كنت أشاهد حلقة عن “تفاسير الألوسي” .. فأعادني كلام ذكره مقدمها – جزاه الله خيرا – إلى عبارة سمعتها قديما من أحد الإخوة ..الدكاترة .. قال أنه كان يرغب في إعداد دراسة عن أحد علماء السلف .. لكنه توقف عند نقطة معينة ..مفادها أنه سيطلب منه التنقيب عن “عقيدة”ذلك الشيخ! فصرف النظر عن الموضوع .. تحرجا.
تذكرت ذلك الكلام وأنا أستمع إلى مقدم الحلقة المشار إليها وهو يقول :
(منهجه في العقيدة من خلال تفسيره : الألوسي رحمه الله كان من أسرة علمية مشهورة من أهل السنة وكانت مشهورة باتباع السلف وهذا الغالب على علماء هذه الأسرة أما الشيخ محمود الألوسي صاحب التفسير فقد كان ينسب نفسه إلى السلف ويختار مذهبهم في بعض المواضع ويختار مذهب الاشاعرة في بعض المواضع بل وينقل كلام شيخهم الرازي من تفسيره بحروفه مقرا له ويتردد بين هذا وذاك في بعض المواضع كما يُعنى كثيرا بكلام الصوفية ويبالغ في مديحهم كثيرا حتى عدهم بعضهم من أهل التصوف وعد تفسيره من تفاسير الصوفية .. لذلك فالحكم على معتقده من خلال التفسير فيه صعوبة والأولى تتبع كلامه في بقية كتبه حتى تتضح هذه المسألة وهو يرد على المعتزلة ويرد على الباطنية في كثير من الآيات التي يحرفونها عن وجهها ..){ الدقيقة 18}.
السؤال الذي قفز إلى ذهني :
هل نحن في محكمة تفتيش ..عن العقائد؟
وهنا لابد من التفريق – تفريقا صارما – بين نقاش رأي أورده هذا المفسر أو ذاك .. وبين التفتيش عن عقيدته بصفتها غاية في حد ذاتها .. مناقشة رأي ما .. أمر لا غبار عليه .. ولكن أن يكون الباحث “مسكونا” بالبحث عن “عقيدة”مؤلف ما .. من أجل تصنيفه .. فهذا يشبه “محاكم التفتيش”
فالألوسي – مثلا – رجل من أهل السنة .. ومن أسرة سنية .. ويصرح بذلك .. ومع هذا .. تم التفتيش عن عقيدته .. فظهر أنه”سلفي”حينا .. ينقل عن”الرازي” – الأشعري- ويوافقه في بعض آرائه .. بل ويمدح “الصوفية” .. أحيانا!! والحل – كما قال الشيخ – البحث عن”عقيدته”في مصدر آخر!!
لا أشك في أن أول ما قد يخطر على بال من يقرأ هذه الأسطر هو التساؤل عن”عقيدتي”!!
والحقيقة أنني”متطرف” في مسألة صفاة الله سبحانه وتعالى .. فكل ما لم يتحدث عنه سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجاء في القرآن الكريم أو السنة المطهرة .. فأثبته . . ولا أخوض فيه .. إلا إذ أطلعني أحد على حديث يقول أنني سوف أسأل في قبري .. عن معنى”الاستواء” .. و”الوجه” إلخ. فما تركه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دون أن يستفيض فيه .. فتركه أولى .. وإن أتى من يقول بأهمية أمر تركه المبلغ عن الله – سبحانه وتعالى – فــ!!!
قبل نقل نص عن شيخ الإسلام”ابن تيمية” – رحم الله والديّ ورحمه – أؤكد أن الأمر هنا لا علاقة له بالتكفير .. وموضع الشاهد : الأمور التي لم يجر الحديث عنها في زمنه صلى الله عليه وسلم.
قال الدكتور محمد عمارة،رحم الله والديّ ورحمه :
(لقد كتب ابن تيمية في رفض المسارعة إلى التكفير كلاما نفيسا عرض فيه لمذهبه ولمذاهب أئمة أهل السنة والجماعة. قال فيه :
(“والذي نختاره ألا نكفر أحدا من أهل القبلة والدليل عليه أن نقول :
إن المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل : أن الله تعالى هل هو عالم بالعلم أو بالذات؟ وأنه تعالى هل هو موجود لأفعال العباد أم لا؟ وأنه هو متحيز ؟ وهل هو في مكان وجهة؟ وهو هو مرئي أم لا؟ لا تخلو”هذه المسائل”إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف والأول باطل إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين لكان الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها فلما لم يطالبهم بهذه المسائل بل ما جرى حديث عن هذه المسائل في زمانه عليه السلام ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول وإذا كان كذلك لم يكن الخطأ في هذه المسائل قادحا في حقيقة الإسلام وذلك يقتضي الامتناع عن تكفير أهل القبلة”..
