مرّت الذكرى الأليمة للنكبة دون الالتفات إليها، وكأنّ أحداً لم يحس بشدتها ولم يدرك عظم خطرها وضخامة ضررها على شعب فلسطين وعلى شعوب المنطقة بل وعلى المسلمين في العالم بأجمعه.
الذكرى الـ 2000 للنكبة
عبد الرحمن أبو العطا *
الثلاثاء 19 أيار 2009م
مرّت الذكرى الأليمة للنكبة دون الالتفات إليها، وكأنّ أحداً لم يحس بشدتها ولم يدرك عظم خطرها وضخامة ضررها على شعب فلسطين وعلى شعوب المنطقة بل وعلى المسلمين في العالم بأجمعه.
وتلهّى الناس والقادة السياسيون بالصورة دون الحقيقة وراحوا يعقدون لها المؤتمرات والندوات والاحتفالات والمهرجانات والمعارض واللافتات ويصدرون البيانات ويعلقون الملصقات ويتذاكرون الآلام والملمات على اعتبار أنّ النكبة حلّت في 15 أيار 1948م.
إنما النكبة وقعت للفلسطينيين وغيرهم من المسلمين في ليل 8-9 كانون أول/ديسمبر من عام 1917م عندما وقع الجيش العثماني في مدينة القدس تحت وطأة ضغط عسكري مزدوج للجيش البريطاني في الجناح الأيمن تشاركهم فرق فرنسية وايطالية وفي الجناح الأيسر جيش العلمانيين العرب (الثوار القوميين).
هنالك بدأت النكبة التي لا زال شعبنا يعاني من آثارها حتى الآن بل وازدادت حدتها خلال السنوات الأخيرة ؛ حيث كان الاحتلال البريطاني (الأوروبي) لفلسطين أولى حلقات غرس اليهود الصهاينة في هذه المنطقة تماما كما غرسوا لهم وكلاء يحكمون بسياستهم في كل بلد احتلوه، وإن شئت فراقب تدخل فرنسا مثلا في شئون لبنان ، والمغرب ، والجزائر وكأنها وسيط نزيه.
غير أن اليهود حظوا بثقة موكليهم ، في اعتقادي لأسباب منها:
– كون هربرت صموئيل اليهودي الصهيوني “المندوب البريطاني السامي” الأول الذي يمسك بزمام السلطة الحاكمة في فلسطين بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية.
– وانتماءهم لذات الجنس البشري (الغربي).
– وتوحدهم على بغض أهل المشرق وخاصة المسلمين فأشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.
– قلة عددهم مقارنة بالمحيط العربي والإسلامي وشعورهم الدائم بالخوف ممن حولهم.
وهذه النقطة الأخيرة طبقها أعداؤنا على بلاد المسلمين قبل الانسحاب الصوري خلال القرن الميلادي المنصرم، فاختاروا للحكم أقل العائلات عددا وأكثرها انحلالا من القيم العربية والإسلامية وأضعفها حباً لفعل الخير، ورأينا آثار ذلك واضحة في كل الكوارث التي حلت بالأمة ، فضاعت فلسطين ، ولم يجرؤ حاكم منهم على الوقوف إلى جانب ليبيا في حصارها، ولا مع السودان، ولا مع العراق ، ولا مع لبنان ، ولا مع الصومال؛ وتركوا أطفالنا يموتون لنقص الدواء و الغداء في حصار العراق القاتل، وفي حصار غزة الخانق.
ولكن اليهود ليسوا كغيرهم من الوكلاء يقبلون بأن يكونوا أداة تنفيذ فقط بل عرضوا أنفسهم كجزء من المخطط العام للسيطرة على العالم وساعدهم في ذلك مستوى الثقة بينهم وبين الأوروبيين للأسباب التي ذكرناها وغيرها.
وعلاوة على ذك فإنّ الأمور تطورت بعد الانسحاب الصوري للبريطانيين من فلسطين وإعلان إقامة دولة “إسرائيل” على أراضينا وأشلاء أجدادنا وآبائنا ، وبدأت العصابات الصهيونية بارتكاب الجرائم الفظيعة وقتل الأطفال والنساء والرجال ونجحت بمعاونة أقرانهم من الوكلاء بالدول العربية في إخراجهم من بيوتهم وأراضيهم على اعتبار أن الجيوش العربية ستعيدهم إليها في بضعة أيام.
وبدلا من الأيام مرّت 61 سنة على طردنا من ديارنا وتشتتنا في أصقاع الأرض وفي غضون ذلك وقعت مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك في قبضة “الإسرائيليين” الصهاينة وتلبسنا بالذلة والعار والهوان حتى ضاقت علينا البلاد واشتدت الكربات، وطالت المدة إلى أن تفجرت الأوضاع في العام 1987م فيما يعرف بالانتفاضة الأولى؛ وكالعادة تدخل العلمانيون ليخمدوا جذوتها ويقللوا من أثرها ويساعدوا اليهود على تجاوز ضررها فعقدوا معهم اتفاقات أوسلو وما تبعها، وعملوا في خدمتهم ولاحقوا كل من قاتلهم أو أزعجهم، ثم قامت انتفاضة الأقصى في العام 2000م، والتهبت حتى اضطر الإسرائيليون الصهاينة للانسحاب من قطاع غزة وعاونهم وكلاؤهم العلمانيون في تأمين انسحابهم وساعدوهم في الحصول على تهدئة من فصائل المقاومة الفلسطينية مرة تلو مرة.
