لن يكون المقصود بالنص الأدبي رسالةً حتى يكون مركبا ذا عناصر مختلفة مؤتلفة، وتلك هي صفة البُنْيانيَّة التي يتصف بها كُلُّ عمل مُتْقَن يعمله الإنسان، فيخرج مطبوعا بطابع بنيانه الإنساني نفسه، ذي الأجهزة المتفاصلة باختصاص كل منها بعمله، المتواصلة بتكامل هذه الأعمال.
وعناصر مركب هذه الرسالة ثلاثة أنواع:
1 مُشْكِلَة (مُعْضِلَة، أو مُصيبة)، هي لُبُّ المُرَكَّب، تُلِمُّ بالأديب، فيَحْتَفِز بها، وينْشَط لها، على حين يظل الناس مختلفين فيها.
2 دَعْوى (رَأْي، أو فَيْصل)، هي شِعارُ لُبِّ المُرَكَّب (الشِّعار ما وَلِيَ الجِسْمَ من الملابس)، يُفْلِتُ فيها الأديب من ضيق الأَزْمَة إلى سعة الفَرَج، بما تُفَتِّقُه حيلتُه.
3 دَليل (حُجَّة، أو بُرْهان)، هو دِثارُ لُبِّ المُرَكَّب (الدِّثار ما وَلِيَ الشِّعارَ من الملابس)، يرى فيه الأديب مِثالًا صادق التَّمَثُّل والامْتِثال، بما يُفَتِّقُه نِظامُ حياته.
وكأنما انتبه إلى شيء من ذلك زهير بن أبي سلمى بقوله:
فَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْجِلَاءُ
إن الدعوى بمنزلة اليمين؛ فإن مدعيها يذكر ما يراه هو لا غيره، كما يقسم المقسم على ما يراه هو لا غيره. وإن المشكلة بمنزلة النِّفار؛ فهي موطن اختلاف أَيْ تَنافُرٍ يحتاج إلى أن يشهده حَكَمٌ عَدْلٌ. وإن الدليل بمنزلة الجِلاء؛ إذ يتخير المُسْتَدِلُّ ما يتجلى به رأيه.
ولقد وجدت فلاسفتنا القدماء يميزون في “أمر هذه النفس وقواها”، ثلاث القوى الآتية، بعضها من بعض:
1 التي أستخلص أنها القوة المُتَفَكِّرة، وموطنها عندهم الدماغ، و”بِها يَكونُ الْفِكْرُ وَالتَّمْييزُ وَالنَّظَرُ في حَقائِقِ الْأُمورِ”. ولا أرتاب في أن استشكال المشكلات إنما هو من مظاهر التَّفَكُّر!
2 التي أستخلص أنها القوة المُتَرَفِّعَة، وموطنها عندهم القلب، و”بِها يَكونُ الْغَضَبُ وَالنَّجْدَةُ وَالْإِقْدامُ عَلى الْأَهْوالِ وَالشَّوْقُ إِلى التَّسَلُّطِ وَالتَّرَفُّعُ وَضُروبُ الْكَراماتِ”. ولا أرتاب في أن ادعاء الدعاوى إنما هو من مظاهر التَّرَفُّع!
3 التي أستخلص أنها القوة المُتَشَهِّيَة، وموطنها الكبد، و”بِها تَكونُ الشَّهْوَةُ وَطَلَبُ الْغِذاءِ وَالشَّوْقُ إِلى الْمَلاذِّ الَّتي في الْمآكِلِ وَالْمَشارِبِ وَالْمَناكِحِ وَضُروبُ اللَّذّاتِ الْحِسّيَّةِ”. ولا أرتاب في أن الاستدلال إنما هو من مظاهر التَّشَهّي!
وعلى رغم ارتيابي فيما جعله علماؤنا القدماء مواطن تلك القوى، لا ينقضي عَجَبي مِنْ سَداد تَنْويعِهم أنواعها المتكاملة في النفس الواحدة تكامل مقاطع الحق في بيت زهير، وعلى وفق هذا التكامل تتكامل أنواع عناصر مركب الرسالة الثلاثة التي لا يستغني عنها جميعا معا كلُّ نص أدبي مُتْقَن؛ وما اقتصر عرضُ آثار ظاهرة النص القصير الأحد عشر السابقة، على أمثلة من المثلثة الشعرية -وهي “نَصٌّ شِعْرِيٌّ عَمُودِيٌّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ بِثَلَاثِ فِكَرٍ مُتَجَادِلَةٍ وَعُنْوَانٍ طَارِئٍ مُفْرَدٍ مُنَكَّرٍ”- إلا لتكافئ بثلاثة أبياتها ثلاثةَ الأنواع المطلوبة، فيَسْتَقِلّ بالبيت منها التعبيرُ عن المشكلة أو الدعوى أو الدليل، ويتكفل اشتراكها في تكوين مركب الرسالة باتصالها في أثناء استقلالها.
السابق بوست