وبعد أن أثبت ابن تيمية بالمنطق العقلي أن المسائل التي اختلف فيها المسلمون لا تمس حقيقة الإسلام .. ومن ثم فلا تكفير لفرقاء الخلاف فيها .. (..) هكذا أعلن ابن تيمية في كتابه”بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول”رفضه تكفير أحد من الذين يشهدون أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله.. ){ نقلا عن :{https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=112935} }.
مرة أخرى أؤكد أن الأمر لا علاقة له بالتكفير .. وموضع الشاهد : الأمور التي لم يجر الحديث عنها في زمنه صلى الله عليه وسلم.
رحم الله والديّ ورحم الإمام جلال الدين السيوطي،فقد اختلف مع شيخه جلال الدين المحلي،وهو يكمل تفسير”الجلالين”،في بعض المواضع،ومنها كما يقول الدكتور عبد الرحمن الشهري،تفسير”الروح” :
(في سورة “ص”قال المحلي :”والروح جسم لطيف يحيى به الإنسان بنفوذه فيه” فعرف الروح.قال: هي جسم لطيف يحيى به الإنسان بنفوذه فيه”.قال السيوطي :”وكنت تبعته أولا فلما ذكرت هذا الحد في سورة الحجر،ثم ضربت عليه لقوله تعالى”ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي”.قال : “فهي صريحة أو كالصريحة في أن الروح من علم الله تعالى لا نعلمه.فالإمساك عن تعريفها أولى،ولذا قال الشيخ تاج الدين السبكي في”جمع الجوامع” :” والروح لم يتكلم عليها محمد صلى الله عليه وسلم فنمسك عنها”){ الحلقة رقم”34″ من برنامج أهل التفسير }.
” والروح لم يتكلم عليها محمد صلى الله عليه وسلم فنمسك عنها”.. فهلا أمسكنا عن كل ما لم يتكلم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وإذا تكلمنا فيه .. فهلا أمسكنا عن تبديع من خالفنا في فهم ما لم يتكلم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وهنا أذكِّر بالرأي القائل أن الرد على الفلاسفة هو الذي جعل بعض علماء المسلمين يغوصون في علم الكلام .. أو في الفلسفة من أجل الرد على ألئك بنفس منطقهم ..وهذا لا إشكال فيه .. بل جزاهم الله خيرا .. لكن الإشكال حين تم نقل تلك “الفلسفات” من هدف محدد .. وغاية محددة ..إلى عقائد المسلمين .. بشكل عام .. فتولد عن ذلك مشاحنات .. وتحزبات لا تنتهي .. إلخ
وأسأل نفسي .. حين أقرأ رد سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين سئل عن الفرقة الناجية؟
فقال صلى الله عليه وسلم :
(من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)أو كما قال صلى الله عليه وسلم… أسأل نفسي .. عندما أناقش، من صفاة الله سبحانه وتعالى ،ما لم يتعرض له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا تعرض له أصحابه – رضي الله عنهم – هل أنا على ما كانوا عليه؟
رزقنا الله – سبحانه وتعالى – التمسك بما كان عليه سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام رضي الله عنهم جميعا.. وجمعنا معهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. سبحانه وتعالى.
بقيت بعض التأملات .. أرجو أن تكون النية فيها خالصة لوجهه الكريم ..
أولا : لا زالت كلمات أستاذ العقيدة – في المعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية – ترن في أذني .. وهو يتحدث عن كون ربنا سبحانه وتعالى له”يد” .. ويشرح بأن الإنسان له”يد” والأسد له”يد” .. ولا علاقة بين بين”يد”هناو”يد”هناك .. إلخ.
تأمل : أفترض أنني سالت أحد تلاميذ مدرسنا ذلك – رحم الله والديّ ورحمه – هل تملك دليلا من المعصوم – صلى الله عليه وسلم – أن”اليد”تعني الجارحة .. وإن بما يليق بالخالق جل وعلا .. ويفوق قدرة البشر على التصور ؟
لا أعتقد أنه سيرد على سؤالي بحديث ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ولو سألت “الآخر” :
هل تملك دليلا من المعصوم – صلى الله عليه وسلم – أن “اليد” تعني”القدرة”؟
لا أعتقد أنه سيرد على سؤالي بحديث ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
هذا سيقودنا إلى “بني قريظة” !!
أقصد حديث :”لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة” أو كما قال صلى الله عليه وسلم .. وكيف فهمت طائفة من الصحابة الكرام – بعد أن دخل وقت الصلاة – أن أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المقصود منه العجلة .. لا تضييع الوقت .. فأدوا الصلاة في وقتها .. بينما فهمت طائفة أخرى الأمر “حرفيا” فلم يصلو إلا في بني قريظة . . وسكت – صلى الله عليه وسلم – على فعل الطائفتين.
لن نخوض في الكلام حول استدلال البعض بهذا الحديث بأن الحق يتعدد .. ورد آخرين بأن الواقعة أجازت الاجتهاد .. ولم تنص على تصويب فعل أحد الفريقين .. “غاية الأمر أنه لم ينكر على أحد منهم” كما يقول الشيخ عبد الرحمن البراك .. والذي يقول :
(لهذا انقسم أهل العلم بعدهم : من المصيب؟ لأنه مع اختلاف الحكم الشرعي لابد أن يكون هناك واحد مصيب وواحد مخطئ،ولهذا قال :”إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،وإن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ”فيوجد صواب ويوجد خطأ،فليس كل مجتهد مصيب لكن كل مجتهد مأجور).
