www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

من تحت الرماد/بقلم أ . تحسين يحيى أبو عاصي

0

تزلزلت الأرض من تحت الأقدام ، في ظلمة الليل الدامس ، وفي دياجيب النفق الأسود ، بحيث لا نور فيه ولا ضياء ، ولا ظلال ولا أمان . وتعانقت الزلازل مع ظلمة الليل المرعبة ، وهي تصافح عنفوان بركان ينفخ بزفير نيرانه حمما لا تبقي ولا تذر .

 

من تحت الرماد
بقلم أ . تحسين يحيى أبو عاصي – غزة – فلسطين –
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
تزلزلت الأرض من تحت الأقدام ، في ظلمة الليل الدامس ، وفي دياجيب النفق الأسود ، بحيث لا نور فيه ولا ضياء ، ولا ظلال ولا أمان .
 
وتعانقت الزلازل مع ظلمة الليل المرعبة ، وهي تصافح عنفوان بركان ينفخ بزفير نيرانه حمما لا تبقي ولا تذر .
 
وتآلفت مجتمعة كل جيوش الأرض ، متعددة الجنسيات ، في رسوم وألوان وأشكال ، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبلها العذاب ، تحت مسميات وشعارات مختلفة ، من الحرية والديمقراطية والعولمة والحداثة ، رسوم وصور من الهمِّ والجوع والخوف ، والقلق والضعف والفقر، والقهر والمرارة والألم ، والحرمان والبطش والظلم ، والقتل والتنكيل والتعذيب ، والإبادة والتشريد والضياع ، ومفردات أخرى لا تفي بحق المعاني الرازحة من خلف بحور المعاناة ومحيطات الأفكار ، فكلمة نار مثلا هي مبنى من ثلاثة أحرف ، ولكن معناها أعظم بكثير من مبناها ، فمتى يدرك الإنسان أن المعاني أعظم كثيرا من المباني ؟   
 
اتحدت جميعها وتعاهدت ، أن يكون صدره مسكنا لها ، فلا ينظر للحياة إلا من ثقب الإبرة ، إن أبقوا له ثقبا يتنفس منه ، أطبقت حصارها من كل مكان ، ليس فقط على صدره ، بل حاولت أيضا أن تُطبق على عقله ومفاصل عظامه وخلايا جسده النحيف ، إطباقة كأنها نار تدب وتشتعل في الهشيم ؛ فتأجج لهيبها وهجا واحتراقا بين ضلوعه ، لكنه لا يئن ولا يكل ولا يمل .
 
إنها الغابة ، وجودا وشريعة ، ونظرية وحقيقة ، مترامية الأطراف ، ومن حولها الصحراء القاحلة ، خالية من كل مظاهر الحياة ، إلا حياة البراري والهضاب والوديان والقفار الموحشة .
 
قلبه منكسر مقهور ، يحترق بمرارة وألم ، في وحدة وغربة ووحشة ، ولكن في أودية شرايينه كل معاني الرفض والعزّة والإباء ، رغم عوامل القتل ، وظروف الإعدام ، ومسببات الموت ، ورغم جحافل القهر ، وجيوش الذل ، وأبواق الكفر ، ورغم سياط الظلم ، وثقل البطش ، وفتك الجوع ، ورغم مرارة الواقع ، وشظف العيش ، وألم الجوى ، فقد تململ من تحت الأنقاض بعد أن انقضّت عليه السماوات و الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن .
نهض من تحت الركام وهو يقول : لا إله إلا الله .
قام منتفضا صارخا بأعلى صوته ، لا… لن أركع إلا لله .
كان رجلا ليس كمثل الرجال ، بعد أن تنكر له أشباه الرجال ، كان صلبا فذا ، قويا في إرادته ، طموحا في تفكيره ، رغم جراح قلبه وآلام روحه ، والتي لا يطببها دواء ولا مداوي ، ولكنه يملك قلبا رقيقا ليس كمثل القلوب ، يتأثر كثيرا بكل دمعة طفل أو تأوه شيخ أو امرأة ، أو تأفف مضطهد أو مظلوم ، وكان يملك عمقا في الرؤية ، وبعدا في التفكير ، يجيد وبمهارة تصفح سطور الوجوه التي وضع الزمان عليها بصماته ، بفعل الأيدي المتعددة الجنسيات ، فما خاب تفكيره ، ولا سقط تحليله ، ولا ضعفت شخصيته ، ولا وهنت عزيمته ، ولا انهزمت إرادته أبدا ، فقد كان رجلا في زمن عزّ فيه الرجال ،وأضحت الرجال تُكال في آخر الزمان بالمكيال ، بحيث عجزوا عن التمييز بين ما هو تمر ، وبين ما هو تبر ، وبين الغث والسمين ، وبين القمح والزوان ، بضاعته نادرة في أسواق الكساد والنخاسة والبوار .
 
