظات التي تتوفر فيها الكهرباء يجلس الرجل العجوز ويحتسي الشاي أو يضع مقعده خارج الفرن ينتظر رزقه الذي يأتي خلافا لرزق الآخرين.
وفي هذه الأيام يستيقظ الحاج أبو علاء يوميا على آذان الفجر يصلي وبعد ذلك يعمل بعض الشاي ويحتسيه ومن ثم يجمع أغراضه ويتجه الى الفرن في الصباح الباكر قبل طلوع الشمس, يجلس على باب الفرن حتى يلوح أمامه زبون, وقال “لدي من الأبناء 12 نصفهم من البنات والنصف الآخر من البنين, ابني الكبير اسمه علاء في الأربعين من عمره يعمل في صيانة المسلخ في بلدية غزة, أما أصغر طفل فهو حمزة في الحادية عشر من عمره, وأصغر بنت هي إسلام في الخامسة عشر من عمرها في الصف الأول الثانوي”.
 
في هذه اللحظات تراودت العشرات من الأسئلة في ذهني وبالصدفة جاء طفل صغير يحمل أرغفة غير مخبوزة ووقف ينتظر انتهاء حديثي مع العجوز, فسألت أبو علاء إن كان قد فكر في يوم أن يعلم أحد أبنائه هذه المهنة فقال “لا أحب أن يكون أحد أفضل مني سوى أبنائي, وأنا بالتأكيد لم أفكر أن أعلمهم هذه المهنة المتعبة والشاقة, والتي ليس لها مستقبل فهي في تقلص مستمر حيث أنني أرى الأفران العربية بالصدفة وبشكل قليل جدا وسيأتي اليوم الذي تنقرض فيه هذه المهنة”, وهنا وجه العجوز لي سؤالا وقال “كيف يمكن للشخص الذي ذاق العذاب والتعب أن يذيقه لفلذة كبده؟”, فلم أجب وتابعت الاستماع مستمتعا لحديث ذلك العجوز الذي غلب على حديثه صفة المرح على الرغم من صعوبة حاله.
 
طال انتظار الطفل الصغير فطلب مني أبو علاء أن نكمل حديثنا وهو يخبز ما جاء به الطفل, فوقفنا وبدء بإدخال الأرغفة الى الفرن الطيني ويخبزها ويخرجها, كان ينجز عمله بسرعة في الحركة ولياقة وكأنه شاب في العشرين من عمره, كذلك  تحدث لي خلال صناعته للأرغفة عن الأدوات التي يستخدمها في عمله, ومنها “المطرحة” وهي العصا الخشبية التي تنتهي بقطعة خشبية يوضع عليها العجين ويتم إدخالها الى الفرن الطيني, وهناك “اللاقط” وهو العصا الخشبية المنتهية بقطعة طويلة من المعدن يتم من خلالها تدوير وسحب الأرغفة بعد خبزها, أما الأدوات التي يستخدما لإشعال النار فهي “الكرتون والأخشاب والنايلون والأقمشة”.
وأشار الى أن هناك الكثير من الناس التي لا تستغني عن الخبز المصنوع في الأفران الطينية وذلك لتعودها عليه, فهي ترى بأن له نكهة لذيذة لا يمكن لأي فرن حديث إتقانها, لافتا الى أنهم يطمئنون أكثر وهم يأكلون من صنع أيديهم وخبيز أصحاب الأفران العربية القديمة”.
 
قطع حديث أبو علاء رجل كبير دخل وهو يحمل إناءا كبيرا به عجين يريد أن يخبزه لبيته وعلى ما يبدو أدرك أنني أعمل لقاء صحفي مع صاحب الفرن فقال “هذا الفرن ممتاز وأنا أتعامل معه منذ كنت صغيرا في ستينات القرن الماضي”, ونوه الى أن هذه الأفران تعتبر امتدادا للتراث الشعبي الفلسطيني, كذلك تعبر عن أصالة الشعب الفلسطيني, وتابع قائلا “الخبز الذي نأخذه من هذا المصنع اليدوي القديم ألذ وأكثر صحة من الخبز المصنوع آليا, فالأشياء المصنوعة باليد تكون متقنة أكثر من المصنعة آليا” حسب قوله.
وأشار الى أهمية المحافظة على هذا النوع من التراث الفلسطيني وذلك بأن يقوم الآباء بتعليم المهنة  لأبنائهم “اللذين لم يوفقوا في الدراسة”, وذلك لأن كل القائمين على الأفران في هذه الأوقات هم رجال كبار في السن وان لم ينشأ جيل جديد يمتهن هذه المهنة سوف تنقرض بلا عودة.
انشغل أبو علاء قليلا مع هذا الرجل وأنا تحدثت مع الطفل الصغير الذي ينتظر الانتهاء من تحضير الأرغفة التي جاء بها, وقال لي الطفل هاشم القصاص 13 سنة بعد أن أصر على أن يعطيني رغيفا “تقاسمته أنا وزملائي لاحقا في المكتب” أنه اعتاد أن يأتي الى هذا الفرن كل يومين فهو وكل عائلته لا يأكلوا من الخبز المصنع آليا ويجدوا أن الخبز والأطعمة المصنوعة عن طريق الفرن الطيني القديم ألذ وأكثر نكهة من التي يصنعوها داخل بيتهم.
 
إذن هي مهنة قديمة ومتعبة ولكنها تراثية ويعتمد عليها الكثير من الناس سواء لتعودهم عليها أو لاضطرارهم لها لحظة انقطاع التيار الكهربائي الذي ينقطع بشكل مستمر في قطاع غزة نتيجة النقص الحاد في الوقود الخاص بتشغيل محطة الكهرباء الوحيدة في غزة, ربما تعتمد كل الصناعات على الكهرباء بشكل رئيسي في عملها ولكن وكما هو معروف “لكل قاعدة شواذ” فالأفران القديمة تعمل على غير ما جرت به العادة, أي لحظة انقطاع التيار الكهربائي لتطبق مقولة “مصائب قوم عند قوم … فوائد !!
 
رابط التقرير على صفحات جريدة القدس مع صورة الرجل العجوز
http://web.alquds.com/docs/pdf-docs/2010/4/4/page13.pdf

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.