www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

ثلاث لوحات ولوحة…بقلم آرا سوفاليان

0

لي صديق يعتبر من أشهر زراعي الأسنان في سوريا ومعترف به من كبريات الجامعات في العالم يقابلني باحترام ومحبة شديدين ويحلو لي أن أضع اسمه بين العمالقة والأساتذة الكبار في المهنة، وكان والده كذلك وهو طبيب أسنان مشهور ومختص في الجراحة.

ثلاث لوحات ولوحة…بقلم آرا  سوفاليان
لي صديق يعتبر من  أشهر زراعي الأسنان في سوريا ومعترف به من كبريات الجامعات في العالم يقابلني باحترام ومحبة شديدين ويحلو لي أن أضع اسمه بين العمالقة والأساتذة الكبار في المهنة، وكان والده كذلك وهو طبيب أسنان مشهور ومختص في الجراحة.
يحسدني البعض لأنه يخصني بجزء من وقته الثمين في كل مرة أدخل عيادته ويقف معي في المؤتمرات وقبل دخوله المحاضرات… مرة رأيت عنده مشبك رابر دام قديم ومعه مستلزماته وكان قديماً جداً وغير صالح للاستعمال فسألته عنه، فأجابني هذا ذكرى من والدي فذهلت لأن هناك في سوريا من كان يستعمل الرابر دام في الخمسينات، وقد مر على ذلك خمسون سنة لم تباع فيها مشابك مطاطية خاصة بعزل الأسنان المراد علاجها في الحفرة الفموية عن مثيلاتها لضمان عدم حدوث تلوث أو اختلاط، خمسون سنة مضت لم تباع فيها المشابك إلاَّ ما ندر، وإذا علم السبب بطل العجب فلقد كان الوالد متفوقاً أيضاً ليس على أطباء بلده بل على زملائه حيث البلد التي أوفد إليها لمتابعة تحصيله العالي. ومارس الابن عمله في عيادة الأب في وكان يزعجه تحول مدخل البناء حيث العيادة إلى سوق ألبسة وبسطاط فقرر الانتقال إلى عيادة جديدة.
وذهبت إلى العيادة الجديدة لتجهيز قسم المعالجات اللبية بالمستلزمات المطلوبة وهو قسم مستحدث في العيادة لأن صاحب العيادة يؤمن بالتخصص، وهو يباشر الزرع ومستلزماته ويترك اللبية لطبيب مختص.
دخلت العيادة الجديدة بالقدم اليمنى وسحرتني الأناقة والنظافة والرائحة العطرة الخفيفة المختلطة  بما تبقى من روائح التعقيم وقد سحرتني هذه الرائحة وذكرتني برائحة الغوطة في آذار ونيسان في الستينات، و سحر أزهار شجر المشمش ونقاء هواء الغوطة والزخم الهائل من الأوكسيجين ، وكل تلك الأشياء التي خسرناها مرة واحدة والى الأبد.
ولأن الرجل يكن ما يكنه لي من المحبة والاحترام فإن طاقم المساعدات والممرضات يقتدون برب عملهم ويعاملوني بلطف واحترام بالغين، وكان ترحيب مهذب من فتاتين تولت الأولى إرشادي إلى مكان أجلس فيه في غرفة الانتظار وذهبت الثانية لإعلام الطبيب بوصولي.
جلست فأثار اهتمامي وجود أربعة لوحات صغيرة ومتناسقة على الجدار، ثلاثة منها قديمة تخفي شيئاً مجهولاً غير واضح وبالأسود والأبيض والرابعة ملونة وحديثة، والملفت هو الإطارات الأربعة الثمينة التي أوحت لي للوهلة الأولى أنها أثمن بكثير مما احتوت لولا معرفتي بالرجل التي تنفي أي احتمال من هذا القبيل، فتركت مكاني لمواجهة الأمر فكان ما يلي:
اللوحة الأولى:
وتحوي ورقة قديمة مصفرة تم طبعها على الآلة الكاتبة… مذيلة بشيك و يُقرأ فيها ما يلي:
شركة التكسي الأصفر في فيلاديلفيا
السيد ……………………. المحترم
239 طريق ساوث إتش 41 إس تي
عزيزي السيد ……………. المحترم
تلقينا تقرير من السائق الذي يتولى توصيلكم مؤرخ بـ 12 نوفمبر 1952 يفيد بحدوث خطأ في الأجرة التي تم استلامها منكم، وبعد التحقيق تبين أن الأجر المتحقق بعد قطع المسافة المعنية في التقرير هو 1.75 دولار ، ونحن لا نريد لزبائننا دفع أي مبلغ أكثر من المطلوب وبما أنكم دفعتم 2.15 دولار بناءً على مطالبة السائق لكم، فإنه يتوجب لكم في ذمتنا مبلغ وقدره أربعون سنتاً لا غير، طياً شيك بالقيمة مع خالص التقدير والاحترام راجين قبول اعتذارنا عن الخطأ الذي تسبب به السائق المعين حديثاً في الشركة والذي أخطأ بدون قصد في تقدير الأجر المطلوب.
نكرر اعتذارنا لأي سوء تفاهم أو إرباك أو مشقة سببناها لكم وشكراً
بكل احترام
شركة التكسي الأصفر فيلاديلفيا
لويس وايزلر
نائب المدير العام