في غير موقف التأمل هذا كنتُ سوف أسأل : هل يسكت المعصوم – صلى الله عليه وسلم – على الخطأ؟ أما قياس ما حصل من الصحابة – رضي الله عنهم – مع وجود المعصوم – صلى الله عليه وسلم – على ما جد بعد ذلك فأمر يبدو مختلفا عن الحديث المُستدل به .. بعد خلوي الأرض من المعصوم صلى الله عليه وسلم.. والله أعلم.
لكنني هنا أسأل – فقط – اتكاء على سكوت المعصوم – صلى الله عليه وسلم – عن”فهم”الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – لأمره الشريف .. ألا يفتح ذلك لنا نافذة .. نحن الموحدين .. ليعذر بعضنا بعضا؟ ويرى كل واحد من الفريقين أنه على صواب من جهة اجتهاده . . وأن أخاه الموحد .. قد يكون على صواب هو أيضا .. بناء على اجتهاده .. ونتذكر القول المنسوب للإمام “الشافعي”- رحم الله والديّ ورحمه – : الشائع قولا والمعطل فعلا .. في الغالب بطبيعة الحال!أعني قوله :
(راينا صواب يحتمل الخطأ .. ورأين غيرنا خطأ يحتمل الصواب) .. قطعا هذا عند غياب “نص”من المعصوم – صلى الله عليه وسلم – يحسم الأمر .. مثل الحالة التي نتحدث عنها.
ثانيا : هل تخاتلنا اللغة .. حين تتعلق مفردة ما بالخالق سبحانه وتعالى؟
حين نتكلم عن”الحادث” .. عن “الإنسان” .. نقول أن حمل هذه “الصخرة” – مثلا – مستحيل على الضعيف .. ثقيل على متسوط القوة .. هين على القوي .. أهون على من هو أقوى منه ..
فماذا عن الخالق سبحانه وتعالى ..والذي أمره بين الكاف والنون حين يقول في آية كريمة :
“قال كذلك قال ربك هو علي هين” مريم 21
وماذا عن”أهون”في حقه سبحانه وتعالى .. في الآية الكريمة :
“وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض”: الروم 27
نعم”وله المثل الأعلى” سبحانه وتعالى.
وكما جاء في أحد التفاسير الحديثة :
(ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق السماء والأرض،يتحدثون عن القبلية والبعدية. ويتحثدون عن الاستواء والتسوية.. وينسون أن”قبل وبعد”اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى:وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود .. ولا يزيدان . .)
وعندما يقول “بشر” .. عن “بشر” .. “إنه ربي أحسن مثاوي”يوسف 23
والقائل هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم .. يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم – عليهم وعلى نبينا السلام – .. ثم يقول في نفس السورة “رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث..” يوسف 101
فهل تخاتلنا اللغة؟!!
ثالثا : لا جدال في مسألة”الولاء والبراء” .. ومع ذلك فثمة وقائع تستحق منا التأمل .. فسيدنا عبد الله – رضي الله عنه – بن عبد الله بن أبي بن سلول .. يعرض على الحبيب – صلى الله عليه وسلم – أن يتولى هو قتل والده .. خشيت أن يرى قاتل أبيه .. فيقتله .. فيكون قد قتل مسلما بكافر .. فيدخله الله النار .. فيكون رد الحبيب – صلى الله عليه وسلم – الرؤوف بأمته : (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا) .. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
هذا صحابي تصل عاطفته نحو أبيه الكافر .. أنه قد يقتل به مسلما .. فيكون رد الحبيب – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي علمنا الولاء والبراء .. بهذا اللطف ..
وعن أسرى بدر .. قال صلى الله عليه وسلم :
(لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) رواه البخاري.
وفي صحيح البخاري أيضا :
“مرّ بنا جِنازة،فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا،فقلنا : يا رسول الله إنها جِنازة يهودي،قال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا”
كأن الإسلام يريدنا أن نكون”صارمين” .. ولكن لسنا”متشنجين”
وختاما .. أكثر من مرة يقول الدكتور أحمد محمد عبد الرحمن عبودَ .. عند الحديث عن “السلف”و”الأشاعرة”وموقفهم من الصفات .. أن غاية الجميع في النهاية “تنزيه”الله تعالى.
لو فهمنا الأمر على هذا التصور الحسن .. المبني على حسن الظن في الموحدين .. لو كان ذلك لخف كثير من الاحتقان بين المسلمين.
وبعد .. إن أحسنت فمن الله .. والحمد لله. وإن أسأتُ من نفسي والشيطان . . وأستغفر الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني : طيبة الطيبة في 15 شوال 1441هـ = 7 يونيه 2020م.