ومن المفيد قوله هنا أنّ هذا الكيان الغريب عن المنطقة “إسرائيل” لم تستطع حتى كتابة هذه السطور أن تكون قائمة بذاتها سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا أو أمنيا أو بشريا ، فلا زالت تسعى إلى استقطاب المهاجرين والمستثمرين من الخارج ، ولا زالت تتلقى المساعدات من الدول الغربية وتعتمد على معونات من الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها وريثا طبيعيا للمملكة المتحدة.
إذن فالنكبة لم تبدأ منذ قيام دولة إسرائيل على أرضنا المغتصبة قبل نحو واحد وستين عاما ؛ وإنما حلّت بسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية ووقوع فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، وتواصلت إلى يومنا هذا بعد أن تعاهد الغرب على حمايتها ومساندتها ودعمها ومساعدتها وهذا مما لا يخفونه.
وبناء على ما سبق فإنّ تحرير فلسطين والعودة إلى الديار سيبقى أملا متعذر التحقق في ظل تشخيص غير واقعي للأمور، وانصراف بالأفكار بعيدا عن الحقيقة التي تتلخص في أنّ “إسرائيل” مشروع مدعوم من الغرب كافة، ويساندهم العلمانيون العرب وأصحاب المصالح الخاصة الذين يسيطرون على الحكم بالدول العربية والإسلامية في استدامته وبقائه.
وإن شئتم فانظروا إلى قوات الأمن في بلداننا الممتدة من المحيط إلى الخليج كيف تدقق في وجهة الأموال المرسلة إلى فلسطين بالذات وماذا تفعل بمن ثبت أنه يموّل المقاتلين ؟ و لنسأل أنفسنا من الذي يحاصر غزة، ومن الذي حاصر العراق وليبيا ويضيق على السودان وأدار ظهره للبنان ؟.
وانظروا إلى محمود عباس وجنوده بالضفة الغربية ؛ في كل يوم يقتحمون بلدة أو مدينة ويداهمون المؤسسات ويسرقون محتوياتها ويغلقونها ويأسرون مقاومين ويعذبونهم وكذلك يقتلونهم ويقمعون الاحتجاجات، وفي المقابل يظهرون الرحمة والشفقة إذا ما ضل مستوطن يهودي أو جندي إسرائيلي الطريق فتراهم في أجمل صور العطف والحنو يوفرون له الأمان والحماية.
وإنني لأعجب أشد الأعجب من بعض الحركات الإسلامية التي تظن في هؤلاء خيرا وقد أبدوا ما يخفون في صدورهم وأعلنوه إعلانا، واتضح بما لا ريب فيه أنهم يعملون لحساب جهات معادية ويلتقون بزعماء العدو بتل أبيب وواشنطن في وضح النهار ويحصلون منهم على الدعم السياسي والمادي والعسكري بشكل ظاهر لكل صاحب بصيرة.
يا أهلي في فلسطين الحبيبة ، ويا أمتي المسلمة الغالية ؛ إن الأمور صعبة شديدة التعقيد، ولكنها سهلة هينة إذا توفرت لها أسباب الحل:
– اعتماد السياسة الشرعية القائمة على العقائد الصحيحة بدلا من التيه في مسالك السياسة بالمفهوم الديمقراطي الغربي المبنية على الكذب والخداع.
– تغيير مصادر تلقي المعلومات لثبوت كذبها بسبب جبنها عن قول الحقيقة : ( العلماء ، والمدارس ، والأدباء ، والمفكرون ، والأحزاب السياسية ، ووسائل الإعلام، والإنترنت ).
– التوقف عن تضليل الناس ووضعهم أمام الحقائق لمواجهتها وجها لوجه.
– تغيير الأنظمة القائمة في الدول العربية والإسلامية بالقوة فقد فشلت الديمقراطية والانتخابات فشلا ذريعاً.
– تغيير مناهج التعليم العاجزة عن تعليم أبنائنا ما يلزم لعيش الحياة، وإدراك الواقع، وعبادة الخالق وتنشئتهم التنشئة الصالحة.
– التأهب لخوض المعارك التاريخية الفاصلة مع الغرب لأنه لن يسمح لنا باستعادة حقوقنا كاملة في ديارنا وإعادة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم.
و بإيجاز شديد نحن بحاجة إلى التخلص من رواسب الاحتلال الغربي بهدم المجتمعات القائمة على الأساس الذي وضعته دول الاحتلال ، و إعادة بنائها من جديد على أسس صحيحة لاستعادة النموذج الحضاري الفريد الذي بناه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
والاتجاه الصحيح لتنشيط النكبة في الذاكرة هو تعليم الناس دينهم وإبعاد المفسدين عن مواضع صنع القرار والتخلص من الفراغ الفكري والأخلاقي الذي يعاني منه الناس والكف عن التقارب مع دول الغرب التي لا زالت جيوشها تسفك دماءنا في كل مكان وتحاصرنا وتجوع أطفالنا وتمنع عنهم الغذاء والدواء في أكثر من بلد، والإعداد للمعركة التي لا بد منها من أجل استعادة حقوقنا ومقدساتنا.
وإن السير في الاتجاه المعاكس (الوضع الحالي) لا طائل منه ولا يعدو كونه مضيعة للوقت مهدرة للمال مهلكة للنفس مجهلة للناس ، وسنصل إلى الذكرى الـ 2000 للنكبة بلا شك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وصحفي