هذا الشيك يتوجب صرفه خلال ستين يوماً من تاريخه
الساحب ـ شركة التكسي الأصفر فيلاديلفيا
التاريخ 5 ديسمبر 1952
ادفعوا لأمر السيد …………….. المحترم
مبلغاً وقدره 40 سنتاً فقط أربعون سنت
المصنف رقم 2 إن إل 5688
موجه إلى: شركة بنسلفانيا للخدمات المصرفية والائتمان
لويس  ويزلر فيلاديلفيا

ـ والتفتتُ إلى الخلف فكان الرجل الكبير وتحيط به الممرضتين يقرأ معي والتقت أعيننا وضحكنا معاً.
قال لي هل أعجبتك،  قلت نعم ولكنها تعود إلى العام 1952 ، قال نعم نعم لقد عثرت على هذه الوثيقة في مكتبة والدي وقررت تأطيرها ووضعها في عيادتي الجديدة، قلت له: سألت نفسي من بعيد هل يعقل أن يُخصص هذا الإطار الثمين لتأطير هذه الورقة الصفراء البالية، فقال: وماذا وجدت ؟ … قلت: تبين لي أنه لا يوجد من يف هذه الورقة قيمتها، قال: وهذا يطابق ما فكرت فيه على الدوام.
لقد تخصص والدي في الولايات المتحدة الأميركية، ولأن من شابه أباه ما ظلم، فلقد اخترت ما اختاره أبي من قبل والحمد لله.
قلت له: هل تسمح لي بالاطلاع على اللوحة الثانية، قال: تفضل فهذه السلسلة تتألف من أربعة لوحات وتمثل سيناريو متكامل، عليك كالآخرين ولوجه من الأول إلى الآخر.
بريد الولايات المتحدة
900 إن آلامادا ستريت و م لوس أنجلوس 207 كاليفورنيا 90052
السيد………………. عميل البريد الاتحادي الأميركي
تحية واحترام
ببالغ الأسف نعلمكم أنه حدث عطل في آلة فرز الرسائل التابعة لمركزنا، تسبب في تشويه ناحية المرسل إليه، وتمزيق مقدمة الرسالة بحيث لم يعد بالإمكان معرفة الجهة التي يتوجب علينا إيصال الرسالة إليها.
ونحن نؤمن بحقكم في الحصول على الخدمة المثلى التي تتجلى بإيصال رسائلكم إلى الوجهة المطلوبة بمنتهى الأمانة والسرعة ونؤمن وإياكم بالأهمية القصوى لمحتواها.
ونحن نأسف للعطب الذي حصل خارجاً عن إرادتنا والذي أدى إلى منعنا من تحقيق الهدف الذي نسعى إليه والذي يتوخاه زبائننا.
ولحسن حظنا فإن التشويه لم يطل جهة المرسل لذلك نرجو مساعدتكم في تحرير الجهة المرسل إليها والإعادة دون إضافة أي رسم.
الرجاء قبول فائق اعتذارنا
جيمس إل هاريس
مدير التوزيع
قلت للرجل الكبير: يبدوا أن هذه تخصّك أنت، قال: نعم هذه لي وكانت رسالة مصيرية رسمت مستقبلي، قلت: كيف ذلك، قال: كانت هذه الرسالة موجهة إلى الجامعة التي تابعت فيها تحصيلي العلمي والتي قبلتني في الاختصاص الذي أحببت، ولو أن هذه الرسالة ذهبت أدراج الرياح ولم تصل إلى الجامعة فمن البديهي أنني لن أتلقى أي جواب، وسأعتقد بأنه تم عدم قبولي، وسأذهب في منحى آخر مجهول ولا يتطابق مع أمنياتي والطريقة التي رسمتها في ذهني لتقرير مستقبلي، لذلك فأنا أشعر بأنني مدين للسيد جيمس إل هاريس ودون وجود أي سابق معرفة … والنتيجة هي أن صاحب الضمير الحيّ يحيي كل الضمائر ويتربع على عروشها.
واللوحة الثالثة: لوحة رائعة تتضمن إشعار من مصلحة الضرائب الاتحادية الأميركية بترويسة تمثال الحرية الرمز الذي صار يحتمل الشك في هذه الأزمان ويفيد بما يلي:
وزارة العدل
مصلحة الضرائب الاتحادية الأميركية
الرقم 15-51 إي إس 209434669
التاريخ 22/09/1989
10 سان فرانسيسكو سي إي.
الشيك رقم 3145300603391
استناداً إلى القرار رقم
082-68-4444    12 إس كيو  الصادر عن مصلحة الضرائب ـ  جي آلجا فريزنو
ادفعوا للسيد……………………………. مبلغ وقدره 2585 دولار.
العنوان البديل:
السيدة…………………………………
 2124 شارع كندا كليندال سي إي 91208
