www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

جماليات اللغة الروائية في البحريات/للكاتبة أميمة الخميس

0

تستمد اللغة وجودها في الإطارين الإبداعي والنقدي, من كونها المادة الخام , التي يتشكل منها العمل الإبداعي أو النقدي , واللغة – في ذلك السياق – هي التي تشكل من خلال تراصفها الخاص النصوص الإبداعية , سواء كانت شعرية أم نثرية , وهي التي تولد سماتها الجمالية والفنية

جماليات اللغة الروائية في البحريات
للكاتبة أميمة الخميس

تستمد اللغة وجودها في الإطارين الإبداعي والنقدي, من كونها المادة الخام , التي يتشكل منها العمل الإبداعي أو النقدي , واللغة – في ذلك السياق – هي التي تشكل من خلال تراصفها الخاص النصوص الإبداعية , سواء كانت شعرية أم نثرية , وهي التي تولد سماتها الجمالية والفنية
وإذا كان الحديث السابق حديثا عاما يرتبط بالتجليات الأدبية العديدة , التي تظهر في أدبنا العربي على مر عصوره ومراحله , فإن الحديث عن لغة الرواية بصفة خاصة , له مبرراته العلمية والنقدية , خاصة بعد أن تغير الإبداع الروائي بالتدريج , ولم يعد كتاب الرواية يهتمون اهتماما خاصا بعناصر الرواية الأخرى , فلم يعد للشخصية كما يقول -عبد الملك مرتاض – تلك الامتيازات الفنية , التي كانت تتمتع بها طوال القرن التاسع عشر , وطوال النصف الأول من القرن العشرين ( ….. ), إنه لم يبق للرواية شئ غير جمال لغتها وأناقة نسجها) (1)
فاللغة – في الأساس – قد تكون أروع ما في الرواية , وأقدر عناصرها على الإدهاش والإثارة , وهي – في الوقت ذاته – أقدر هذه العناصر على تجسيد البنية الدلالية , بالإضافة إلى أن العناصر الأخرى المكونة للعمل الروائي , لا يمكن أن يكون لها وجود فعال إلا من خلال اللغة , ( فباللغة تنطق الشخصيات , وتتكشف الأحداث , وتتضح البيئة , ويتعرف القارئ على طبيعة التجربة التي يعبر الكاتب ) ( 2)
إن لغة الرواية لها تأثير فعال في تشكيل العناصر الأخرى , المكونة للرواية , فمن خلال اللغة التي تمس كل العناصر المكونة للعمل الأدبي , تصبح الرواية جنسا أدبيا , ومن ثم كان اختيار هذا المدخل لدراسة رواية (البحريات) للكاتبة أميمة الخميس , واختيار هذا المدخل المهم من وجهة نظر الباحث , لا ينفي وجود مداخل أخرى , ذات أهمية في تلقي ذلك العمل , ولكن هذه المداخل لا يمكن اصطياد وجودها إلا من خلال الاعتماد على اللغة .
وربما كانت أهم المداخل الأخرى الواضحة للقارئ , تتمثل في المقارنة بين نسقين يسيران بشكل متواز , لا يلتقيان إلا من خلال فقد واكتساب منطلقات أو تكوينات جديدة ناتجة عن الفعل والانفعال بين هذين النسقين .
النسق الأول الصحراء بناسها وقانونها الخاص , والنسق الأخير يتمثل في البحريات , بالرغم من اختلاف كل واحدة عن الأخرى , في مساحات التكيف أو التيبس , فمنهن من ظلت بعيدة عن الانزواء داخل ذلك الإطار المستكين الوقور مثل بهيجة , التي تقول عنها الرواية في الصفحة ( 260 )( نتحت وطرحت وملأت الحديقة بعبق شذاها , ولكن بهيجة ظلت خلف السور الخارجي لم تدخل , ولم يؤذن لها بالدخول , إلي أن أعلن الجسد فجأة رفضه الاستمرار) ( 3)
إن هذين النسقين , اللذين تكشف عنهما الرواية , يتجليان في دراسات عديدة , ترتبط بجدل الأنا المؤسسة في سياقاتها العديدة بالآخر , والآخر في ذلك السياق- كما يقول حسن النعمى – هو الذي يخرج عن تكويننا الاجتماعي بكل ما يجمعه من الأطياف الاجتماعية المختلفة , وبما يحظي به الأفراد في سياقه من هوية ونمط عيش وموقع حضاري يميزهم سواء عن محيطهم العربي أو العالمي ) ( 4)
فالنسق المؤسس بتجلياته العديدة , يمارس سطوة , ترتبط بأعراف وتقاليد , وهذا النسق يتجلى في الرواية من خلال شخصيات فاعلة , تحاول أن تظل الحال على سكونها المعهود , دون تأثير واضح من البحريات اللواتي يحملن قيما مغايرة , وربما تكون أم صالح – في ذلك السياق – الشخصية الفاعلة , بوصفها تقف على الأعراف , بين عالمين : عالم الرجال وعالم النساء , ومنهن البحريات , تشير الرواية إلى هذا النسق السلطوي ( كان عليها أن تبقى العالم من حولها على هذه السمة الحادة القاطعة بين الحدود ,وإلا فستتداخل الألوان , وسينهار كل شئ من حولها , في بيت ملئ بالجواري والشاميات الماجنات) ( 5 )
هذا النسق المؤسس , يقابله – بالضرورة – نسق آخر , يتمثل في البحريات , اللواتي جئن ولهن رصيد مغاير, ينم في تجلياته العديدة عن الحركة وعدم الثبات , وربما تبدو بهيجة بمالها من مساحة واسعة في الرواية رمزا مهما في ذلك السياق , وهذا لا يأتي فقط من المساحة الواسعة لها في الرواية , وإنما لأنها لم تستسلم للنسق المؤسس , وظلت على تكوينها الخاص , بعراكها , وبمساعدة شخصيات نسائية جاءت من خارج النسق المؤسس , مثل إنجريد ورحاب .
وفي ذلك الإطار ظل الوصف اللغوي ( الفاقعة) ملازما لها على مدار صفحات الرواية من البداية إلى النهاية , فهي لم تمتزج مع النسيج في خلفية المشهد ( ينشغلن بمهرجان الألوان التي تشعلها الشامية ( بهيجة ) , تظل أم زوجها تشير لها بطرف خفي أن تصمت , أو تخفض صوتها , أن تمتزج مع النسيج في خلفية الغرفة , ولكن بهيجة تصمت لحظات , ومن ثم لا تلبث أن تشهق كسمكة ملونة وقعت على كثيب رملي ) (6)
رواية ( البحريات ) من خلال بنيتها اللغوية الخاصة تشير إلى هذين النسقين من خلال الألفاظ المفردة , المقدمة لوصف كل نسق على حدة , مثل صفة الفاقعة , التي ظلت لصيقة ببهيجة من لحظة قدومها , ولحظة موتها ,وحتى في حزنها, وهي صفة كاشفة عن أعماق الشخصية , التي تحمل الأفكار والرؤى , والتي يحاول الكاتب طرحها . فالكلمة المفردة _ كما يقول باختين- في كتابه ( الماركسية وفلسفة اللغة )( تتكشف كل كلمة كما نعلم حلبة مصغرة تتقاطع فيها وتتصارع لهجات اجتماعية ذات توجه متناقض , تستبين الكلمة في فم الفرد نتاجا للتفاعل الحي للقوي الاجتماعية ) ( 7)
وفي إطار ذلك الفهم نجد أن الأوصاف الدالة المقدمة ( للبحريات ), لها صفة السيادة والشيوع في النص الروائي , وذلك لأنهن يمثلن النسق المجلوب , الذي يجب عليه أن يقاتل , ليثبت مشروعية نسقه المقموع , ويبرهن على قيمة وجوده , في إطار سيادة نسق له صفة الهيمنة , ويحكم على المغاير والمتحرك داخل أفق خاص أحكاما جاهزة .
اللغة المحكية
إذا تحركنا خطوة قد تكون أكبر من الكلمة المفردة التي تصف كل نسق على حدة , فإن القارئ للرواية سوف يدرك أن اللغة المحكية في الرواية , التي جاءت بوصفها بديلا عن الحوار , جاءت للكشف عن طبيعة كل نسق للآخر , وكاشفة عن طبيعة كل شخصية .
إن اللغة المحكية , التي ينقلها السارد , ويقدمها على لسان الشخصيات – وإن كانت موجودة ومطروقة من قبل , لأنها وثيقة الصلة بالأمثال والعبارات الدارجة على ألسنة الناس – تقدم في الرواية وفق منظومة جمالية تنقل التركيب اللغوي من سياقاته المتواترة لتدخله في سياقات جديدة .
اللغة المحكية في الرواية على لسان الشخصيات , تكشف عن طبيعة الشخصية في إطار صراعها لتثبيت منطقها , وربما تكون النماذج المحكية على لسان ( أم صالح) عن (بهيجة) كاشفة عن ذلك الصراع , بداية من الاختلاف الشكلي أو الجسدي , فأم صالح – كما أشارت الرواية – تنتمي إلى آل مبطي , وبهم صفة القصر , ومن ثم كان التبرم واضحا في نص الرواية ( وقالت لها وهي تدفعها بعد أن انتهت من شبرها (ابعدي كراعينك الطويلة بتكلفنا زود قماش ياها الحمراء ) .
إن النسق المؤسس الذي تمثله ( أم صالح ) , لديه تبرم جاهز من المختلف والمغاير شكلا , وقد كان الإلحاح في النموذج السابق على سمتين أساسيتين , لا توجدان فيها . غير أن هذا النسق لا يستند – فقط – إلى المغايرة الشكلية , وإنما ينطلق – في بعض الأحيان – في نقده للآخر من المغايرة في الحركة والسلوك , يتجلي ذلك في خطابها البهيجة حين تظهر قربها لزوجها في حضورها , فأم صالح تصف بهيجة ( بالخبلة المشفوحة ) أو قولها ( اجلسي يالمهبوله اركدى) ( 9)
ويستند أصحاب هذا النسق إلى سلطة دينية , يتوهمون من خلال الاتكاء عليها أنها تمنحهم حق وصف الآخرين بالكفر , مثل حديث أم صالح إلى بهيجة ( قومي صلي لا ربي يعاقبنا بسببك , الشر يعم والخير يخص , أنا أدري وين يجيبون لنا ها الكافرات , حسبي الله ونعم الوكيل يا شامية إبليس) ( 10 )
إن النماذج الثلاثة السابقة , التي جاءت على لسان أم صالح , تكشف عن رؤية خاصة للنسق المقابل , وفق محددات أساسية ترتبط بالمغايرة الشكلية , والمغايرة في الأعراف في التعامل مع الزوج , وإن كانت – في الحقيقة- تكشف عن رغبة في التملك الموزع بين الأم والزوجة , وترتبط – أيضا – بالمغايرة في الالتزام الديني .
واللغة المحكية على النسق الآخر المهموم بإسدال نوع من الخصوصية لم تظهر في الرواية بشكل واضح , وذلك لأن أصحاب هذا النسق من النساء لم يكن مهمومات بإظهار قدراتهن بشكل جلي وصريح , وإنما كان همهن الأساسي مرتبطا في البداية ببناء إطار حام من السهام , وخلق ملامح خصوصية تتيح لهن حرية الحركة , وتخلق لوجودهن شرعية , وإذا تأسس لهن ذلك , فإنهن يلقين السلاح, ولا يقمن بأي محاولة لمساعدة الأخريات , في بداية مرورهن بالتجربة , كما فعلت بهيجة مع سعاد , يتجلى ذلك في قول بهيجة , بعد أن أصبح لها مكان مستقر , واتخذت علاقاتها مع الصحراء شكلا مستقرا تقول لنفسها ( لن أثقل هذه الأرض البكر المحررة للتو بشامية أخرى أبررها لهم , كما ظللت أبرر نفسي طوال العشرين عاما الماضية ) ( 11)
إن قيمة اللغة المحكية تتمثل في لغات عديدة تتعدد بتعدد الشخصيات الموجودة في الرواية , وهذا التعدد يكون كفيلا بكشف المعالم الخاصة للشخصية , والكشف عن التوجهات التي قد تكون متشابهة , يتجلي ذلك في قول ( أم رحاب ) عن ابنتها ( مثل الأطرميز لا خصر ولا (…..) , أو قول ( أم علي ) ( بنتك اللي حدفت نفسها عليه ……)
واللافت للنظر في هذه الرواية إن اللغة المحكية التي جاءت على لسان أم صالح أو بهيجة أو أم رحاب الفلسطينية أو أم علي , كلها ترتبط باللغة العامية , وثيقة الصلة بالمثل والمعهود والمتداول والمتواتر على ألسنة العامة , وهذا يشير إلي أن اللغة المحكية ترتبط على نحو فاعل بالمحيط الاجتماعي وبالتكوين الثقافي .
يظهر لنا ذلك حين نعاين نمطا مختلفا من هذه اللغة على لسان شخصية أخرى , جاءت – في الأساس – مرتبطة بلحظة التحول , حيث خلعت مدينة الرياض ثيابها القديمة , وارتدت حلة جديدة , ومن ثم فهذه الشخصية تقدم بدون ماض يمكن أن يكون كاشفا عن طبيعة تكوينها .
فاللغة المحكية التي قدمتها الرواية لمتعب تكشف عن نمط خاص من الشخصيات , بل يمثل شريحة خاصة , لها أراؤها , ووجهة نظرها في الحياة , تقول الرواية على لسان متعب (لا أتمني شيئا على الإطلاق , الأمنية في العشق تخنقه تحت سقف الشرعية الممطرة وسيذبل ويموت , دعيه في مراعي السافانا زرافة حرة منفلتة ومحاصرة بالوحوش ) (12)
إن اللغة -هنا – لغة مختلفة لارتباطها بشخصية لها منطق مختلف ونمط ثقافي خاص , يؤيد ذلك أن الشخصية المخاطبة ( سعاد ) لم تفهم الكلام فهما تاما ( بالرغم من تكوينها الثقافي المنفتح علي قراءة روايات عديدة ), فالأمنية في العشق من وجهة نظرها ضرورية لاستمرار الحياة , لأنها – في ذلك السياق – تشكل أملا أو سلطة نموذج متخيل , يعطي الانحناء تجاهها شرعية , ولكن الأمنية – من وجهة نظره – تدخل العشق – ولو من طرف خفي – حيز الشرعية , التي تقتله , فهو يريده -وفق تكوينه الخاص – منفلتا من القيود والأعراف والتقاليد .
إن متعب من خلال اللغة المحكية , التي حملت وجهة نظره إلى المتلقي يتجذر في إطار شريحة معينة , تنظر للأمور نظرة آنية دون ارتباط بالماضي أو نحت في القادم , بل تحاول الانسلاخ من التراث القديم , وتؤسس سياقا لوجهتها الآنية , وهي نظرة تخالف السائد والمقرر والمؤسس , ولا تقف عند حدوده , بل تتخطى ذلك للتبرم على تقاليد دينية , يتجلى ذلك حين يرد على سؤال سعاد : لماذا لا نرى تماثيل في مدينة الرياض مثل تمثال صلاح الدين في سوريا ( فقال لها وهو ينفخ من أنفه ساخطا أفففففف , التماثيل ممنوعة هنا , وقال متهكما : يخشون أن يعاود الناس عبادتها , تخيلي العالم يتجه إلى اللادينية , وربعنا يخشون العودة إلى عبادة الأصنام ) (13)