كان ينبوعا …. كان نهرا….كان بحرا…يزخر في أحشائه بكل ثمين ، ولكنه يحتاج إلى كل من يُتقن الغوص في سُبره ، ليستخرج من عصارته ما يُشفي كل عليل ، في زمن العلل والرذيلة .
 
استل قلمه من جرابه ، وبدأ يقاتل ، محملقا من وراء نظارته الطبية ، وقد انحنى ظهره وأخذ منه الشيب مأخذه ، ووهن عظمه ، وضعف جسمه وسمعه وبصره ، وأوشك على أعتاب شيخوخته .
 
….. لا يهم فكل ذلك ثمن رخيص من أجل حبك ورضاك ربي سبحانك .
كان يتفحص كلمات سطوره حتى بزوغ الفجر وانبثاق الضياء ، معبرا عن آلام الأمة وعمق جراحها ، يتمتم في شفتيه ، نحن نزرع وغيرنا يأكل …. ولكن المهم هو ، ماذا نزرع لأحفادنا من بعدنا ؟ هل نزرع لهم تِبغا ؟ هل نزرع لهم شوكا ؟ هل نزرع لهم حنظلا ؟ هل نزرع لهم سُمّا ؟ فكل زارع حاصد لِما زرع ، وإن طال زمانه أو قصر ، فلقد حصدنا ما زرعه الذين من قبلنا ، وما تركته لنا ولأطفالنا الليالي والأيام ، فهل نترك لأبنائنا رصيدا من التعاسة والشقاء والحرمان ، وفقدان الأمن والوطن ، وضياع الدين والهوية ، فقديما قيل من لا وطن له لا دين له .
لقد سئمنا كثيرا من أصحاب العَشَى الليلي ، وسئمنا من ضعاف البصر ، كما سئمنا من البلادة والاسترخاء .
فهل تتذوق القلوب الحزينة المعاني وتترك المباني ؟
هل تتمكن الأرواح من أن تنفذ إلى أغوار المعاني القابعة وراء المفردات ، فتنجذب إليها جذب العطشان للماء باحثة عن القواسم المشتركة بينها  ؟
ثمة فرق بين من يقرأ من أجل التسلية أو المتعة أو كسر الوقت وما إلى ذلك ، وبين من يقرأ متلمسا خُطاه ، ناشدا ضالته ، باحثا عن الحلم الكامن في أعماق سريرته ، لعله يجد طيفه ، مغردا بين سربه وليس بعيدا عنه .
وثمة فرق أيضا بين من ينظر إلى جمال الدنيا ، وبين من ينظر إلى كرشته المتدلية من أمامه .
الأول يتبادل علاقة الجمال مع كل جميل في الوجود ، مع وردة ، مع شلال ماء ، مع حديقة ، مع ابتسامة ، مع ريشة رسام ، مع الحجر والشجر والمدر ، مع الطير والإنسان والحيوان ، مع كل قلب طيب ، مع الخير والنور والمحبة ، مع جمال الوجود الذي خلقه الرحمن ( إن الله جميل يحب الجمال ، ونظيف يحب النظافة ، وعفو يجب العفو ) .
 
وأما الثاني فيستحي القلم أن يكتب عنه ، لأنه سبب الشقاء والبلاء والألم لبني البشر .
فكل قلب له شغله ، وكل عقل له بضاعته ، وكل روح لها تحليقها ، في عالمها المتميز عن غيرها ، فمن كانت بضاعته وشُغله نشر بذور الخير والجمال في تربة المحبة ، نبت زرعه ، ونما عوده ، واخضر لونه ، وأتى أُكله ، ( أصلها ثابت وفرعها في السماء ) .
ومن كانت بضاعته وشغله هو نشر بذور الذاتية البغيضة ، والنفعية الضيقة ، والأنانية الممقوتة ، في تربة الشر والكراهية ، جعله الله حطب جهنم .
(( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا )) 45 الكهف .
 
زيارتكم لمدونتي شرف كبير لي
www.tahsseen.jeeran.com  
 
 
tahsseenn@hotmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.