قلت له: هذه خارج دائرة توقعاتي، ولا يمكنني الإحاطة بالملابسات لجهلي بالقصة المتعلقة.
قال: الحق معك يا بارون فهذه تتعلق بالاختصاص وهو الزرع، فلقد تبين انه يحق لي العمل في أميركا في السنة الأخيرة قبل التخرج ولقد اخترت أن أعمل في عيادة خاصة باسمي و ملكي، وتم تكليفي برسوم وضريبة أرباح، وأديت ما علي حتى آخر مليم، وبرئت ذمتي استعداداً لمغادرة أميركا والعودة إلى الوطن.
وكان لا بد من وضع عنوان بديل لاستلام رسائلي أو الإشعارات المالية ليتولى صاحب العنوان البديل إعادة إرسال ما يصلني من رسائل وليبلغني عن مواعيد الدورات الطبية ومتابعة التحصيل والارتباط بالجامعة، وكذلك إعلامي في حال انشغال ذمتي بأي مبلغ حتى ولو كان مخالفة سيارة.
فاخترت اسم قريبة لي تتولى هذه المهمة بعد مغادرتي أميركا وعودتي إلى الوطن.
والمفاجأة كانت بعكس كل توقعاتي فلقد تبين لمصلحة الضرائب وبدون أي شكوى مني وبدون أي اعتراض وبدون أدنى علم بالقضية من ألفها إلى يائها، تبين لمصلحة الضرائب انه تم تكليفي بضريبة تتوجب على الطبيب الأميركي المحلي الممارس في حين يجب تكليفي بنصف ما يكلف به الطبيب المحلي الممارس الأصيل أو المتجنس المقيم، لأنني طالب وافد ولست متجنس ولا مقيم، وبالتالي فلقد كان لا بد من تفويض قريبتي لاستلام المبلغ بالنيابة عني… وظلت مصلحة الضرائب وراء القصة حتى تأكدت من إعادة حقي لي … أيضاً على آخر مليم.
قلت له: أما الصورة الرابعة فواضحة كعين الشمس ولكني لم أنجح في العثور على الرابط.
قال لي: تعال ندخل مكتبي لنتحدث…. وجلس قبالتي وقال لي ماذا رأيت في الصورة الرابعة
قلت مبنى برج التجارة العالمي والطائرة الثانية تتأهب للاصطدام بالبرج الثاني، قال: نعم ولعلك أدركت الرابط لوحدك… قلت له نعم:إذا كنت تقصد  أن التخلي عن المبادئ التي تشتمل الصور الثلاثة على جزء منها قد أدى إلى النتيجة الواردة في الصورة الرابعة قال: نعم تماماً تماماً يا بارون وبغض النظر عن الفاعل، وهذه الصور تغنيني عن الشرح فأنا أستقبل بهم كل المرضى كونهم في جهة تقع مباشرة بعد باب الدخول المفضي إلى العيادة ولكني أخصُّ بهم فئة محددة من المرضى وأنت تعرفهم، قلت: نعم وهم المرضى الذين لا يجدون الحرج في التحدث معك بلغة بلدهم.
قال لي: أحسنت وكل يحب وطنه بالطريقة التي يحب ويدافع عنه بالطريقة التي يعرف، وأردف قائلاً: حسناً ألا تصلح هذه الأفكار لكتابة مقالة جديدة، قلت: تصلح لكتابة مقالات، قال: افعل إذاً فهذا الفولدر الأصفر المركون في أعلى الشاشة وجهة اليسار وتسميته آرا  سوفاليان ينتظر مقالة جديدة.
وتركت المواد المطلوبة على طاولته وأنقدني الثمن دون أن ينظر إلى الفاتورة المرفقة، و انتهت المقابلة، وخرجت.
وفي الطريق كنت ألوم نفسي فيما يتعلق بالتأخر في اكتشاف الرابط ما بين الثلاث صور والرابعة… وعدت بذاكرتي إلى قراءاتي السابقة والى كتبي، وتوارد إلى ذهني خواطر عدة منها أنه: في العام 1939 عندما قرر الزعيم النازي الاستيلاء على العالم تم تحذيره من أميركا فأجاب: رعاة بقر على أحصنة، وحبال ترسم حركات بهلوانية في الفضاء ومسدسات صدئة لا تصلح لشيء.