فهذه اللغة تكشف عن تبرم خاص بالسائد , ومحاولة للخروج عنه , والتحليق بعيدا عن هذا السائد , وذلك لتجذره ثقافيا في إطار نسق مغاير , يحاول الانفلات من لحظة ماضية , والنمو في سياق جديد , يكشف عن وجهة نظر مغايرة تمس كل المستويات , بما فيها ردة الفعل تجاه المواقف التي تمر بها شخصيات الرواية , فالانسحاب الذي قامت به (سعاد ) , من عزاء أم زوجها ( سعد ) , كان له فيه رأى مغاير , يكشف عن نظرة برجماتية وثيقة الصلة بهذه الشريحة التي يمثلها متعب .
لغة الرواية بين المجاز ومنطق السرد :
القارئ لرواية( البحريات) , يدرك أن اللغة التي كتبت بها الرواية , من أهم السمات الخاصة بالرواية , بالإضافة إلى السرد والبنية الزمنية والفضاء الروائي والشخصيات , واللغة -فوق ذلك- تسهم في تشكيل العناصر الأخرى , التي تبني عليها الرسالة الإبداعية في الرواية ,والرواية – في ذلك السياق – تشكيل لغوي متعدد التقنيات والأساليب , ولا يمكن حصره في إطار اللغة الغيرية أو المحكية , التي توقفنا عندها في الجزئية السابقة , ومن ثم تطرح أمام الباحث – كما يقول محمد بو عزة – مهمة الصياغة النظرية والمفاهيمية لمعالجة المستويات اللغوية الأخرى ) (14)
وربما تكون مقاربة اللغة الروائية من أصعب الجزئيات التي يمكن أن يتوجه إليها الباحث , وذلك لأن قارئ الرواية يشعر بجمال العمل الروائي لحظة القراءة , ولكن مقاربة اللغة بعد ذلك تعد شيئا صعبا , لأن الباحث يكون موزعا بين اختيار الطريق السهل , حيث يتعامل مع لغة الرواية , على أنها شبيهة تماما بلغة الشعر , ومن ثم يتوقف أمام الجزئيات الصورية الجزئية , وبين ارتياد الطريق الأصعب , وذلك من خلال تناول لغة الرواية , بوصفها فنا له جمالياته المائزة الخاصة , ولذا فهي تحتاج إلى مقاربة خاصة مغايرة لمقاربة لغة الشعر, والمتأمل لبعض البحوث التي قدمت في ذلك السياق , يدرك أن هناك بحوثا اتخذت الطريق السهل سبيلا , منطلقة في الأساس من إن الروائي يستخدم في سرده السرد التصويري والخبري , ليشكل نسيجا سرديا , بحيث يحدث تحول -كما يقول أحد الباحثين – في لغة الرواية , من كونها وسيلة للتبليغ المباشر إلى نظام وظيفته التبليغ غير المباشر , وهو ما يسميه الدارس الوظيفة الجمالية اللغة ) ( 15 )
وفي إطار ذلك التوجه, نجد في هذه الدراسات حديثا عن اللغة السردية التجسيدية , وهي – في تعريف بعض الباحثين – اللغة التي تعتمد على التصوير الاستعارى واستخدام الألفاظ والرموز الموحية المتعددة الدلالات , واللغة النابضة بالإيقاع والتلوين البياني , والبديعي مع استثمار اللغة الشعرية الإيحائية, بقصد خلق الوظيفة الشعرية والجمالية ) ( 16 )
إن الاتجاه السابق الذي يضع في اعتباره تشابه مقاربة لغة الرواية بلغة الشعر , يقابله اتجاه آخر , يحاول أن يتعاظم على هذا التشابه , وينطلق من خصوصية بنية الرواية , وأصحاب هذا الاتجاه ينطلقون من مبدأ مهم , هو أنه ليس مقبولا أن يتعامل الناقد مع الرواية على أنها قصيدة شعرية , ويقف عند التشبيه والمجاز والصورة , والدلالات الجزئية الناتجة عنها , يقول أحد الباحثين مشيرا إلى التوجه السابق (هناك من كان يدرسها من خلال مقاربة بلاغية تقليدية تركز على الصور الشعرية من تشبيه ومجاز واستعارة وكناية ورصد للمحسنات البديعية ومواصفات اللغة كالرصانة والجزالة والليونة , وكانت هذه المقاربة البلاغية تسقط مفاهيم البلاغة الشعرية على الرواية دون مراعاة خصائصها النوعية والتجنيسية , وبنائها التعبيري المعقد , وطاقته البلاغية واللغوية والتراكبية ) ( 17)
وأصحاب هذا الاتجاه لا ينفون أن الرواية تستعير بعض خصائص اللغة الشعرية , وإنما ينفون المطابقة أو المماثلة بين لغة الشعر ولغة الرواية , وهذا – بالضرورة – يستدعي مقاربة مغايرة , لأن الرواية حين تستعير هذه الخصائص الشعرية , لا تستخدمها بالطريقة التي يستخدمها الشعر , وإنما توظفها وفق آلياتها السردية القائمة على البناء الممتد من البداية إلى النهاية ,وفي ذلك السياق تقل قيمة الصور الجزئية أو المجهرية , لأن الاهتمام الأساسي يرتبط بالبناء العام , فالرواية – في رأي محمد بو عزة – لا تؤسس شعريتها ضمن عملية اقتراضها للأدوات والوسائل الخاصة بأدبية الشعر , بل تكون شعرية من حيث هي تشكيل لغوي يعبر بالسرد عن عوالم تخيلية معقدة , ولا يتوقف الإشكال عند حدود استعارة الرواية لتقنيات الشعر , بل يتجاوز هذا التصور الاختزالي إلى التساؤل عن كيفية الخطاب الشعري في النص الروائي , كيف تشتغل هذه التقنيات من بلاغة الشعر إلى بلاغة الرواية ) ( 18)
إذا حاولنا أن نقف عند الصورة الروائية الجزئية في رواية البحريات , فإن القارئ سوف يدرك من الصفحة الأولي أن لغة الرواية من بدايتها إلى نهايتها مملوءة بهذه الصور الجزئية , ولكن القارئ سيشعر – أيضا – أنه ليس هناك إحساس بالخروج المتعمد لأنساق لغوية خاصة , والسبب في ذلك – فيما أعتقد – يعود إلى أن الكاتبة في بنائها للإطار المعرفي الخاص , الذي يشير إلى نسقين بينهما صراع يشتد وينخفض , وقد يكون ظاهرا أو متواريا , مارست نوعا من الكتابة السردية , التي تشكل طبقات متجاورة أو متجاوبة , بنيت فوق بعضها , وعلى هذا الإساس فالصورة الروائية في أي صفحة من صفحات الرواية , لا تومض دلاليا في فراغ , وإنما يتم تلقيها داخل نسق عام متنام من البداية , ولذلك لا يشعر القارئ أنه في حاجة إلى وقفة خاصة لاستبيان دلالتها , انطلاقا مما تم إنجازه في صفحات سابقة .
فحين تقول الرواية عن ( بهيجة ) (روح بهيجة تفضي إلى ساحة , الساحة تتوسطها نافورة , النافورة تثرثر طوال الليل بأحاديث الماء , وقصص وحكايات تنثرها كفراشات انطلقت من شرنقتها للتو ) (19)
لا نتوقف – بالضرورة – أمام الصور المجهرية ,لأن هذه الصور المجهرية , تبنى على جزئيات سابقة , ويتكون البناء بالتدريج لإعطاء صورة لبهيجة , فصورة بهيجة من بداية الرواية جاءت بوصفها نسقا مغايرا,فهي تختلف عن مثيلاتها في النسق المؤسس , مثل ( موضي ) وأخريات بالضرورة , ومن ثم فإن هذه الصور الجزئية تتجاوب مع صور سابقة , لتشكيل ملامح الشخصية , وتظل هذه الصور الجزئية في انفتاح دائم للإضافة في صفحات قادمة من الرواية .
وإذا كان الجزء المقتبس السابق يشير إلى الحركة وعدم الثبات , فإن الرواية في جزئيات كثيرة استندت إلى الصور المجهرية , لإعطاء خصوصية تكوينية لشخصيات في النسق المقابل ( أم صالح ) , تقول الرواية ( بركة مياهها رائقة آسنة فإذا وقع فيها حجر ما ……. اتسعت دوائرها وتكثفت , وظلت تتكلم في الموضوع لأيام طويلة , وتعيده بنفس الجمل مع تغيير طفيف ببعض العبارات ) ( 20)
فإذا كانت الحركة في الجزء السابق الخاص ببهيجة هي العنصر الفاعل , فإن الفاعلية هنا في تصوير أم صالح تأتي مرتبطة بالثبات من خلال البركة الساكنة , التي لا تقوم بفاعلية , وإنما تنفعل بمؤثر خارجي , وهذه الصورة الجزئية تتجاوب مع صور قدمت سابقا ( لأم صالح ) , بحيث تأتي نموذجا محافظا , يأنف من التغيير , ويختبره مرات عديدة , قبل الارتباط به .
إن النماذج الدالة على استخدام الصور المجهرية , بوصفها بنيات صغري تتشكل وفق بناء عام في نص الرواية كثيرة جدا , ولكن القارئ قد لا يشعر بهذه الصور بشكل لافت , لأن اللغة الساردة المهمومة ببناء إطار فكري , شكلت من خلال طبقات وجزئيات متجاوبة فيما بينها لتشكل حدودا وأفقا لكل شخصية , غير أنه في بعض النماذج الصورية الموجودة في الرواية , نشعر أن هناك محاولة لبناء ملامح رمزية فالرواية تصور ( رحاب في رحلتها إلى الرياض ) من خلال قولها (كان قلبها ما برح يمارس لعبته الصبيانية معها بشكل أحنقها , كانت تود أن تمسكه من شعره , وتلجمه في مقعد أو تخفيه , بإحدى خزانات الطائرة , كانت تعلم بأن مسايرته في قصته الصبيانية ستؤدى بها إلى منحدر الوحشه , كأنها أم استيقظت من آلام مخاض طويلة مهلكة , ليخبروها أن الوليد قد مات ) (21)
فالصورة السابقة تشير إلى القلب أو الحب أو الطفل , وهي صورة مؤسسة لدى شعراء الخمسينيات , وهي – كذلك – لا تنطلق دلاليا في فراغ , وإنما مرتبطة بجزئيات صورية سابقة , فالسفر من بيروت إلى الرياض لم يكن إلا هروبا من حب فاشل , لا تتكون له ملامح يقينية إلا من خلال الانتظار ( لعلي ) , الذي سافر إلي أمريكا ولم يعد .
إن هذه الصورة المجهرية تمثل حلقة أو طبقة ثانية , تتجاوب مع طبقة سابقة , ومنفتحة على طبقة أخيرة في تشكيل ملامح الحكاية , الحكاية البسيطة التي شكل الانتظار ملامحها وأوجد لها إطارا خاصا , تقول الرواية ( لتجد في النهاية أن حكايتها مع علي مخلوق له رأس صغير , وذيل طويل جدا , مصنوع من قطن المخيلة )(22)
لقد كان تناول الصور المجهرية والجزئية مرتبطا في الأساس بشيئين , هما : محاولة ربط هذه الصور المجهرية بطبقات سردية سابقة ولاحقه , مما يخرجها عن سمة الجزئية ويلحقها بالبناء العام للرواية , والأخير يتمثل في جعل دلالة هذه الصور مرتبطة بحركة المعني النامية في النص , وبالإطار المعرفي .
وربما كان هذا المدخل الخاص في دراسة الصور المجهرية والجزئية , من خلال وضعها في إطار سردي عام , مدخلا مهما , لدراسة لغة الرواية من وجهة نظر مختلفة , ترتبط بالاتجاه الثاني , الذي أشرنا إليه سابقا , بحيث يكون الحكم على لغة الرواية , لا ينطلق من بنيات جزئية , يمكن أن تنتج – إذا تم الاستناد إليها – مقاربة تتصف بالثبات مع كل الروايات , من خلال لغة فضفاضة , تصلح لمقاربة كل الروايات , وإنما ينطلق – كما يقول أحد الباحثين – من خلال محاولة تأسيس بلاغة سردية تصوغ أدواتها من سجل الجنس الروائي ومعماريته النصية ) ( 23)
والبحث عن بلاغة خاصة للغة الرواية , يتم وفق مبدأ مهم , هو أن الصور الجزئية , في أي نص سواء أكان سرديا أم شعريا , لا تحمل وجودا منفصلا قائما بذاته , وإنما توجد في إطار عام يكيف دلالاتها , وتكتسب قيمتها من الإطار الروائي العام , خاصة إذا أدركنا أن الأسلوب – كما يقول ميشال بوتور- لا يقوم بالطريقة التي نختار بها الألفاظ في الجملة فحسب , بل بالطريقة التي تتناسق بها الجمل الواحدة تلو الأخرى , والمقاطع والفصول , وعلى جميع مستويات هذا البناء الضخم , الذي هو الرواية ) (24)
وإذا كان السرد – كما يقول بارت – يشترك بنيانيا مع الجملة دون أن يحصر ذاته بعدد من الجمل ( 25) فإن الرواية لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب , بل بمجموعها , ونحن نعلم أن هذه المقاطع التي نعتبرها لأول وهلة شعرية عند كبار الروائيين أمثال بلزاك , وستندال ودوستوفسكي , لهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بغيرها من المقاطع , وإذا فصلت عنها فقدت الكثير من شعريتها ) ( 26)
إن التوجه السابق في الحديث عن لغة الرواية , الذي يحاول مقاربة الرواية , كبناء كلي في إطار خصوصية اللغة , يحاول الكشف عن منطق خاص للغة السرد , وهذا المنطق الخاص ليس ثابتا وإنما متغير من رواية إلى أخري , بحيث يشكل سمة فاعلة تؤدي دورها في تشييد البناء السردي , وتكون لبنة أساسية في نمو السرد وفق توجهات خاصة , وذلك من خلال استراتيجية توجيه القارئ , التي تسمح بإقامة عملية الإبلاغ , من خلال استراتيجية تمكن من المحافظة علي هذه العملية , وتسويغ التحرك الخاص نحو الحديث .
في رواية البحريات نجد أن المنطق السردي , أو لنقل بتعبير – قد يكون أكثر صحة -أن الجزئية أو الآلية الفاعلة تتمثل في الجزئيات الخاصة التي تقدم في النص السردي بوصفها بترا أو تكييفا لحركة السرد , أو عتبة داخلية, تبدأ الرواية منها الرحلة السردية من لحظة الوقوف أو الصمت إلى لحظة الحركة أو الكلام .
والمتأمل لهذه الجزئية , يدرك أنها تكررت كثيرا بشكل فاعل في الرواية , وهي آلية لا علاقة لها بالمقاطع أو الفصول , وإنما لها علاقة أساسية بحركة المعني في النص السردي , وبحركة الشخصية نحو توجه خاص , ويبدو أن لها علاقة – أيضا – بالموقف الانفعالي الذي أشار إليه بارت في قوله (لا يستطيع أحد أن يكتب دون أن يتخذ موقفا انفعاليا مهما بلغ تجرد الرسالة الظاهر ) (27)