ولكن في الجانب الآخر من المحيط كان هناك من يصنع مجد أميركا ويضعها في فلك دول العالم المتقدم ويحولها تباعاً إلى دولة عظمى، قبل تجليات الزعيم النازي، بالعمل الصادق والفكر النير وحب الوطن والنزاهة والصدق والإخلاص ومقولة الحق والإرادة الفولاذية، والمكاشفة والديمقراطية والمبادئ الحرة والعدالة واحترام المواطن وتطبيق المساواة في الحقوق والواجبات لكل المواطنين ووأد التفرقة العنصرية والتخلص من آثارها المهينة، وبناء البلد، وكانت سياسة الكيل بمكيال وحيد قد أدت مثلاً إلى: أن تصوت الولايات المتحدة لصالح قرار إلغاء الانتداب الفرنسي على سوريا حيث أن التحيز للجانب الفرنسي كان ضرب من المحال لأن في ذلك الاستهانة بدستور الولايات المتحدة الأميركية وشعارها (نحن نؤمن بالله) ومن كان يجرؤ على العبث بهذه المثل العليا.
وهكذا فلقد خسرت أميركا معظم أسطولها البحري في بيرل هاربور، فبنت غيره، واضطرت لدخول الحرب العالمية الثانية، وجنت ألمانيا على نفسها مقتدية ببراقش، فلقد تم تدمير كل بوارجها وحاملات طائراتها، وإغراق معظم غواصاتها وسفنها الحربية والتجارية على السواء، وخسرت كافة مستعمراتها وتم تحييد اليابان بالسلاح النووي في عصر عرف بتحليل المحرمات، خاصة وأن هتلر البعيد عن شواطئ الأطلسي استطاع تشغيل صفارات الإنذار في عاصمة الولايات المتحدة بعد أن استطاع ضباط بحريته خلق مطارات عائمة في المحيط الأطلسي تناوبت على استقبال وإرسال الطائرات القاذفة حتى وصلت قاذفاته إلى واشنطن وسجلت الغارة الجوية الوحيدة واخترقت بنجاح أجواء الولايات المتحدة، وكانت هذه المغامرة قد قسمت ظهر البعير، لأن سباق الحصول على السلاح النووي يوشك أن ينتهي، وقد يؤدي إلى نتيجة لا تحمد عقباها، فماذا لو سبقت المانيا أو اليابان أميركا في إنتاج السلاح النووي، الجواب معروف، ستحمل القاذفات هذا السلاح الجبار ليلقى على عاصمة أميركا إن لم يكن على كل ولاياتها فيتحول اسمها إلى شيء آخر.
فتم لأميركا السبق وتم لها استعمال النووي بلا تردد من المنتج والى المستهلك مباشرة وبدون إضاعة ثانية واحدة، لأن العدو كان يسير في نفس الخطى، وكان سيفعل نفس الشيء.
وكان الصراع ما بين حكومة الولايات المتحدة وشعب الولايات المتحدة الذي كان يمدُّ آتون الحرب بالرجال والمال والعتاد ويساعد اقتصاد الدول الحليفة الذي انهار على عرائشه، خاصة وأن بعض دول الحلفاء كفرنسا مثلاً فقدت الاستقلال الوطني.
وكانت حكومة الولايات المتحدة تراهن على شعبها المشارك في السباق المحموم والمروع، وربحت بعد أن ربحت شعبها فأربحها السلاح النووي وربحت الحرب.
وجاءت الضربة النووية لتقسم ظهر ألمانيا ولتحيٍّد اليابان أقوى حلفائها، وتم بعد ذلك تحرير كل أوروبا وتم مساعدة السوفيات عن طريق تخفيف الضغط عن الجبهة الشرقية وتم تقديم مساعدات لا يستهان بها فجاء السيل السوفياتي الجارف باتجاه برلين.
وجاء اليوم الذي بدأت فيه الولايات المتحدة تفقد شرفها في سوق الدعارة العالمي، فتخلت عن مبادئها وقيمها وقلبت ظهر المجنْ للجميع إلاّ للذي تربطه علاقة الهيام بربيبتها، في السر أو في العلن، ووقعتْ في التخبط وتحول ساستها إلى سوق التبريرات يبحثون فيه عما يستر عوراتهم، وأرسلوا عملائهم لشراء كافة المكاييل لأن سياسة الكيل بمكيالين لم تعد كافية وتبين أن لها آثار صحية ضارة، فكان لا بد من الكيل بألف مكيال واستمروا بشراء المكاييل وتفصيلها حسب هواهم حتى فرغت المكاييل من الأسواق، فجاءت تلك الضربة التي أفقدت الولايات المتحدة توازنها وحولتها إلى سكير مترنح أفرغ في جوفه كل كحول الدنيا في يوم واحد تاريخه معروف.
أما هذه الصور الأربعة فلقد أحببتها عدا الأخيرة التي تقدم مثالاً حياً لأشد درجات الاستهانة بالروح البشرية، فأنا لا اؤيد القتل ولا أحب الدمار، ولا يخفى على أحد الجهة التي تتربع على عرش الاستهانة بالروح البشرية، والتي هي بلا أدنى شك، الجهة الفاعلة.
أحببتها لأن الأولى والتي تتحدث عن حفظ حقوق المواطن فيما يتعلق بمبلغ بسيط لا يتجاوز الـ 40 سنت، تذكرني بفاتورة الكهرباء التي تجيء بمبلغ 300 ليرة سورية مفسحة المجال للفاتورة التالية التي تجيء بمبلغ 7000 ليرة سورية، دون أن يتمكن أحد من حفظ حقي، خاصة وان اللعبة معروفة وهي ضغط الاستهلاك في الفاتورة الأولى وبسطه في الفاتورة الثانية ليتم محاسبتي تصاعدياً وليتم كتحصيل حاصل إلصاق تهمة مبدد الثروة الوطنية بي وهي تهمة مؤلمة تفوق كل الآلام التي تسببها الفواتير التصاعدية مجتمعة.
أما اللوحة الثانية التي تتحدث عن الرسالة التي تمزقت في جهاز فرز الرسائل الآلي فتذكرني بأمر حدث لي في العام 1987 وهو الآتي:
تلقيت طلب زيارة من أقربائي الذين يقطنون في جمهورية أرمينيا السوفياتية، فسألت نفسي إن كنت في حلم أم في علم خاصة وأنني لم يسبق لي رؤية أحد منهم وهم يقبعون خلف ستار دولة الستار الحديدي، وكالطير الطائر أنجزت الأوراق المطلوبة وتعهدت بالإنفاق على ضيوفي ورعايتهم خلال زيارتهم و أرسلت الأوراق إلى يريفان عاصمة أرمينيا السوفياتية آنذاك حيث يقطن أقربائي( أحفاد عم والدي)، وكانت غلطة موظف في وزارة الخارجية عندنا أدت إلى  تطيير الأوراق مع الطيور المهاجرة صوب موسكو العاصمة الأم لعموم جمهوريات الاتحاد السوفياتي، وكان على ضيوفي السفر إلى موسكو لمتابعة المعاملة من هناك، فاستنكف البعض وأصرت ابنة عمي وزوجها على الحضور وتحملت مشاق السفر إلى موسكو المرة تلو الأخرى حتى حظيت وزوجها بالموافقة، وتم الاتفاق فيما بيننا على إرسال برقية إلى دمشق نعرف من خلالها موعد السفر فنذهب أنا واخوتي إلى مطار حلب الدولي لاستقبال ضيوفنا على أن نسافر إلى حلب قبل موعد وصول الطائرة بيوم واحد، وانتظرنا البرقية بفارغ الصبر بلا جدوى، إلى أن رن جرس الهاتف في منزل أهلي وتبين انه في الطرف الثاني ابنة عمي وتتحدث من مطار حلب وقد تاهت وزوجها في المطار وهي غريبة الوجه واللسان وقلت لها: ابحثي عن أي أرمني دمشقي متواجد في المطار و اطلبي منه أن يحدثني، فذهبت وعادت وتحدثت مع الرجل فتبين أنه كان يعمل في معمل أبي قبل أن يمتهن مهنة أخرى، فسألته عن سبب تواجده في مطار حلب الدولي فقال لي أنا والعائلة ننتظر زوجة أخي وهي من أرمينيا وقد وصلت على نفس الطائرة مع أقرباؤكم قلت له: كم تكلف سيارة التكسي سكارسة من حلب إلى كراجات تكسي العباسيين في دمشق قال 700 ليرة سورية، قلت له أرجو تأمين سيارة لضيوفي وأرجو أن تدفع المبلغ أنت وسأكون في صباح الغد في محلك لأداء الأمانة.
وكان ذلك وخرجنا بثلاثة سيارات لاستقبال الضيوف فتبين انهما اثنين فقط حيث لم يحتمل البقية مشاق السفر إلى موسكو لمتابعة المعاملة  وكان موظف الخارجية لدينا قد أسدى لهم خدمة العمر عن طريق تحويل معاملاتهم إلى موسكو بجرة قلم.
واستلمت ضيوفي في كراج العباسيين ووصلنا إلى منزل أهلي في العباسيين وبعد مضي ثلاثة أيام على الترحيب والتهليل والتأهيل والتسهيل والأفراح الملاح، قرع الجرس في منزل أهلي وكان ساعي البريد بالباب وبيده البرقية الموعودة وقد كتب عليها بخط إنكليزي أنيق ما ترجمته: تصل ليد السيد آرا  سوفاليان كورنيش العباسيين شارع الناصرة بناء المالح رقم 7 المنزل رقم 8 الهاتف رقم 44028 الجمهورية العربية السورية دمشق.