كيف يمكن تحديد هذه العتبة الداخلية أو التكييف السردي أو البتر السردي , الذي يحمل في طياته خبرة سردية ومعرفية حياتية ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تنطلق مما يمكن أن نسمية لحظة الانغلاق أو الوقوف أو الكسر , ثم التحرك بعد ذلك لا ستئناف الحركة السردية النامية في النص .
إن معاينة النماذج الموجودة في رواية البحريات , التي يمكن أن تكون عتبات داخلية , يكشف عن أن وظائفها الدلالية تتعدد وتنمو في مناح عديدة , ولكن يمكن إجمال هذه الوظائف الدلالية فيما يلي :
الإخبارية :
هي تلك الجزئيات التي تأتي في النص الروائي , والتي تضع المتلقي في فضاء الرواية زمانيا أو مكانيا, بحيث تشكل هذه الجزئيات الإخبارية إطارا مهما , بحيث يستطيع المتلقي من خلال الإلمام بهذه الجزئيات أن يكون واعيا بالسياق الحضاري للرواية , مثل جزئية ( في الشتاء تهب رياح شمالية جافة أربعين يوما على نجد تسمي المربعانية ….)(28)
ولكن هذا الإخبار الذي يجعل المتلقي داخلا في فضاء الرواية يعد مهما , لأن هذا الإخبار كان مهما في وجود حركة النزول من ( بهيجة ) , ورؤيتها ( لسعد ) واكتشاف بلله بالماء , ومن ثم يظل هذا الخيط ممتدا حتى حادثة الضبع الشهيرة , حيث تشممها في ليلة من الليالي .
فالإخبار له وظيفة دلالية في الأساس , ولكن هذا الإخبار يظل فاعلا , طالما نظرنا إليه في سياقه السردي , ومن ثم تتمدد هذه الخيوط الإخبارية , لتظل شرايين فاعلة في البناء السردي .
إن بعض هذه النماذج الإخبارية , لها مرتكزات سياسية , وإن كانت لا تخلو من إحالات زمنية , فحين تقول الرواية (تحدق بالعرش السعودي كثير من التيارات الثورية , التي كانت تموج في العالم العربي , وأدت إلى سقوط كثير من الملكيات آنذاك , لذا كانت المعركة آنذاك معركة وجود لامجال فيها للتسامح …. أو غض النظر , وكانت الحياة السياسية مغطاة بشبكة اسخباراتية محكمة , من يقع في براثنها يدفع ثمنا غاليا ) (29) لا يستطيع المتلقي أن ينكر أن هذا البتر الجزئي وثيق الصلة بشخصية ( سعد ) , الذي ظل يقرأ كتب الثوريين العرب دون فهم حقيقي , لأن هذا النسق الحياتي , الذي يجعله يتكلم في السياسة في حالة سكره يغطي علي فشله في إطار مستويات عديدة .
التنميطية
وهي الوظيفة الأكثر وجودا في نص الرواية لهذه العتبات الداخلية , لأن هذا التنميط وثيق الصلة بالإطار المعرفي الخاص بالرواية , فالنمط في الرواية نسق مكتمل , يكون وجوده بالتدريج من خلال ظواهر وأعراف وتقاليد , وهذه الأعراف والتقاليد , تقوم مقام العقيدة في النسق المؤسس بحدوده , والذي لا يقبل بسهولة السماح للغرباء بالدخول إليه .
يتجلى هذا في نماذج عديدة في نص الرواية , تقول ( توزيع الفطرة بعد عيد رمضان وذبح الخراف في عيد الأضحى تصنعه ببرتكول سري واتفاق خفي , تؤسس لنظامها الاجتماعي الصلب , الذي يصعب على الغرباء فك رموزه , نظام المجد مملكة مستقلة , كاملة الحدود والمعالم ) ( 30)
فالجزئية السابقة تشير إلى نسق خاص , لا يسمح للغرباء بالدخول إليه , وربما تكون هذه الجزئية – أيضا – بداية لتكوين نمط مقابل غير مؤسس بالاندماج , يرتبط بوضع ( البحريات ) , اللواتي ظللن بلا عمل حقيقي , وكأن الدخول أو المشاركة , يعد إيذانا بالاندماج في النمط المؤسس .
ومن خلال جزئيات أخري تتشكل طبيعة النمط , الذي لا يتجلى بوجه واحد , وإنما بوجوه عديدة , ولذا نجد الرواية – حتى يتم لها إطار مكتمل- تلح على بعض الجزئيات التي يمكن أن تكون فاعلة في تشكيل ملامح هذا النمط , مثل الإشارة إلى طبيعة التجار في جزئية من هذه الجزئيات , في قولها (في بيوت التجار عادة لا تحدث كثير من الثورات أو الهزات, ليس هناك استجابة لنبض التغير الكوني , فالسائد والمطمئن للمألوف , يضمن لهم دروبا تجارية آمنة سالكة , وبضائع , تصل في مواقيتها , وسوقا مزدهرة منتعشة …. كما أن أمعاءهم الغليظة والدقيقة ممتلئة , وبيوتهم متسعة دائما والمستودعات وافرة , ليس هناك من حاجة لفتح هذه البوابة , التي قد يدخل منها الشيطان , يحمل في أعطافه شرا عظيما ) ( 31)
فالإشارة إلى التجار وطبيعتهم المرتبطة بالتدثر بالسكون والثبات , وتمحيص الشئ قبل الدخول إليه , تعتبر عتبة أو مدخلا مهما للإشارة إلى موقفهم الخاص من قضية تعليم البنات في تلك الفترة الزمنية , وهذا التمحيص أو الانتظار حتى تسفر التجربة عن نتيجة آمنة , لم يقف بالبناء السردي عند تلك الحدود , وإنما كان سببا في دخول رحاب – هي إحدى البحريات – إلى هذا الفضاء أو النسق المؤسس , حيث أنتج التمحيص والانتظار حركة في إطار مختلف , تتمثل في جلب مدرسة للبنات بالمنزل .
التبريرية أو التسويغية :
في بعض هذه العتبات الداخلية , التي تقطع السرد بشكل حذر , يمكن أن يجد المتلقي فيها تبريرا للحدث القادم , أو إشارة مسبقة له , فحين تتحدث الرواية بجملة سردية طويلة عن العباءة الخاصة بالمرأة في قولها (العباءة السوداء الحريرية, على الرغم من كونها تغطي الرأس والكتفين, ولكنها حين تنسدل على الجسم… تبرز تقاسيمه, والعين الرجالية , في الرياض مدربة على استكناه ظلام العباءة , وتحدي عتمتها وتقصي تضاريس الجمال من خلف العباءة … العباءة تسلم الجسد الأنثوي إلى لهيب المخيلة , وهناك في تلك الأرض الشاسعة , يعاد إنشاؤه تارة أخرى رطبا لينا ومتحفزا يقطر عسلا ) (32 )
فهذه الجزئية تعد تبريرا للحدث السردي القادم,والذي يمتد ليشكل خيطا سرديا في بنية الرواية,وهو حدث ارتباط متعب بسعاد – البحرية الثالثة زوجة سعد – حيث أبصرها وهي تنزل من السيارة,ولم تكن بعد قد أتقنت لبس العباءة ,فكانت هذه الحادثة بداية لوجود خيط سردي مهم في نص الرواية .
إن هذه العتبات بوجودها في الإطار السردي , قد تأتي لتبرير الحدث , أو إشارة إلى ميلاد ذلك الخيط , أو قد تأتي لتبرير التوجه أو لتفسير الحركة المؤجلة من بعض الشخصيات , فحين تقول الرواية في إحدى عتباتها (الأنثى بعد الثلاثين تبدأ في إحراق المراكب , تبدأ كل سنة تمضي تتهاوي كمركب يترمد , ويغطس في القاع , تزداد وحشية المحيط , وتعتم زرقته , وتغادره نسماته الرطبة العليلة , فلا يبقى هناك في الأفق سوى أعاصير الظلام والوحشة , عندها قد يستيقظ ذلك الربان الشرس المقاتل , ذلك الذي يستبسل ويهدر في الأعماق , والذي يبرز عند المنعطفات الحالكة بمركبته النيرانية المجنونة ) ( 33)
هذه الجزئية تقدم بوصفها إشارة وثيقة الصلة برحاب , تلك الشخصية التي جاءت من الرياض هروبا من حب , لا يكون قسماته إلا الانتظار المنفتح على الخيال , ومن ثم فهذه العتبة ليست إلا إشارة إلى وجود تغيير داخلي , لم يستطع بعد أن يفتح شرنقته للخروج للارتباط بعمر الحضرمي بديلا عن علي , الذي كانت تأنف منه في البداية , والرواية في رصد هذا التحول , لم تقدمه بشكل قاطع , وإنما أخذ مراحل , تبدأ بالتغيير الداخلي المكتوم , وينتهي بالانفجار , كما سوف نرى في عتبات الوظيفة الانفعالية .
الانفعالية :
لا شك أن هذه الوظيفة موجودة في الوظائف السابقة , بشكل من الأشكال , فهذه العتبات وهذا البتر الجزئي , ليس معناه إلا حضورا للسارد , بما يحمله من خبرة معرفية وسردية وحياتية , وهذا يتطلب – بالضرورة – موقفا انفعاليا , ولكن الذي جعلنا نضعها في إطار منفصل هو حضور الضمير ( نا ) في هذه العتبات , مما يعني حضورا لفظيا من جهة , ومن جهة أخرى يعني تطابقا في وجهة النظر والتوجه ورؤية الأشياء, بل إلي درجة خاصة من التماهي .
وقد أشرنا – سابقا – في حديثنا عن الوظيفة التبريرية في الجزئية الخاصة (برحاب ) أن التغيير أو التحول لم يأت فجأة,وإنما مر بمرحلة التغيير الداخلي المكتوم,وبمرحلة الانفجار الهائل , تقول الرواية ( كثيرا ما نظن بأن قراراتنا الكبرى في الحياة تنبجس فجأة من أعماقنا دون سابق تخطيط أو تبرير , دون أن نخمن بأنها قطرات الأسئلة التي كانت تطرق أرواحنا وتراكمت , وصنعت ذلك الطوفان , الذي نظنه قرارا مفاجئا اندفق من الغيب ) ( 34)
فالرواية – من خلال هذه العتبة الداخلية – تشير إلى طبيعة الإنسان في إطار وضعه الحياتي الصعب , الذي يحاول الفكاك من أسر تجربة مطبقة , وهذا الفكاك لا يتم إلا بالبناء التدريجي في جانب , والهدم في جانب آخر , ويتم كل ذلك في حالة سكون خارجي وعراك داخلي مع الذات , فالأمر – لدي رحاب – أو التحول لديها لم يتم بشكل ينم عن الانفجار , كما تجلي في نهاية الرواية , وإنما تم بشكل مرحلي خاص .
إن هذه الوظيفة الانفعالية تشير- كما لا حظنا سابقا – إلى تماه خاص بين السارد والشخصية , وإن كانت تقدم في إطار شبه منفصل عن الخط السردي النامي , ومن ثم تقدم وجهة نظر تم الإتكاء على مشروعيتها من خلال هذا التطابق , فالمتأمل للنموذج الخاص ( بأم صالح ) , في أزمتها الخاصة , يشعر أن هذا التطابق المبني على خبرة معرفية موجود , تقول الرواية ( في تلك اللحظة التي نظن بها أنا حصلنا على ملامحنا المتماسكة الناضجة والنهائية , وغدونا أكثر سيطرة على أنفسنا ومحيطنا , ونبدأ بمشاريع كانت نائمة أو مؤجلة في قائمة الأحلام, تبدأ المرآة تعكس إشارات خبيثة وغير متوقعة , ويبدأ الصغار الذين شهدنا ولادتهم وحبوهم في الزواج والإنجاب , ونعرف بأن الوقت يأخذنا عن المقدمة , ويتقهقر بنا باتجاه الصفوف الخلفية ) (35)
هذه الأزمة الخاصة بأم صالح , والتي تجلت من خلال بتر سردي يرتبط بالسياق العام , أزمة إنسانية , ترتبط بعامل الزمن , الذي بمروره تزداد الخسارات الجسيمة , وكل هذه الخسارات كانت موجودة لديها , بداية من الزوجات المتعددة لزوجها , ومرورا بتفلت ابنها البكر من يديها وانحنائه إلى الشامية , وانتهاء بالتحول الخاص بكل السياقات التي كانت تحاول تثبيتها .
هذه الأزمة المملوءة بالخسارات , جعلتها , تتجه لتثبيت سلطتها في اتجاه آخر , يتمثل في دور الرقيب , في المسافة الفاصلة بين عالمين , كشفت عنهما الرواية بالتفصيل .
إن هذه العتبات الجزئية باختلاف وظائفها الدلالية , تجلت بشكل فاعل , وكشفت عن دور مهم , لأنها أسهمت في وجود إطارات أو خيوط سردية , شكلت في النهاية البناء السردي للرواية .
الهوامش
(1) عبد الملك مرتاض : في نظرية الرواية , عالم المعرفة , ديسمبر1998, ص116
(2) عبد الرحيم حمدان : اللغة في رواية تجليات الروح , مجلة الجامعة الإسلامية , مجلد 16 , عدد 2 , يونيو 2008 ,ص104
(3) أميمة الخميس : البحريات , دار المدى , سورية , 2006 , ص260
(4) حسن النعمي : مدخل إلى الآخر في الرواية السعودية , الراوي , مارس , 2008 , ص115
(5) أميمة الخميس : السابق , ص47
(6) أميمة الخميس : السابق ص87
(7) فيصل دراج: نظرية الرواية , المركز الثقافي العربي , ط2 , 2002 ,ص 66
(8) أميمة الخميس : السابق , الرواية , ص35
(9) أميمة الخميس : السابق , ص60
(10)أميمة الخميس : السابق ص36
(11)أميمة الخميس : الرواية , ص187
(12)أميمة الخميس : الرواية , ص223
(13)أميمية الخميس : الرواية , ص210
(14)محمد بو عزة : التشكيل اللغوي في الرواية , علامات سبتمبر 1999 , ص76
(15)مفيد نجم : شعرية اللغة وتجلياتها في الرواية العربية , نزوي عمان , عدد ( 51 ) ص32
(16)عبد الرحمن حمدان : السابق , ص120
(17)جميل حمداوى : اللغة في الخطاب الروائي .
(18)محمد بو عزة : السابق , ص83
(19)أميمة الخميس : السابق , ص 16
(20)أميمة الخميس : السابق , ص54
(21)أميمة الخميس : السابق , 107
(22)أميمة الخميس : السابق , ص113
(23)محمد بو عزة : السابق , ص78
(24)ميشال بوتور : بحوث في الرواية الجديدة , منشورات عويدات , ط1, 1986, ص35
(25)رولان بارت : النقد البنيوي للحكاية , ترجمة أنطوان أبو زيد , دار سوشبرس , الدار البيضاء , ط1 , 1988 , ص95
(26)ميشال بوتور : السابق , ص34
(27)رولان بارت : السابق, ص15
(28)أميمة الخميس : السابق, ص176
(29)أميمة الخميس : السابق, ص93
(30)أميمة الخميس: السابق, ص34
(31)أميمة الخميس : السابق, ص100
(32)أميمة الخميس: السابق ,ص191
(33)أميمة الخميس : السابق, ص116
(34)أميمة الخميسي : السابق, ص246
(35)أميمة الخميس : السابق , ص48