وقد تم تحويل البرقية إلى جوبر لجهالة العنوان، فتم التأشير عليها من قبل وزير البريد في  جوبر بما يفيد بأنه: تعاد إلى المصدر لعدم العائدية، فتم إرسالها إلى زملكا فمهرها وزير البريد في زملكا بوشاحه الرسمي وخط بأنامله بما يفيد بجهالة العنوان وأعادها إلى المركز الرئيسي للبريد والكائن في دمشق منطقة الحجاز حيث تولى اينشتاين المركز هناك فك الطلاسم الإنكليزية المسجلة على البرقية، وخط بأنامله وريشته الذهبية ما يلي: (العباسيين جنوب الملعب أول فني سوكة).
وكانت سعادتي بوصول البرقية تفوق سعادة أهلي بمئات المرات لدرجة أني دفعت للرجل  الذي كان يحدق بي ويفرك يديه ويرفض الابتعاد عن باب دار أهلي قيد أنملة خمسون ليرة سورية احتفاءً بهذه المناسبة العظيمة وكان الدولار يعادل ثمانية ليرات سورية وقتذاك وبحسبة بسيطة نستنتج بأني دفعت رشوة، عفواً إكرامية لعمل لا قيمة له وصل بعد ثلاثة أيام من التاريخ الذي يفترض وصوله فيه ليكون مؤثراً، وهذا يعادل اليوم 312.5 ليرة سورية.
ودخلت أزف الخبر لضيوفي وفتحت البرقية ووقفت على الطاولة وقرأت نص البرقية وصفق لي الجميع وكالعادة المتبعة في عموم الاتحاد السوفياتي فلقد شربت وضيوفي نخب البرقية.
ولم أكن على معرفة مسبقة مع المدعو جيمس إل هاريس  مدير قسم توزيع البريد في لوس أنجلوس  مما أوجب عدم دعوته لحضور هذا الاحتفال.
الصورة الثالثة: المتعلقة بضمان حقوق المواطن والمحافظة على أمواله وإعادة الجزء المقتطع غبناً من الضريبة التي تم جبايتها من جيبه فهي تذكرني بالحادثة التالية:
في شتاء العام 1985 عدت من اسبانيا وقد كنت في رحلة عمل، فطالبني شقيقي الأصغر وهو الآن في كندا، طالبني بأداء مبلغ 35000 ليرة سورية قال انه دفعهم بالتكافل مع أخي الأوسط بالنيابة عني، فقلت له: خرجت من سوريا وذمتي غير مشغولة تجاه أيٍّ كان بقرش واحد فقال: أعرف ذلك أعرف ذلك ولكن ذمتك أصبحت الآن مشغولة بما يعادل الأربعة آلاف وثلاثمائة وخمس وسبعون دولار أو خمس وثلاثون ألف ليرة سورية باعتبار أن سعر الدولار اليوم يقارب الثمانية ليرات سورية.
والمبلغ يمثل سلفة للدولة من أجل شراء سيارة بيك آب مازدا وهذه الإيصالات الموشحة بأختام افتوماشين تشير إلى أنه تم تأدية السلفة بشيك رقم كذا حيث تم إيداع المبلغ في الحساب رقم كذا، فسألت أخي: من فوضك بشراء سيارة بالنيابة عني؟؟؟؟، فقال لي معاتباً: بدلاً من أن تشكرني!!! حرام أداء المعروف في غير أهله، قلت له: أخي الحبيب أنا لم أطلب منك أن تشتري لي سيارة أما المال الذي أحضرته معي فهو مخصص لشيء آخر وليس لشراء سيارة، فقال: هذه سلفة فقط وليست شراء فهي دفعة على الحساب.
ودفعت لأخي… وانتظرت ثمانية عشرة سنة اشتريت خلالها بيت وسيارة، وكانت مسألة البيك آب المازدا، عضة كوساية وظلت كذلك حتى عضضت كل أصابعي ندم، وأدركت أن المبلغ لم يعد مستاهل بعد مرور 18 سنة ولا بد أن تنفذ أفتوماشين وعدها بعد طول غياب، لأن تتالي الانسحابات سيقلص عدد المشتركين مما يدفع أفتوماشين إلى أن تستورد عربات الجنة وتنهي المسألة، ولكن أذن من طين وأذن من عجين، والمبالغ مجمدة وهناك من يلهط عليها فائدة قدرها 9% ونحن نتفرج، وسعر الصرف يتغير ووصل في يوم من الأيام إلى 68 ليرة سورية للدولار الواحد حين قامت الدنيا ولم تقعد، وقررت أن أنسى الموضوع مع العلم أن نفس المبلغ في العام 1984 كان يشتري بيت على العظم في جرمانا، وإذا حسبنا تغيير سعر الصرف واحتباس المبلغ 18 سنة مطبقاً عليه معدل الفائدة 9% وهو المعدل الذي تمنحه شهادات الاستثمار للمدخرين لديها مضافاً إليه الفوائد المركبة لعائدات الفوائد المحتبسة أيضاً لمدة 18 سنة لناهز المبلغ المليوني ليرة سورية، وهو المبلغ الذي اضطررت لدفعه لشراء بيتي في جرمانا بعد أن جربت الاقتراض من كافة مصارف البلد وأهمها التسليف الشعبي بفوائده المروعة والعقاري بفوائده الأقل ترويعاً ولم يرحمني أحد بقرش واحد ودفعت فوائد إلى يوم الفوائد، وجاء يوم اضطررت فيه إلى الثلاثون ألف في حاجة طبية ماسة فذهبت للبحث عن افتوماشين فوجدت موظف واحد في مكاتب مصلحة الكهرباء والترومواي ( رحم الله أيام الترومواي والسنكة والهاوس) المقابلة لسينما الكندي دون أن أدرك العلاقة ما بين الترومواي وأفتوماشين، حرر لي شيك وذهبت لاسترداد الثلاثون ألف التي تعطلت 18 سنة، ووضعتها في جيوب الغير ولم تكفني فذهبت لأبحث عن الذي استفاد من فوائد المبلغ عن طريق تشغيله 18 سنة متتالية لأقترض منه عشرة آلاف أخرى وبسعر الفائدة الذي يريد فلم أعثر عليه على الاطلاق.
ولو أن الأمر حدث لي مع جامع أموال كنت سأقول: أستاهل ما حدث لي لأن جشعي قادني إلى ما وصلت إليه … ولكن ما حدث لي حدث مع أفتوماشين ( مع العلم أن كلمة آفتو هي كلمة روسية وهي نفس الكلمة الأوروبية أوتو أي الآلية وأفتو ماشين تعني المكائن الآلية وبعبارة أصح عربات الجنة أو الكمائن البشرية الآلية).
أما الصورة الرابعة: فهي الصورة التي أجهزت على ما بقي في دماغي من خلايا لم تعد نبيلة، فأنا أعرف أن الحدث مروع وبربري وتم فيه إلقاء آلاف الأرواح قسرياً في فم عزرائيل، لأن إجبار طائرة على تغيير مسارها والاصطدام بجدار  وفي جوفها المئات من الركاب وإجبارهم جميعاً على الانتحار القسري، هو عمل بربري يشابه الأعمال البربرية الأخرى المماثلة التي نراها كل يوم على الفضائيات، وان تهدم مائتي طابق على رؤوس شاغليها وسحقهم أحياء وهم عالقين، وحرق أغلبهم بالنار وخنقهم بالدخان والغازات هو عمل بربري يشابه الأعمال البربرية الأخرى المماثلة، ولكن الانتقام من الفاعلين المفترضين كان عمل  قاسٍ جداً وغير مسبوق وسابقة خطيرة أهدرت كرامة القانون الدولي وطالت أناس لا ناقة لهم ولا جمل تم قتلهم على الشبهة وبلا إثبات وبلا محاكمة وأغلبهم لم يسمع بالبرجين ولم يرى برج في حياته ما عدى بيته الطيني الذي لم ينجو من صاروخ سواه بالأرض وحوله إلى أرض مفلوحة وصالحة للزراعة بامتياز لأنها مسمدة ببقايا جثث قاطني البيت من النساء والأطفال، وتم افتتاح غوانتانامو وتوجب حشوه بالنزلاء وعلى عجل، فتلقف السجن من جملة ما تلقف، مراسلين صحفيين لم تتح لهم الفرصة لإغلاق عدسات كاميراتهم، ومنهم مراسل الجزيرة سامي الحاج الذي لا يزال يستغرب تلك الحفاوة والسرعة الغير مسبوقين التين أوصلتاه مخفوراً وبسرعة الضوء إلى قارة أخرى دون معرفة السبب.
هذه السابقة الخطيرة في الانتقام وفي إطلاق يد الدولة العظمى المتفردة، أوقعت الأمم المتحدة في ارباكات وأجهزت على مصداقيتها.