 

 

 

Posted by drgham68 at 8:06 PM 0 comments Links to this post 
Wednesday, December 24, 2008
تحولات أمجد ناصر السعرية

 

 

تحولات أمجد ناصر الشعرية
عادل ضرغام
يشكل الشاعر أمجد ناصر بإبداعه الشعري خطا شعريا خاصا, بعيدا عن شعرية قصيدة النثر, التي تجلت لدى روادها المعروفين, وربما كانت هذه الخصوصية ماثلة في جزئية هامة وأساسية, وهي أن أمجد ناصر بداية من ديوانه الأول (مديح لمقهى آخر), إلى ديوانه قبل الأخير (حياة كسرد متقطع ), لا يتوقف عند حدود مرحلة فكرية معينة, ينميها وينحتها بشكل خاص من تتابع دواوينه, وإنما نجده في كل ديوان – انطلاقا من فكرة الحزم الدلالية- واقفا عند حدود مرحلة فكرية خاصة, سرعان ما ينتقل إلى غيرها في ديوان تال, وهذه السمة ليست مهمة إلا إذا ارتبطت بأنساق أسلوبية يظل حضورها فاعلا مع اختلاف الذرى الفكرية التي ترتادها.
إن هذا التنوع في جانب المناحي الفكرية لشعريته, بالإضافة إلى وجود سمات أسلوبية لها حضور فاعل ومتجل في معظم دواوينه, هو الذي يجعل منه شاعرا تجريبيا بامتياز. وربما كانت السمة الفاعلة- والتي استمرت على مدار رحلته الشعرية- متمثلة في الوعي بسؤال الشعر, وماهيته, وأين يسكن, فالشعر أو الفن لا يظل في مكان واحد نظرا لديناميته, فهو تارة يسكن الموضوعي وفي الالتحام بالآخر, وتارة يسكن المهمشين والفقراء, وتارة نجده واضحا في الالتحام بالتاريخ ونماذجه المنكسرة, ففي ديوانه (مرتقى الأنفاس) نجده لا يستسلم بسهولة للتاريخ, وإنما يقدم وعيه الخاص بالفرد (أبو عبدالله الصغير), بعيدا عن الصورة التاريخية المؤسسة بالمراجع وكتب التاريخ الجاهزة.
وتأتي الصورة الشعرية – بوصفها أداة جاهزة للتفريق بين شاعر وآخر- مهمة في ذلك السياق, فصور أمجد ناصر لا تشبه صور مجايليه أو سابقيه, وإنما هي صور تنحت وجودها الخاص من تفردها, والتحامها بالبدوي والهامشي والإنساني في مداه الرحب, وصوره -في ذلك السياق- ليست صورا جزئية أو مجهرية مشدودة إلى نتوء أو بتر, وإنما مرتبطة بكيان أكبر يكيفها, وهذا الكيان الفكري الأكبر يجعل الوقوف عندها – بشكل منفرد بعيدا عن التوجه الفكري – وقوفا حذرا لا طائل منه, فالفاعلية الكبرى للسياق, الذي يعطيها قيمة ودلالة.
وربما كانت السمة السابقة – المرتبطة بالصورة – سببا في وجود سمة أخرى وأساسية, وهي التسليم التام أو الاحتماء بغابة الصور, التي تنمو تدريجيا داخل الإطار العام. وهذه الصور مشدودة إلى أطر فكرية, قد تكون بعيدة للوهلة الأولي, لأنها لا تنمو على منطق واقعي, وإنما تنمو في إطارمنطق ذاتي نفسي خاص, ولكن مقاربة السياق الفكري, يجعلها تنتظم –في النهاية – في إطار معرفي خاص.
في قصائد ديوانه (مديح لمقهى آخر) يمكن أن نجد ارتكانا إلى وجود الذات, بوصفها تمثل حضورا فاعلا, يكون صدى قويا في تكوين النموذج الخاص بهذه الذات, وإن تدثر بمحاولة انقسام وانفلات واضحين, خاصة في قصيدته (الفتي), التي تشير إلى رصد للذات في التحامها مع الآخر مملوءة بوهج رومانسي:
ولي أن أتابع هذه الطيور التي تتشرب روح الفتي
قهوة في الصباح الجديد
وتستل من دوحة القلب
نصل القصائد
والطير والحجر الحي
ولكن هذا الوهج الرومانسي, الذي تجلى في بعض قصائده من ديوانه الأول, خاصة قصائده الموزونة, ما لبث أن تحول إلى نسق آخر, في ظل سيطرة وعيه الباكر بالسؤال الشعري, وتحولاته وأنساقه المختلفة. وهذا الوعي الباكر بماهية الشعر حما نصه الشعري من الوقوع في الإسراف الذاتي, فسرعان ما أدرك أن الذي يطلبه ليس في الوعي الرومانسي المعهود, وليس في تشظي هذه الذات في إطار جدلها اليومي المملوء بأسئلة وجودية, كما تجلى عند صلاح عبدالصبور, أو في تشكيل مناف للذات تتدثر باليومي الجزئي, كما ظهر واضحا عند سعدي يوسف, وإنما يسكن الشعر – انطلاقا من ماهيته – في التحول التدريجي من شكل إلى شكل, يكون هذا الشكل قادرا في لحظة من سياق حضاري ما على الإمساك, أو –على الأصح- على الاقتراب منه, والتماهي معه, ويكون السؤال الذي يبحث عنه الشاعر في ذلك السياق: أين يسكن الشعر؟ للاقتراب منه, هل يسكن في النمط الغنائي المؤسس؟ أم يسكن في مكان آخر, وعلى الشاعر أن يسلك طريقا أخرى للوصول إليه.
إن شعرية أمجد ناصر- من خلال هذا الوعي الباكر – تعاين السائد وترفضه, مبطنة طريقا أخرى للوصول إلى شعرية مغايرة, ففي قصيدة (موت الأغنية):
قال لي مرة
(نادرا ما يقول)
الأغاني يداهمها التافهون
فتنأى عن القلب
طير من الرغوة المعدنية
أقول لهذا الفتي
(حائر ما أقول)
ترى ما الذي نفر الشعر منا
وأسلم كف القصيدة للنار
أنا حائر ما أقول
أتابع شكل اختلاطك بالناس والأتربة
أراك تحط الخطي
وتشيل الخطي
وتذوب الخطى في شوارع عمان
والشعر ينأي
وتنأى الأغاني
وينأى الوطن.
لقد أثبتنا القصيدة – نصا كاملا – لأنها مهمة للإشارة إلى هذا الوعي الباكر, بسؤال النظرية, المتمثل في ماهية الشعر, في محاولة للتنصل من مسوح وأردية سابقة قديمة, للتجذر في سياق شعري جديد, يبني تواجده, ويثبت أعمدته, ليس من خلال المراقبة, كما كان يفعل شاعر التفعيلة القديم, وإنما من خلال التواجد في فلك التجربة, وكأنها نسق حياتي معيش, فالشعر- من خلال الحوار بين صوتين قد يمثلان الشاعر في ارتكانه وانطلاقه – لم يعد ماثلا في الأغاني الرتيبة, التي أصبحت غير فاعلة في القبض على أنساق شعرية, وإنما أصبح ماثلا في الاختلاط بالناس والأتربة, فالشعرية هنا تخلصت من كل أشكال التعالي السابق, لترتبط- بفعل المشاركة – بنسق المهمشين.
إن حضور الذات الذي تجلى في ديوانه السابق, نجده في ديوانه (منذ جلعاد) يخف وميضه, فالذات بفعلها ووعيها السابقين, لم تعد موجودة, ولم تعد تشكل حاجزا يبعد الرؤية الحقيقية عن التشكيل, ومن ثم نجد ذاتا واعية, تخلصت من محاولة الارتباط بهذا الواقع والانتساب إليه, ففي قصيدته (نشيد):
دم في كتب الدراسة
دم في الجملة الموسيقية الأولي
للنشيد الملكي
دم في المدارس
التابعة للقوات المسلحة
صاعد في المآذن
حتى انحناء الهلال دم
في اتكاءات الجبال السبعة دم
دم بين الشجر واللحاء
بين أفواهنا والابتهال.
نجد أن الرؤية في هذا النشيد ,تنطلق من الكلمة المحورية( دم), التي تأتي بوصفها جزئية فاعلة, في تغيير ملامح الجزئيات الصورية, التي أشار إليها, بداية من كتب الدراسة, ومرورا بالمآذن والجبال والشجرة, وانتهاء بالأفواه.
والدم – هنا- لا يأتي بوصفه جزئية بسيطة تضاف إلى هذه الجزئيات, لكي تشعرنا بالتغيير في ملامح التكوين, وإنما تشير إلى حضور أساس, وإلى وجود نسق عام يؤثر في البناء, وفي تشكيل الفرد بداية من لحظة ميلاده, إلى لحظة الوعي والمعرفة, فكل السياقات المحيطة أصابها العوار.
ولكن هذا التحول من نسق الوجود في الإطار إلى نسق مراقبة ذلك الإطار, وهو بعيد عنه, لا يتم بشكل حاسم, ففي بعض الأحيان, يطل هذا العالم – في إطار نسق الاستبصار- في صورة قديمة لا يمكن التخلص منها, لأنها تظل عالقة, ويظل لها وجود, في إطار سيطرة صورة جديدة يحاول الشاعر الانتساب إليها, يتجلى ذلك حين نتأمل قصائد مثل (حصاد) و(صلاح الشافعي), حيث نجد القصائد معنية بتقديم قراءة باطنية شديدة الخصوصية للواقع الفردي والجمعي, ذلك الواقع الذي يتجلى لحظة الانفلات إلى صورة جديدة, متماهيا مع الأماكن, التي يظل حضورها فاعلا, بالرغم من الانتقال من توجه إبداعي إلى توجه جديد, ومن رصد المقيم المشدود إلى طبيعة هذا الوجود, إلى رصد المفارق, الذي يقدم وجهة نظره بشكل محايد بعيدا عن أفق الذات:
نحتفظ من الأماكن
التي شيعتنا إلى ضجر الحقائب
بالصور التذكارية
الملتقطة مع العائلة.
صور حائلة الألوان
وعائلة مزدهية بالسلالة
وضجر الحقائب
وبريد لا ينتظم
ذلكم ما تبقى من
الأمهات.
ربما يمكننا الوقوف عند هذه القصيدة, من معاينة نسق أسلوبي مهم, أشرنا إليه سابقا, في شعرية أمجد ناصر, يتمثل ذلك الملمح في التمدد التركيبي, الذي يولد تمددا صوريا, فالقصيدة السابقة – أماكن – عند التأمل تتكون من جملتين, الأولى تنتهي مع كلمة العائلة والأخرى مع نهاية القصيدة, ولكن عند التأمل الدقيق سوف ندرك أن القصيدة تتكون من جملة واحدة, فكلمة (صور) التي تبدأ بها الجملة الثانية, تأتي وكأنها مفصل تركيبي, يحيل إلى كلمة (الصور) في الجملة الأولى, وهي وسيلة ربط معهودة في الشعرية العربية قديما وحديثا. ولكن هذا التمدد التركيبي في نص أمجد ناصر, أوجد التفافا صوريا, أو –على الأصح- تراكما صوريا, ولكن هذه الصور لا تبنى على منطق الواقع, وإنما نجدها – في أغلب الأحيان –مشدودة إلى ترابطات نفسية, وتحيل إلى جزئيات قد تبدو للوهلة الأولى متباعدة, ولكن جمعها في سياق معرفي واحد يهشم هذا التباعد.
وربما كانت الجزئية الفاعلة المحركة لحركة المعنى متمثلة في كلمة (الأماكن), وماذا يتبقى منها, بعد فعل الإقصاء الذي قد يكون إجبارا أو طواعية, وقد تشير كلمة (ضجر) المرتبطة بالحقائب, إلى مغايرة في شعرية أمجد ناصر عن شعرية سعدي يوسف, فشعر السفر المملوء بضجيج المطارات واليومي لدى سعدي يوسف, يفصح عن اختيار خاص, وكأن فعل السفر والرصد الآني للحياة في مختلف تجلياتها, يعطي هذه الشعرية زادا لا ينفد, أما لدى أمجد ناصر فإن السفر ما زال مملوءا بالضجر, وبحنين خاص للأماكن.
إن محاولة الاحتفاظ بالأماكن, ليست إلا محاولة استبقاء للحفاظ على ديمومة تواصل, من خلال التطلع إلى صور الذات مع العائلة, ولكن هذه الصور – الأماكن, لا تبقى على حالها, وإنما أصابها التغير, وهنا تطل الذات بوجودها المشدود إلى أفق قديم, وأماكن أصبح وجودها نفسيا, لكي تشير إلى وسيلتي التواصل, أولها الصور, التي لا تقدم صورة آنية, وإنما حائلة, والأخرى البريد غير المنتظم.
ويبدو أن الضجر الذي رأيناه واضحا, والمرتبط بالحقائب, كان له وجود بارز في هذه الفترة الإبداعية ,الخاصة بالانتقال من سياق إلى سياق , يتجلى ذلك في قصيدة (وحشة) حيث نجد أن هناك تناصا مع أسطورة بنلوبي, التي قدمت في شعرنا العربي الحديث بوصفها نموذجا أو رمزا للوفاء والانتظار, ولكن النص الشعري غير في ملامح الأسطورة, فجعل الانتظار مرتبطا بعودة الأبناء.
وسواء وسعنا دائرة التلقي وجعلناها مرتبطة بالأم – الوطن, أو جعلناها محصورة في إطار الأم المحددة, فإن هذه الجزئية تشير إلى حنين خاص, يمارس دوره في انفتاح النص الشعري, وتعالقه بين عالمين جديد وقديم. ويتجلى في بعض قصائد الديوان أن اختيار الجديد-في الأساس – كان اختيارا إبداعيا, لنسق معين, كما في قصيدة غياب.
أما في ديوان (مرتقى الأنفاس) فإن أمجد ناصر, لا يقدم الحادثة التاريخية, بوصفها حدثا تاريخيا فحسب, وإنما بوصفها حادثة تاريخية باطنية, فالمقصود ليس تقديم التاريخ, وإنما تقديم قراءة باطنية لآخر أمير مسلم سلم مفتاح غرناطة إلى ملك أسبانيا, وهو الأمير أبوعبدالله الصغير, آخر أمراء بني الأحمر.
والقصيدة لا تقدم التاريخ بوصفه يشكل ضغطا على الذات الشاعرة, ولكن النص الشعري يستند إلى جزئيات التاريخ بوصفها إطارا عاما, يعبر من خلاله عن الانكماش إلى الانكسار, والانعتاق من سلطة النموذج المتخيل, الذي يؤمن بجدوى القادم, فالرثاء في هذه القصيدة يمكن أن يخص كل إنسان عربي, في لحظته الآنية, وخصوصية القصيدة, لا تنطلق –كما فعلت معظم القصائد في ذلك السياق – من النوستاليجا أو الحنين إلى ماض زاهر, وإنما هي رثاء آني للحظة حضارية مطبقة بأطرافها في إطار سياقها الخاص.
ولقد اتكأ الشاعر على جزئيات مهمة, وحاضرة في التاريخ مثل (المرقب), الذي أثبتت المصادر أن الأمير الصغير صعد إليه لحظة الرحيل, وأطلق عليه الأسبان زفرة العربي الأخيرة, والنص يبدأ من هذه الجزئية بوصفها كانت نسق حماية ومراقبة, في لحظة السيادة, ولكنها تطل في الوقت الآني, بوصفها شاهدة على الموت, وانكفاء الأفق القادم:
لن نعرف كم غفونا هناك
تحت ظلال رموشنا
وكم دارت بنا الأرض
في كتب تناولها مقتنون عديدون
لكننا رجعنا أخف ما نكون
ولم نجد من تركناهم على الأبراج
يصدون رياحا من سبع جهات.
إن ضمير السرد الجمعي هنا, يشير إلى سياق ماض, وإلى سياق آني, يضمنا جميعا, ولكنه يشير – بالضرورة – إلى وجود إحساس خاص بالانكفاء, مشدود إلى الأمير الصغير, وقومه بني الأحمر,انطلاقا من مساءلة التاريخ لهم.
والوعي بهذه الجزئية – مساءلة التاريخ – يأتي في أجزاء عديدة من نص القصيدة, فالقصيدة تحاول أن تنفلت من الحدث التاريخي, فالمدونات التاريخية تشير إلى جبن وانهزام هذا القائد, أما النص الشعري لدى أمجد ناصر فيقدمه قائدا وجد في لحظة تاريخية, وشكل تشكيلا خاصا, جعله مطالبا بأن يسدد كل الفواتير السابقة للضعف والاستهانة.
والقصيدة من خلال اتكائها على السرد, وعلى تبريد الإيقاع, والبعد عن الاستعارات العلنية, التي شكلت في تجليات سابقة أفق الشعرية العربية, تلح على فقد ذلك القائد, من خلال لحظته التاريخية, وتكوينه الخاص لطفولته, التي وعد بها, ومضى يؤسسها في ذهنه:
….ووعدت بالغصن والثمرة
بالمنامة في الطرف الخالي
بالشميم منبلجا من ضربة السمهري
بجت ربيب الظل فلقتين
بغالب الجبابرة
أخذهم بالتلابيب
بساحبهم من خرزات دروعهم
يجرجره من على خيط اللعاب مدنفين
بالنوم نوم الذي مطمئنا
أن
الصباح
لناظره
إن الرؤية الشعرية في هذا الديوان تباين النسق التاريخي, لتصنع تاريخا نفسيا خاصا, لهذا القائد, فالشعر لا يتجلى فقط من خلال التاريخي, وإنما يرتبط بالحدس المشدود إلى الرؤية الباطنية, المنطلقة من الذات المنكسرة في تجليها الخاص, لكي تتماهى مع هذا القائد, فالإلحاح من خلال الاقتباس السابق على مجموعة ألفاظ تنتمي إلى نسق طفولي خاص, يشير إلى التباين الواضح بين نسق التكوين الذي شكل وعدا, وبين النسق الذي وجده مطبقا في لحظة النهاية, أليس هذا التباين في صوره العديدة مطبقا علينا في لحظتنا الراهنة.
في ديوانه (سر من رآك) تتخذ شعرية أمجد ناصر أفقا جديدا, وإن تجلى في بعض قصائد (وصول الغرباء), وهي جزئية ترتبط بمحاولة الالتحام بالآخر, والتوق إلى معرفته من خلال آفاق عديدة, وقد تجلى هذا الالتحام في توجهات عديدة, منها النسق التجريبي, الذي يفتح النص الشعري على كتابة الجسد, في إطارها الخاص, كما في قصيد (الرائحة تذكر), ففي هذه القصيدة تغدو الشعرية بوصفها محاولة لتثبيت وتكديس ما لا يثبت ولا يكدس:
الرائحة تعود لتذكر
الرائحة ذاتها
في المتروك
والمأهول
بالطيف والهالة.
فالرائحة بتجلياتها العديدة, تأتي وكأنها فعل مهم, لإعادة الانسجام, وللم المبعثر, وإعادة الهدوء إلى الذات, والتذكر بوصفه حضورا لحالة انسجام واكتمال سابقين يعيد رصد الأشياء المحيطة بالفعل, بوصفها محددات لتجربة ذات طقوس خاصة, بحيث تكتسب هذه الجزئيات داخل حدود الصور وفي ألق الفعل وجودا مغايرا عن وجودها المعهود, وتكمن هذه المغايرة – في إطار شعرية أمجد ناصر المعنية بالرصد الواصف دون تشنجات استعارية – في عاديتها, إذ يغدو إدراكها في إطار ذلك الحيز المهمش كشفا لها, ولوجودها الفاعل, ومن ثم ظلت هذه الجزئيات حاضرة في إطار فعل التذكر, القائم – انطلاقا من طبيعته – على انتقاء ملامح حميمية فاعلة:
الرائحة تذكر بأعطيات لم يرسلها أحد
بأسرة في غرف الضحى
بثياب مخذولة على المشاجب
بأشعة تنكسر على العضلات
بهباء يتساقط على المعاصم
بأنفاس تجرب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء
بمياه الأصلاب
مسفوحة على الدانتيلا
بالترائب .
إن الجزئيات العديدة السابقة, والتي تحيل إليها رائحة فعل التذكر, تأتي ملتحمة إلى حد بعيد بنسق صوري جارح يعتمد على جزالة بلاغية, مرتكنة إلى ثقافة ذات نسق جمعي, فهي مشدودة إلى القرآن الكريم, وإلى القصيدة النثرية في تجليها الغربي, المعتمدة على التمدد التركيبي الذي يشكل في النهاية نسقا بنائيا متكاملا, من خلال الاتكاء على الجملة المشدودة إلى ركنين ثابتين, ومن خلال الوسائل المعهودة في ذلك السياق.
والصورة – لدي أمجد ناصر- بالرغم من هذا النسق الثقافي, الذي يتجلى في إبداعه, في إطار سياقات متعددة, تظل مشدودة إلى بداوة خاصة, تجعلنا نرى أن هذا التكوين القديم, ظل فاعلا في شعرية الشاعر, حتى بعد انقطاع أسباب هذه البداوة, خاصة إذا جاءت هذه الصور البدوية مرتكنة إلى فعل الرائحة, وما تثيره من عملية اختمار الفعل الغريزي, في إطار تداعيات خاصة:
بمياه الأصلاب
مسفوحة على الدانتيلا
بالترائب
بأكباش يهيجها البول برواد فضاء تخطفهم سحنة
القمر
بالصنوبري
بالليلكي
بالمشرئب
بأمطار على أسطح من طين
بحنطة مركوزة في الحظائر
وقد أشرنا – سابقا- إلى أن هذا الالتحام التجريبي مع الآخر, يفتح بابا لدخول شعرية أمجد ناصر إلى كتابة الجسد, ولكنها – بالرغم من ذلك – كتابة خاصة للجسد, لا تتوسل بالتهتك وكتابة الإيروتيكي, بوصفه أفقا مقصودا, وإنما تكتبه متوسلة ومشدودة – في ذلك السياق إلى الإنساني في مداه الرحب, وكأنه فعل حميمي, تتوسل به الذات الإنسانية لكي تبقى في انسجام تام قبل تشظيها بفعل الصحو:
يا لأحكام النهار إذ تبدأ القهقري
وللمواضعات إذ تساقط تباعا
وللرغبات إذ تطلق فهود الكتفين
لتجوس مفازة الهجران .
إن شعرية أمجد ناصر شعرية تجريبية في الأساس, تحاول الانفلات من المؤسس لتنحت لنفسها دربا خاصا, ينطلق – في الأساس – من سؤال مؤداه: أين يسكن الشعر؟, وارتحالاته العديدة, التي تجلت في دواوينه الشعرية, ليست إلا بحثا عن الشعر, ومكان تواجده, وماهيته وآلياته التي تتغير يالتدريج نظرا لطبيعته الدينامية.