وتم غزو العراق وقصفت عاصمة الرشيد بالمنضد وتم إبادة الجيش العراقي في الصحراء وتم إذابة دباباته بمن فيها، وتم إلقاء الصواريخ على الملاجئ فاخترقت الأسمنت المسلح طبقة تلو الأخرى وانفجرت بالناس وكانت حفلة شواء هائلة وماجنة ومروعة، وتم تدمير الجسور والأنفاق والعمارات والبيوت على رؤوس أصحابها وتم اصطناع كتل النار التي تغطي مدناً كاملة وتم ملاحقة سحبها بالسخام، وتم إحراق نخلها وقمحها وزرعها وتلويث أرضها وماؤها   بالأشعة فتسرطن أبناؤها وتشوهت الأجنة في أرحام الأمهات وحدث ضرر لا يمكن إصلاحه،ساهمت به صواريخ الكروز العابرة للقارات والتي أطلقت بمئات الكروزات من منصات بعيد أو من الحاملات في عرض البحر، وتم إلقاء ملايين الأطنان من القذائف على العراق وبقوة تدميرية خيالية لم تعرف في الحرب العالمية الثانية إذا تم استبعاد حادثتي ناغازاكي وهيروشيما، وتم التخلص من احتياطي أسلحة الحلف الأطلسي وقذائفه وقنابله وصواريخه العادية والمنضدة والموجهة بالليزر أو تلك الموجهة بالأشعة تحت الحمراء، وتم تشغيل معامل الأسلحة في الولايات المتحدة ودارت عجلة الاقتصاد لتطحن رؤوس أبناء العراق وبترولهم ونسائهم وأطفالهم وتحصد المليارات.
 ليتبين فيما بعد أن العراق خالٍ من أسلحة الدمار الشامل وأن صدام لا تعنيه قطعة زجاج في أي لوح زجاج يغطي نافذة في أي برج من أبراج العالم وعلى رأسهم أبراج الولايات المتحدة.
وتم إشعال الحرائق في أفريقيا المتعبة وفي باكستان بعد أفغانستان وفي أماكن متفرقة من العالم العربي وتم وصم دول أمضت عمرها في مكافحة الإرهاب وذاقت منه ما ذاقت تم وصمها بالإرهاب والتشجيع على الإرهاب وراعية الإرهاب ومروجة الإرهاب، طيب وهذا الذي سبق ذكره هنا هل ينضوي تحت جناح يمامات أو حمامات السلام البيضاء.
وفلسطين وحمّامات الدم وسيارات الإسعاف التي تحولت إلى عربات نقل الموتى، والطائرات التي تعربد في كافة الأجواء بما يتوافق مع الشرعية الدولية، الحربية منها أو التجسسية أو تلك الموجهة بلا طيار والتي تحمل صاروخ وحيد موجه عن بعد يصيد بدقة وبراعة، وعجلات مصانع الأسلحة تدور وتدور بلا توقف، والدبابات التي تطلق قذائفها على المدنيين والبرادات التي تمتلئ بجثث القتلى، والنساء التي تلد على الحواجز كالمنطار وفي فيء جدار التقسيم، بعد أن احتفلت أميركا بزوال جدار برلين وفرحت بالحدث أكثر من الألمان بكثير، والبيوت التي تهدمها الجرافات على رؤوس قاطنيها وعلى رؤوس الناشطين ودعاة السلام من الأجانب ، والعراق والمفخخات التي تحول سوقاً للفقراء تحوله إلى مشرحة وبرك دماء، في العراء، تفجير تلو الآخر ومفخخة إثر الأخرى وحمامات دم وثأر لا ينتهي، والقتلى بالمئات وأغلبهم مقيد ومشوه ومقطوع الرأس، وثلاثة تفجيرات أو أربعة في اليوم الواحد، ورايس في جولاتها المكوكية وبوش في زياراته المفاجئة ومؤتمرات وجلسات وسفراء نوايا طيبة ومهمات للوسطاء وخطط لتخفيض عدد القوات وخطط للخروج من مستنقع العراق الموحل، وتهم بالجملة تتعلق بتهريب السلاح وعدم ضبط الحدود، وتخبط في التهم والتراجع عنها فيما بعد، والغزل السياسي وطلب المساعدة والتعاون… وحقيقة واحدة تبقى وهي… إن التخلي عن المبادئ التي تشتمل الصور الثلاثة على جزء منها أدى الى النتيجة المتضمنة في الصورة الرابعة،
 فلقد فقدت الولايات المتحدة قيمها وأصولها ومبادئها وشرائعها وأخلاقياتها ومصداقيتها في المجتمع الدولي، فكانت النتيجة متضمنة في اللوحة الرابعة بغض النظر عن الفاعلين.
آرا  سوفاليان
بكلوريوس في الاقتصاد والتجارة فرع المحاسبة
Ara Souvalian
ara@scs-net.org
     
 

 

 

 

 


 

 

 

  
 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.