Posted by drgham68 at 6:12 PM 0 comments Links to this post 
Monday, December 22, 2008
حوار مع الناقد المصري عادل ضرغام
حوار مع الناقد المصري الدكتور عادل ضرغام

محمد القذافي مسعود
05/12/2008
قراءات: 60

حوار : محمد مصطفى حليمة *
محمد القذافي مسعود **

بطاقة :
الدكتور: عادل ضرغام أستاذ النقد الأدبي جامعة الملك خالد أبها- السعودية .. مواليد المنوفية عام 1968 المؤهلات العلمية: 1 – ليسانس دار العلوم جامعة القاهرة (جيد جدا) 1989 2 – ماجستير (توظيف اللون في شعر التفعيلة لدي شعراء الستينيات في مصر) بتقدير ممتاز 1995 3 – دكتوراه (شعر الأبيوردي – دراسة نصية) بمرتبة الشرف الأولي 1999 4 -أستاذ مساعد الأدب العربي كلية دار العلوم – الفيوم 2004 الإبداع: العشاق شعر 1997 الأبحاث: 1 – تطور الشعرية 2001 2 -السؤال الميتافيزيقي 2002 3 – سلطة النموذج 2003 4 – التناص بين الامتصاص والحوار 2004 5 -الوعي الذاتي بالآخر 2005 6 – جماليات التقرير في القصيدة الحديثة 2006 7 -الشعرية السعودية المعاصرة 2006 8 – تحولات الضمير السردي في سيفيات المتنبي 2007
في ضوء قراءتك للممارسة النقدية العربية كيف ترى الدرس النقدي العربي الآن وإلى أين وصلت أكاديمياتنا العربية ونقادنا العرب وبما يفسر تعطل تواتر وتراكم النقد العربي بشكل منهجي في المشهد الثقافي العربي وما هو موقع الناقد العربي الآن من هذا المشهد وماذا عن الإشكالات العميقة التي يعيشها النقد العربي المعاصر وسبل حلولها برأيك ؟
هذا السؤال يطرح قضايا مهمة ,مرتبطة في الأساس بأنواع الخطابات النقدية الموجودة في الإطار الثقافي الآني,فهناك خطاب أكاديمي فقد بريقه تحت سيل المجاملات والمشاكل الإدارية العديدة ,إلا في حالات قليلة ونادرة ,يستطيع هذا الخطاب أن يكون مؤثرا وموجها ,بالإضافة إلي خطاب نقدي آخر,قد يكون انطلق من الخطاب السابق ,ولكنه لم يعد يحفل به ,ولم يعد متأثرا بسلبياته ,أو تابوهاته القاتلة ,بل يستجيب هذا الخطاب في تجليه لسياق حضاري محلي , ولسياق عالمي ,مولدا من السياقين بؤرة للتحرك والفاعلية المؤثرة ,حتى لو كانت هذه الفاعلية وهذا التأثير داخل نطاق نخبوي ,وأصدق مثال علي هذا الإطار يأتي واضحا في سياق مشروع بعض الأسماء العربية ,وأهمهم جابر عصفور ,ففي غضون السنوات الأخيرة نجد لديه مشروعا خاصا , يتسم بالتنوير ,من خلال الجدل مع الأفكار البالية المؤسسة , وقد أفاد هذا الجدل في تحريك زاوية ووجهات النظر في معالجة القضايا بعيدا عن التحديد الصارم .
وهناك في الإطار ذاته الخطاب الصحفي المرتبط بالمتابعة الصحفية , وهو خطاب مهم إشهاري في الأساس ,شريطة أن يتخلص من سيل المجاملات والانتماءات . وحتى نكون منصفين ,يجب أن نشير إلي خطاب أخير حتى لا تكون الصورة مظلمة ,إلى أن هناك خطابا ينتمي إلي الخطاب الأكاديمي ,ولكنه يتعاظم على معوقات هذا الخطاب من خلال العمل الصامت الفردي ,منهم أساتذتي الذين أدين لهم بالفضل محمد فتوح أحمد وعبد الحميد شيحة وصلاح رزق ومحمد حماسة عبد اللطيف ,فهم أساتذة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى , بإيمانهم العميق بالعمل الجاد .
هذه الخطابات من خلال تجليها المرصود تشير إلى أزمة حقيقية ,ولكنها ليست أزمة مرتبطة بالنقد فقط ,وإنما هي أزمة ثقافية , فنحن لم نصل إلى فهم حقيقي لقيمة الثقافة ودورها , فأنت تستطيع الآن أن تجد أستاذا للأدب والنقد , ولكنه ليس مثقفا , وليس مهموما بالثقافة, بل هو مهموم بالحصول علي الدرجة العلمية , ومن ثم يجب البحث عن آليات فاعلة لاستمرار عملية البحث .
وثمة سبب آخر جوهري يرتبط بمساحة رؤيتي للآخر ورؤية الآخر لي ,ففي الفترة الأخيرة أصبح لدينا يقين بقيمة ما عندنا , حتى دون أن نعرضه علي الآخر , ومن ثم أصبح مهما التخلي عن هذا اليقين الحاد , الذي يضخم الذات بما لديها , دون رؤية حقيقية قائمة علي النقد الفاعل .

يصف البعض المشهد الثقافي العربي المعاصر بأنه مشهد أزمة ربما يعرضها للتماهي مع الآخر أو للاندثار حسب ما يراه هذا الرأي فما رأيك ؟
المشهد الثقافي العربي يمر بأزمة فعلا , ولكنها ليست أزمة ثقافية فقط ,هي أزمة اقتصادية في الأساس ,فهل نستطيع أن نطلب من الفرد العادي أن يهتم بالثقافة , ونطالبه بمطالعة الرواية والشعر والقصة وهو لا يملك ثمن الخبز , وهذه جزئية مهمة ,فأزمة الثقافة مرهونة بالسياق العام , وهو سياق مخز إلي حد بعيد , أزمة تنطلق من وضعية الثقافة في مجتمعاتنا العربية , ودورها في تشكيل هاجس ملح للفرد .خذ مثلا الثقافة المصرية التي كان لها دور رائد ,فهي للأسف لم يعد لها هذا الدور الفاعل, فقد أصبح يتواري بالتدريج ,وهذا التواري له أسباب عديدة ,منها سيادة الثقافة الاتباعية التي تعرقل أي اجتهاد , بالإضافة إلي وجود أصوات ذات سلطة مانعة ممعنة في اليقين بما لديها , وكأن أي حركة جديدة تهدم مشروعية وجودها وتزلزل هذا الوجود .
أما جزئية تعرض الثقافة العربية للتلاشي تحت تأثير هذا الضعف والوهن ,فربما جاءت هذه الجزئية من التفريق في الدراسات الغربية بين ثقافة نخبوية (غربية ) وثقافة هامشية (عربية ), وهذا تصور نظري في الأساس , يضعنا لحظة الإيمان به في مرتبة أدني نحن موجودون فيها فعلا .ولكن بالرغم من مشروعية هذا التصور ووجوده في تنظير الغربيين وبعض الكتاب العرب , إلا أننا يمكننا العمل علي تفادي هذا المحو أو محاولة المحو , ليس بالتدثر بما لدينا , وإنما بمقاربته مقاربة جادة تجعله منطلقا جاهزا للبناء , بالإضافة إلي معاينة ما لدي الآخر , والاستفادة منه علي نحو يتيح لنا الاستمرار في إطار خصوصية ثقافية , لا تنفصل عن العالم , ولا تسير في ركابه أو ذيله , وإذا عدنا إلي فترة من فترات القوة في تراثنا , فلن نجد ثقافتنا منزوية أو متدثرة بذاتها , وإنما مرتبطة بما لدى الآخر. ففي السياق العالمي الآن لا يمكن تحديد الأنا إلا من خلال سلسلة من التباينات والتشابهات مع الآخر .

ما مدى نفاذ الفكر الأصولي وعمليات التغريب وأثريهما في تطوير وانتشار الرؤى النقدية العربية ؟
أنت في هذا السؤال تشير إلى اتجاهين فاعلين في تهميش وتخريب النقد العربي بصفة عامة , فالفكر الأصولي المملوء باليقين الذاتي بما لدي الناقد العربي من آليات مؤسسة , وقف في منطقة قاحلة ودائرة مغلقة , فهذه الآليات لكي تكسب مشروعيتها تحتاج دائما إلي تفعيل أو تخصيب يغير من طبيعتها , لكي تكون ملائمة وفاعلة في رصد المتغيرات العديدة التي تلاحقنا كل يوم , بل كل لحظة , وهذا التوجه المملوء بالتغيير لم يكن واردا في ذهن أصحاب هذا الاتجاه , بل ربط أصحاب هذا الاتجاه -لانطلاقهم من سلطة قامعة -هذا التوجه بالدين , وكأن الدين يدعوهم إلى الوقوف عند أجداث الأسلاف دون إضافة توجهات جديدة تتطلبها المرحلة المعيشة المعاصرة .
أما الاتجاه الثاني وهو يأخذ الطرف المقابل ,فإنه لا يري أن هناك تغيرا قد يوجد إلا بتدمير الأسس والمنطلقات الأساسية , التي ينطلق منها نقدنا العربي , وذلك من خلال جلب الموضات أو النظريات الغربية لتطبيقها علي أدبنا العربي .فإذا تأملت التطبيق وجدته تحول إلى أرقام ورسوم ومعادلات , مع أن الفكرة بسيطة إلي حد بعيد ,ويمكن التعبير عنها في جملة واحدة بلغة عربية فصيحة .
ما الحل إذن ؟هل ندعو إلى الوسطية التوفيق بين الاتجاهين ؟لا إننا نؤمن إيماننا كاملا بأن المنحازين هم الذين يصنعون تاريخ الشعوب والأمم,وهذا الإيمان يجعلنا نرحب بهذا التعدد, ونثمن مشروعية وجوده, شريطة أن يطور أصحاب كل اتجاه أدواتهم ,بحيث تكون مناسبة لمواجهة الظاهرة , فأنا لا أستطيع أن أدرس سعدي يوسف أو عفيفي مطر ,أو أدونيس أو أمجد ناصر منطلقا من تحديدات السكاكي,والعيب ليس في تحديدات السكاكي وآلياته , وإنما في قدرة الناقد في تفعيل وتخصيب هذه الآليات , التي كانت فاعلة في زمانها , وتحتاج إلي إعادة صياغة وفق متطلبات اللحظة الراهنة .
وكذلك في الاتجاه التغريبي , لا يمكن أن أحيل العمل النقدي إلي أرقام ورسوم وأسهم , وأسمي ذلك نقدا , النقد في الأساس جسر بين النص والقارئ , ولغة الكتابة فيه أهم سماته وميزاته .ويبدو أن بعض النقاد يرى أن الارتباط بالنصوص ومقاربتها يعد عملا تابعا, فالتغريب في بعض الأحيان يأتي من محاولة التعاظم على دور الناقد , الذي يأتي بعد دور الشاعر , فحين يحاول الناقد التعاظم ويحاول أن يكون سابقا يتولد هذا التغريب , الناقد الذي يأتي قبل الشاعر كان مقبولا في مرحلة سابقة علي عهد العقاد ومندور وطه حسين , ولكن في اللحظة الآنية , وفي ظل التعقيد , يتحتم الدور التفسيري التابع , الذي يحدد مكان الناقد بعد وليس قبل النص .وهنا يمكن أن أشير إلي نموذجين مهمين , وهما أدبية النص لصلاح رزق ,فقد عمل في كتابه المهم علي تفعيل المقولات القديمة بشكل لافت يجعلها دائمة الحضور في سياقنا المعاصر ,وكذلك كتابات محمد عبد المطلب ,فهي في معظمها تحاول إعادة قراءة الماضي وفق لحظة ومنطلقات آنية .

الإعلام والمثقف العربيان هل هي علاقة تسير على قدم واحدة وهل تدار هذه العلاقة في النور ؟ وما هي مقترحاتك لتنمية وتفعيل دور هذه العلاقة تجاه خصوصيتنا وقضايانا العربيتين ؟لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال إجابة شافية وحيادية ,لأني في الفترة الآنية , أري القيمة الكبرى للمثقف تنبع في الأساس من الانعزال , عن الإعلام بأشكاله المختلفة , ربما كنت متأثرا في ذلك السياق بنماذج عديدة كان لها دورها الفاعل والريادي في حياتنا الثقافية , بالرغم من كونهم بعيدين عن الإعلام بشكل تام , مثل جمال حمدان والطاهر أحمد مكي , ومحمود الربيعي .
يؤيد هذا التوجه أن النماذج الواضحة التي تطل علينا صباح مساء مع وسائل الإعلام كأنها ماء الصنبور ,تشعرك بالضعف والوهن ,مما ولد لدي يقينا أقرب إلي الوضوح , يتمثل هذا اليقين , في أن المثقف الملمع إعلاميا نموذج ضعيف أو مؤدلج ,يحاول أن يستر هزاله وتهافته بهذا الظهور المتكرر . إن تفعيل هذه العلاقة يحتاج إلي وضع الإعلامي المناسب في مكانه المناسب أولا ,وإذا حدث هذا – وأشعر بصعوبة تحقيق ذلك إلا في حالات نادرة – فإن منظور الاختيار سوف يتغير, وكذلك في الصفحات الأدبية في الصحف , فإنني أشعر أن ما تقدمه بعض الصفحات الأدبية , فيها نوع من الصفقات والحسابات المدروسة جيدا .يجب -أيضا -أن تكون الثقافة ضمن منطلقات الأجهزة الحكومية في كل بلد عربي,مثلها مثل أي شيء حيوي, وهذا لا يتحقق في إطار رسمي فقط,بل يجب أن يصاحب ذلك توجه علي مستوى الفرد .

في رأيك من هو الشريك الحقيقي للمثقف العربي اليوم ؟
لم أفهم – بالضبط-المقصود من السؤال ,ولكن أن أردت السؤال عن جزئيات فاعلة في مساندة المثقف , فإن هذه الجزئيات في ثقافتنا العربية ما زال دورها محدودا , وتحتاج إلي تفعيل .خذ مثلا جزئية الجوائز الحكومية , فإننا بعد إعلان هذه الجوائز نسمع عن تمتمات,تشير إلي طريقة ومشروعية الاختيار .وتوجه بعض أصحاب الأموال في طرح جوائز تحمل أسماء هؤلاء الأشخاص ,فإن هذه الجوائز -خاصة مع بعض رجال الأعمال المصريين-ما زال يشوبها الشك والريبة .خذ- أيضا -المؤسسات الثقافية ,التي ينتمي إليها المثقف ,فبعض هذه المؤسسات يصبح دورها فاعلا , إن وجد ما يمكن أن نسميه تطابقا في الأفكار ,وزاوية الرؤية ووجهة النظر , ولكن هذه المؤسسات حين نغربل ما تقوم به ,يصبح محدودا جدا , لأنها -انطلاقا من نظرتها الشمولية – تنظر إلى المثقفين نظرة واحدة , ولا تفرق بين الغث والثمين .
أما إذا كنت تقصد الشراكة مع المثقف الأجنبي , في إطار اتفاقيات المؤسسة الثقافية ,فهي تقوم بدور مقبول , شريطة أن تفعل بشكل حيوي , ولا تصبح إطارا شكليا فقط , وهنا يجب أن نشير إلي أن بوصلة الثقافة العربية في التعامل مع الثقافة الأجنبية كانت فردية في الأساس , وترتبط بقيمة المثقف الذي أوجد هذا الربط .خذ مثلا العقاد أو طه حسين بوصفهما نموذجين , فالأول -ومعه رفاقه- أوجد أرضية حية للثقافة الانجليزية , والثاني -بالاتكاء علي ما قدمه الطهطاوي -شكل أرضية حية وميلا للثقافة الفرنسية, ولكن في الفترة الآنية , ومع نمو المشروع القومي للترجمة بوصفه مؤسسة منفصلة عن المجلس الأعلى للثقافة , فأظن أن هذا الدور لم يعد فرديا بشكل كامل , وإنما أصبح هناك ما يمكن أن نسميه سياسة ثقافية تحدد إلي حد ما طبيعة التوجه , مع الانفتاح في الوقت ذاته على كل الثقافات .
الشراكة الحقيقية بالنسبة للمثقف العربي مرتبطة -في الأساس- بتوفير المناخ المحفز علي الإبداع , وهذا المناخ ليس سياسيا فقط , وليس اجتماعيا فقط , وإنما يتشكل هذا المناخ وفق سياق خاص , يعيد للمثقف دوره الريادي المفقود .

مالذي ينقص المثقف العربي لتحقيق طموحاته ؟
أهم شيء -بكل صدق -ينقص المثقف العربي , يتمثل في أن دوره في الفترة الآنية غير محسوس , سواء على المستوى الرسمي أوالشعبي ,ففي فترات سابقة كان للمثقف -المثقف الرائد- دور واضح ,وكانت كلمة منه سلبية أو إيجابية , كفيلة بخفض أو رفع قيمة روائي أو شاعر أو كاتب قصة , لأننا كعرب في فترة سابقة كنا نجيد فن صناعة المثقف الرائد , أما الآن فإننا – لأسباب عديدة -لم نعد نجيد هذا الفن , وقس هذا التوجه في كل الأمور الخاصة بالفن والثقافة .
ما ينقص المثقف -أيضا – جزئية التواصل , وفقدان هذه الجزئية المهمة , لا يرتبط كما يردد البعض بالمثقف أو المبدع فقط , وإنما يرتبط بسياق عام لم يعد يعطي الثقافة اهتماما خاصا , إن الصفحات الثقافية علي سبيل المثال في صحفنا العربية هي أول الصفحات التي تلغى لصالح الرياضة والإعلانات التي تدر دخلا …فهل تأتي فترة -كما كان موجودا سابقا – ونجد قصيدة لشاعر أو قصة لقاص أو مقالة نقدية لناقد متصدرة الصفحة الأولى .ما ينقص المثقف في سياقنا الآني , العمل الجماعي الذي يشكل الرؤى والتصورات , التي يمكن أن تكون وثيقة الصلة بتلك المرحلة , فالمثقفون العرب يعملون وكأنهم جزر منفصلة , فإذا التقت هذه الجزر , فإننا نجد الشد والجذب واضحين . خذ مثلا السجال الدائر بين (الجابري ) و(طرابيشي ),فهذا السجال – بالرغم من كونه صحيا ومفيدا -لم يستثمر نقاط الاتفاق , ولم يقارب نقاط الاختلاف مقاربة صحيحة , والمتأمل لهذا السجال يدرك أن البداية كانت تفصح عن نقاط اتفاق كبيرة , ولكن بفعل السجال غير البناء , تحول إلى عمل من أعمال النقض والمحو.

كيف تجد حضور الكلمة المكتوبة اليوم أمام الصورة ألم يسرق ( نص الصورة ) الأضواء من ( النص الثقافي المكتوب ) ؟
إذا كان السؤال عن تراجع الكلمة المكتوبة بالمقارنة بالصورة, وأن أدب المسلسلات والأفلام أصبح مسيطرا مقارنة بالمكتوب ,فهذا صحيح إلي حد بعيد ,ولكن كل هذا يعود إلى نص جيد مكتوب في الأساس , فالورق هو الفيصل , فوحيد حامد أو أسامة أنور عكاشة , لا يمكن أن تعتبرهما كاتبين للسيناريو فقط , فهما مبدعان قبل رؤية أعمالهما علي الشاشة , ولهما وجهة نظر في الحياة , ولهما قدرة علي استشراف المستقبل من خلال تحليل الواقع , ومن ثم فالكتابة -بالرغم من طغيان قيمة الصورة -تظل مهمة , لأنها الفعل المحرك لكل الأفعال التالية .أما إذا كنت تقصد القول أن فعل الإبصار والمشاهدة الساكنة , قد حل محل القراءة الفاعلة , فهذا أيضا به نوع من المشروعية , وقد استمعنا مؤخرا في ملتقى النص بجدة , عن جنس أدبي يعنى بالسيرة الذاتية المرئية للباحثة أمل التميمي ,وهذا يشير إلي أن عصر ما بعد الحداثة قد أعطى قيمة للصورة على حساب النص المقروء , لأن هناك توجها ما , يتعامل مع الصورة على أنها نص كامل الأركان , فتحليل الصورة , خاصة الصورة المتجذرة في السياق السياسي قد يكون فاعلا في رؤية الفعل ورد الفعل , بل في معرفة المواقف المطروحة المتعارضة , ومعرفة النتائج .

المثقف في العالم العربي أليس مساهما فيما يعيش فيه من حالة تهميش ؟
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحمل المثقف العربي , بتوجهاته المختلفة مسئولية اختفاء دوره , وتهميشه , بل على العكس من ذلك , فإن هذا التهميش يعود إلي حد بعيد إلي السياق العام الذي يتجذر فيه المثقف العربي , الذي تتكاتف فيه ظروف غير مواتية ومحبطة , التي تمنع قول الرأي المباين . والمثقف العربي في إطار هذا السياق العام يوجد بين مطرقتين : مطرقة المداهنة والتقية , وهي مطرقة تفقده منطلقاته الأساسية في التفكير والإبداع , وتفقده صدقه الحيوي ,وهناك على الطرف المقابل مطرقة الانعزال والتهميش , والانزواء والعمل بعيدا عن المؤسسات الموجودة بفعل هذا السياق الخانق, ولكن مطرقة الانعزال والانطواء والتهميش أقل ضررا , لأنها لا تقضي على سلطة وجوده , ولا تغير منطلقاته الأساسية , هي فقط تؤثر على دوره التواصلي الفاعل .
إن دور المثقف في تهميش دوره قد يكون مرتبطا به بنسبة ضئيلة جدا , بكونه لم يستطع أن يجعل هذه الظروف عامل دفع للأمام , وكثير من المثقفين تعاظموا على هذا السياق , بردود أفعال مختلفة , مثل الهجرة , أو بناء أنساق فكرية شديدة الخصوصية بهم , ومن ثم تلاشت أسباب الصدام مع هذه السياقات .

ما هو تابو المرحلة في نظرك ؟
من المعروف بمرور الأزمنة أن التابو شكل بالتدريج , من خلال أصناف ثلاثة , وهي الجنس والدين والسياسة ,وهذه التابوهات الثلاث تكونت بالتدريج بفعل الأشكال الإبداعية المتوالدة تدريجيا .
إن السياق العام يشير إلى أن مقاربة التابو الديني أصبحت نسقا فاعلا في اللحظة الآنية , وخاصة بعد أن أصبح الهجوم على الإسلام عمل من لا عمل له , ومنطلقا لكل خال من الموهبة , وكأن الهجوم على الإسلام -نظرا لردود الأفعال المتباينة – يضع صاحبه موضع شهرة واهتمام غير عاديين , والدليل على ذلك الفيلم الهولندي , الذي أساء للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم , فالفيلم بمقياس الجودة الفنية , كما أشار إلى ذلك الهولنديون أنفسهم ضعيف ورديء ولا قيمة له ,ومن ثم فهي خطوة من صاحبه , لكي يكون في دائرة الاهتمام . فالتابو الديني في المرحلة الآنية والمقبلة سيكون موضوعا في بؤرة التركيز , خاصة في ظل صراع الحضارات والإثنيات العرقية , التي أخذت حيزا فاعلا في تشكيل ورؤية الآخر , ولكن هذا التوجه لا يلغي استمرارية وجود الأصناف الأخرى , وإن كان صليلها سيقل بالتدريج .

Posted by drgham68 at 8:48 PM 0 comments Links to this post 
Sunday, December 14, 2008
التجارب الشعرية في جيزان
التجارب الشعرية في جيزان-ورقة العمل التي شاركت بها في ملتقى الشعر 2007

إن مقاربة الشعر في منطقة جيزان في المملكة العربية السعودية تعد عملية صعبة إلى حد بعيد, خاصة إذا كان الدارس أوالباحث يقارب هذا الشعر وهو موجود على محيط الدائرة, وليس في البؤرة, والفارق بين الوجودين, لا يكمن في كون الباحث ينتمي إلى بلد أخري, وإنما ينبع من كونه ينتمي إلى ذاكرة إبداعية, قد تختلف في بعض وجوهها ومنطلقاتها, وهذا الاختلاف قد يدفع الباحث بعيدا عن المقاربة, خاصة بعد وجود بعض الأقوال التي ترى أن مقاربة الشعر السعودي بصفة عامة قد تكون لصيقة بالناقد السعودي, فهو الذي يعرف التقاليد الفنية, والتقاليد الاجتماعية التي قد تكون فاعلة في كشف النقاب عن تفرده وجماله.
ولكن- بالرغم من هذا التوجه الذي يشكل صعوبة ما ـ نجد أن هناك توجها آخر, قد يكون معينا على مواصلة العمل, يتمثل في (سلطة النموذج الفني), والذي وجد منذ الجاهلية إلى يومنا هذا, وهذا المصطلح ليس واضحا في ذهني في الفترة الآنية وضوحا تاما, ولكن يمكن كشف بعض دلالاتة من خلال الانطلاق من فكرة البيئة ودورها, وفكرة النموذج الفني الذي يتجه إليه الشعراء في فترة زمنية معينة, فوجود النموذج الفني بالإضافة إلى سطوته, تجعل أثر البيئة يقل أو يكاد يمحي.
وهذا النموذج الفني ليس ثابتا, وإنما هو متحرك من مكان إلى مكان, فالنموذج الفني الذي كان يتجه إليه (البارودي وشوقي وحافظ), كان موجودا في الجزيرة العربية بالرغم من تباعد المسافات والأزمنة, بينهما نجد النموذج الفني للرومانسية بشكلها المثالي موجودا في مصر, ماثلا في إبداع الديوان نظريا وإبداع (أبولو) شعريا, في حين أن النموذج الفني لشعر التفعيلة كان ماثلا في العراق, لدى السياب ونازك الملائكة والبياتي, أما القصيدة النثرية, فإن نموذجا الفني ـ بالرغم من البدايات التي تكون متقاربة ـ فإن نموذجها الأشمل ربما يكون موجودا في لبنان.
إن الوقوف عند مثل هذه الفكرة, التي يقل معها أثر البيئة يجعل مقاربة الشعر, عملا مشروعا لكل ناقد, حتى لو لم يكن واعيا وعيا تاما بالتقاليد الفنية أو الاجتماعية, التي تشكل ملامح ذلك العمل.
تبقى جزئية أخرى قد تكون سببا من أسباب الصعوبة, تتمثل في هذا المنحى التجميعي, الذي يضع شعراء السنوات الأخيرة في سلة واحدة, وهذا المنحى التجميعي ـ بالرغم من مشروعيته ـ قد يكون سببا في إهمال بعض الشعراء, فالشاعر يجب أن ينظر إليه على أنه فرد أو جزيرة قائمة بذاتها, ومن خلال هذا التوجه تسقط كل المصطلحات التي تعرقل هذه الفردية, مثل الحقب الزمنية القائمة على فكرة الجيل, وهي كلها توجهات ـ بالرغم من وجودها فاعلة في فترة من الفترات ـ تفقد وهجها بالتدريج.
وانطلاقا من الجزئيتين السابقتين, سوف أقوم بالوقوف عند بعض النماذج, التي تشكل من وجهه نظري الخاصة تميزا ما, فالقراءة النقدية عمل ذاتي في الأساس, بالرغم من محاولتها ارتداء مسوح الموضوعية..
حسن الصلهبي (رعشة شعرية جديدة):
يمكن أن نشير إلى أن ديوان حسن الصلهبي, (خائنة الشبه) الذي يزاوج فيه بين العمودي والحر, يمثل رعشة شعرية جديدة, وربما كان الإصرار على هذه المزواجة, سببا مهما في استخدام القافية في شعر التفعيلة بشكل خاص, فالشعر ـ أيا كان قالبه ـ لا يستغني عن القافية, ولكن هذه المزاوجة لدى حسن الصلهبي, جعلت للقافية دورا لافتا في شعر التفعيلة لديه, فشعره التفعيلي لم يتخلص من القافية تخلصا تاما, وسنجد لديه ـ أيضا ـ محاولة لتقطيع القصيدة العمودية, وكتابتها على نسق شعر التفعيلة, كما في قصيدة (خائنة الشبه) وقصيدة (في يدي يبرد الماء)…
أما في قصيدة (هلع يغمس في شبه كلام), فإن المتلقي سوف يفاجئ بجزئية مهمة, مغايرة للنموذجين السابقين, اللذين حاول من خلالهما أن يوهم المتلقي أنهما يندرجان تحت إطار شعر التفعيلة, بعيدا عن الشعر العمودي, فالقافية في هذه القصيدة ابتعدت عن مكانها المحدد, الذي تحدده لها القصيدة العمودية, وأصبحت ترد في المكان الذي يحدده السياق الدلالي أو الفكري, فهي هنا ليست محدده بنسق معين, وإنما يحددها ويطلب وجودها الفاعل النسق الفكري الخاص.
والمتأمل للقافية في هذه القصيدة, يدرك أنها جاءت مقيدة, وهذا التقييد يشير إلى مغايرة في رصد الذاتي والموضوعي, فهذا التقييد , يشير إلى أن الذات الشاعرة, تواجه كونا وعالما لا سبيل إلى مواجهته إلا بالتسليم, فهل يشي هذا التقييد القافوي بالهزيمة, وعدم القدرة على الفعل؟
إن التأمل في النص الشعري, سوف يجعلنا نجيب عن هذا السؤال بالإيجاب, لأن معاينة القصيدة, سوف تشير إلى أن هناك مغايرة في رصد العالم, وأن هناك مغايرة في لغة القصيدة, فصورة العالم ـ المرتبط حتما بالذات الشاعرة ـ لا يرتبط بحضور صوت الذات بشكل علني, فهناك محاولة للاختفاء من خلال فعل المراقبة:
يرمق الشارع آثار خطاي العاريه
يمرق الحزن من الرمل
كما يتوارى الماء
في وجه السراب
وتتجلى المغايرة في اللغة الشعرية, في خفوت النفس الرومانسي, فاللغة في هذه القصيدة أصبحت تتخلى بالتدريج عن المداميك المعهودة في القصائد السابقة, والقائمة على الاستعارة العلنية, وتحل محلها الصورة المشهدية الكاشفة, التي تكشف عن موت داخلي آني:
يا لبؤس العابرين
رقصوا للظل
لكن الخطايا
تتدلى من أغانيهم عناكب
فتحوا للموت باب
قعدوا مقعد من
أو شكت نيرانه أن تنطفئ
ففي المقطع السابق, نجد أن هناك جزئيات فنية تتكاتف فيما بينها, لتقديم صورة مشهدية للثبات والسكون, والوقوع في شباك دائرة مغلقة, بداية من رقصة الظل التي تشير إلى حركة ثابتة, ومرورا بالعناكب التي تتدلى من الأغاني, وانتهاء بالمقعد التي أوشكت نيرانه أن تنطفئ, بالإضافة إلى أن التقييد في القوافي المستخدمة, يشير إلى اندحار ما, وإلى سكون ما, وعدم القدرة على الفعل أو الحركة, أو الخروج من فعل الإغلاق المطبق..
ولابد من الإشارة إلى أن ديوان حسن الصلهبي (خائنة الشبه) يمثل رعشة شعرية جديدة, في الشعر الذي قرأته, خاصة في قصيدته إلى (الشمس), فقد اتكأ على القديم والحديث, وكون جديلة معاصرة لرؤية الذات الشاعرة للشمس, فالشمس في هذه القصيدة, ليست معطى من معطيات الطبيعة التي يراقبها الإنسان, ولكنها تأتي وكأنها معادل مراقبة للذات, فهي بوجودها اليومي واختفائها, معادل زمني مهم لقياس مدى الاقتراب من المتخيل النموذجي أو الابتعاد عنه, وربما كانت نهاية القصيدة هي السبب الرئيسي, في إدخال هذا المنحى الخاص بتلقي القصيدة:
غربت عني
وشرقت رغم انكساري إليك
تعالي لنحسم أمر هوانا المراق
على جدول الانتظار
فليس من العدل أن نحمل الماء في الكف
نحسب أنا نزرع تفاحة لا تلين
سنحصد ماذا
ضياع السنين ..
فوجود الغروب والشروق, بالإضافة إلى دال الانتظار في النص الشعري, يجعل حضور الشمس ـ في الأساس ـ مرتبطا بالزمن, بوصفها وحدة قياس مدركة بالحواس, للإشارة إلى مراقبة فعل الزمن بالذات الشاعرة, وقياس حجم المتحقق من سلطة نموذجها, وقياس حجم المتحقق من أسطورتها الذاتية المتخيلة.
وربما كان المدخل الفكري الماثل في القصيدة السابقة سببا مهما, في وجود مناح فكرية, متولدة عنه, ففي قصيدة (أخيرا سقط القمر), نجد أن هناك محاولة لإقامة جدلية تجمع بين الإنسان والشاعر, وهي علاقة جدلية مهمة, فالإنسان مشدود إلى جدل اجتماعي معين, والشاعر ذلك الكائن الموجود ولكنه لا يدرك, والذي بالرغم من توارية خلف الجسد الإنساني, يخطط له القادم, وهذه العلاقة رصدت من قبل شعراء عديدين في شعرنا المعاصر ـ بداية من أحمد عبد المعطي حجازي في الأمير المتسول, وسعدي يوسف في الأخضر بن يوسف ومشاغله, وأحمد بخيت في (الظل الثاني), وكل القصائد السابقة تشير إلى فكرة الصراع بين الإنسان والشاعر, وأن الشاعر المختفي, الذي لا يرى له قدرة على السيطرة والقيادة.
أما في الشعر السعودي فنجد الثبيتي من خلال قصيدة (القرين), ظل دائرا في ذلك النسق الخاص بفكرة الصراع, وإن جاءت قصيدته مرتبطة إلى حد بعيد بنص سعدي يوسف. ولكن قصيدة الصلهبي, لم تشر إلى هذا الصراع, وإنما أشارت إلى السقوط أو المجئ بعد الانتظار الطويل:
أتى دون وعد
ففيم أصب له قهوة البن
ليس لدي سوى قدح واحد
مترع بالفحيح وغزو الرياح
وبعض نوي.
فالقصيدة هنا ترصد هذا الحضور, وتلح على جزئيات كانت فاعلة في تكوين طبيعة الشعرية المقدمة, من خلال الاتكاء على مجموعة من الصور, مثل القدح المترع بالفحيح وغزو الرياح, وبعض نوى.
والقصيدة تلح في كل مقطع من مقاطعها على بعض صور, يمكن أن تكون كاشفة عن توجه الشعرية, فإذا كانت الشعرية في المقطع الأول جاءت كاشفة عن نسق ما, من خلال القدح المترع بالفحيح والرياح والنوى, فإنها في المقطع الثاني: (ألست أنا الآن في مهمه ـ من تشظي النهارات؟ كيف سأراب صدع المساءات؟: وفي المقطع الثالث يتحدث عن الظل:
(كيف تجشم حمى الرحيل ـ إلى زمن لا رصيد له ـ سوى قربة من ثقوب الفراغ).
وصورة الشاعر/ الظل في هذه القصيدة, جاءت مرتبطة بتصوير التعالي وانتظار الحضور, من خلال العنوان, (وأخيرا سقط القمر), و بإسدال نوع من القداسة (أنا آخر الميتين وأول من يبعثون), وهي تحاول أن تبني وجودها من خلال الاختلاف مع كل ما كتب في ذلك السياق, إلا أنها جاءت قريبة في بنائها من قصيدة (الغراب) لإدجار ألان بو.
طردية حسين سهيل في (للأقمار باب):
إن المزاوجة بين كتابة القصيدة العمودية, والقصيدة الحرة أو قصيدة التفعيلة, لها وجود بارز في إبداع الشعراء, الذين ينتمون إلى أجيال سابقة, وربما تكون هذه المزاوجة مقصودة لدى شعراء هذه الأجيال, التي بدأت- أو كانت قريبة من- كتابة شعر التفعيلة, للإشارة إلى القدرة على كتابة الشكلين, لنفي التهمة الجاهزة التي يطلقها بعض الشعراء العموديين على أصحاب قصيدة التفعيلة, ومن هولاء حسن سهيل, وإبراهيم صعابي.
وقد لفت نظري في ديوان حسين سهيل, بعض القصائد المهمة, التي تأتي في شكل الشعر التفعيلي, مثل قصيدة (كنت وحيدا), حيث يتكئ الشاعر على فكرة أو قصائد الطرائد في شعرنا القديم, ليقدم طردية من نوع جديد, ترتبط بفكرة الإبداع: يقول حسين سهيل:
كنت وحيدا
سوى فكرة
طاردتني عاما
وظلت شريده
كنت وحيدا سوى نجمة
تمتصني حين أغيب
وحين أكون
تكون الطريده
لم يكن بيننا نهر ولا بحر
غير الحروف العنيده
كانت تخرج من إصبعي فجأة
تنام وتغفو على هدهدات سعيدة
وحين أوقظها
تفر إلى جبل أخضر
في ثنايا القصيده
فالذي يقرأ هذا النص يدرك أن الشاعر على وعي تام بفكرة الطرائد في الشعر العربي القديم, ولكنه استخدمها بشكل مغاير, حيث حدثت في النص زحزحة وإزاحة لكل من المطارد والمطارد, وهذه الزحزحة مقصودة, للإشارة إلى تجذر الموهبة, وهذه الفكرة ـ أيضا ـ ألح عليها النص الشعري من خلال الاتكاء على الموروث العربي, بصفة عامة حين قال (كانت تخرج من إصبعي فجأة), فهذه الصورة تشير إلى صورة مؤسسة في المخيلة العربية, عن الطريقة التي يخرج بها الجان من جسد الإنسان, وهي تشير إلى تجذر الموهبة.
إن هذه الفكرة التي تشير إلى فكرة الطرائد أو الطرائد بشكلها الإبداعي الخاص, وتشير إلى فكرة تجذر ووجود الموهبة, ربما كانت السبب, الذي جعل النص الشعري في النهاية يشير إلى الإمساك بالخاطرة الشعرية بشكل ناجز, بحيث لا تكون هناك فجوة بين المتخيل والمتحقق, فمعظم القصائد الشعرية التي أشارت إلى هذا المنحي, تشير دائما ـ وهذا هو الواقع الفعلي أو العملي ـ إلى هذه الفجوة, فالخاطرة الشعرية تظل سابحة, حتى بعد التعبير عنها, كما في قول سعيد عقل:
ضريحي شعر حبيبتي أطير إذا ما يقالُ
ويتجلى ذلك في قصيدة شوشة (اعترافات العمر الخائب):
الكتابات التي جفت على الأوراق ,
كانت ذات يوم , صوتنا العالي , لفح الشوق والرؤيا الحميمه
خرجت منها وجوه
لفعتها دورة الأيام,
شاخت في كوى النسيان
تحكي وجه بومة
إن هذا المنحى الإبداعي في شعر حسين سهيل في هذا الديوان له وجود بارز, يكفي أن نشير إلى قصيدة بين الحلم والجنون, للإشارة إلى تجذر هذا المنحى في إبداعه, ويتجلى أيضا في قصيدتي (ريح المائدة), وأنت كل الجهات.
والإنصاف يدعونا أن نشير إلى أن هذا السؤال الخاص بالإبداع له وجود ماثل في شعر شعراء جيزان بشكل لافت, كما في قصيدة (هي والقصيدة) لإبراهيم صعابي, وقصيدة (صاح بي صاحبي وانكسر) لعلي الأمير, وهذا السؤال الخاص بالشعر وآلية ميلاده, لا نجده إلا لدى الشعراء المهتمين بالتجريب والمغايرة وسؤال الماهية, لأن هذا السؤال يكشف عن أن مكان الشعر ليس ثابتا, فمرة يسكن في الموضوعي, وتارة يسكن في فعل المراقبة, وتارة يسكن في الجزئيات الخافتة في داخل الذات.

علي الحازمي: الغنائية الصوفية (الغزالة تشرب صورتها):
بالرغم كل ما يقال عن لغة علي الحازمي بوصفها لغة مملوءة بالغنائية , إلا أن هناك جزئيات عديدة تجعل هذا العمل, لعلي الحازمي عملا متفردا, أول هذه الجزئيات, التي ترتبط بالديوان هي جزئية الموضوعية, أو بتعبير النقاد الحزم الدلالية, فالديوان من بدايته إلى نهايته, يرتبط بنسق معرفي واحد, يحاول أن يقيم إطاره ويحدد خطوطه. صحيح أننا ـ بالرغم من هذه الموضوعية ـ لا نستطيع أن نمسك خيطا واحدا, ونقول عنه إنه الخيط الفاعل في الديوان, فهناك خيوط أو مداخل عديدة يمكن من خلالها مقاربة هذا الديوان, فهناك ذلك التوحد بين المرأة والمطلق, وكأن هذا التوحد يعبر عن سؤال وجودي. وهذا التوحد يمكن أن يرتد إلى خطوات بعيدة في تراثنا الشعري المعاصر, لدى محمود حسن اسماعيل, وإبراهيم ناجي والشابي. وأغلب التجارب الغزلية التي انتهجت نهج الطرق على باب لا يفتح, انتهت في النهاية إلى ذلك التوحد بين المرأة والمطلق, وتحول هذا التوحد بالتدريج إلى نسق صوفي خاص.
وهناك ـ أيضا ضمن المداخل العديدة لمقاربة الديوان ـ النسق الصوفي, الذي يبدأ بالسقوط, من لحظة التجلي الكامل, فهي لحظة الانقطاع والسقوط, والديوان في تقديمه لهذه التجربة المعرفية, لا يفصل بينها وبين تجربة الغزل العادية, وهنا يجب أن أشير إلى مصدر مهم, ربما شكل من وجهه نظري نافذة أساسية لعلي الحازمي, بداية من الإهداء إلى عناوين القصائد, وتقسيم الحزم الدلالية إلى ثلاثة أجزاء, وهو ديوان (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) لمحمد عفيفي مطر, هذا الديوان الذي كان له تأثير كبير في الشعر العربي الحديث, وتعامل معه النقاد على أنه يشير إلى فكرة وحدة الوجود, لأن العنوان مأخوذ من ابن عربي، ولكن التأمل الدقيق يجعله مرتبطا بتجربة حب عادية, قد ترتبط بالمرأة, أو باللغة أو بالقصيدة.
في ديوان علي الحازمي, نجد أن الإطار العام هو تجربة الغزل بمراحلها العديدة والمعروفة, ولكن بالرغم من وجود هذا الإطار العام, نجد هناك محاولة لربط هذه التجربة بنسق معرفي صوفي, فهناك التوحد قبل الميلاد أو السقوط, وتظل فترة الطفولة ـ في إطار هذا المنحى ـ أقرب الفترات إلى هذا التوحد, لأنها قريبة من السر:
حين ولدنا,
كما العشب بين صخور التلال القريبه
كنا قريبين من سرنا
قاب قوسين من منتهى الأغنيات,
التي يأسر الناي غربتها في أنين القصب
كان طفل هوانا ندى وشذى ممكنا
حين تبذرنا شمس آب.
فألفاظ مثل (السر ـ قاب قوسين ـ منتهي), كلها تجعل النسق الصوفي والمعرفي حاضرا, حتي لو كان النسق الدلالي الفاعل يرتبط بالغياب المعرفي لدى الطفل, الذي لا يدرك التقاليد المحددة والمانعة, وفي إطار هذا النسق الطفولي, يأتي الهوى ممكنا وتصير الدروب فضة للأناشيد, فمرحلة الطفولة القريبة من التوحد السابق مهمة في ذلك السياق, لأنها تحفظ له هدوءه واتزانه, وهي التي تعطي خياله مشروعية, وحلمه وجودا:
لن نتمكن من سرد سيرتنا في كتابين منفصلين
عن الوقت والروح
وليس لنا من خيار أخير
سوى أن نخبئ في جسد جسدين
فلابد أن أكونك أنت , ولابد من أن تكوني أنا .
إن معاينة هذا الجزء الأخير والمرتبط بتوحد مقترح, مشدود إلى مرحلة الطفولة والمرتبطة بغياب أسئلة معرفية خاصة, لا يظهر لها وجود إلا بعد الوعي بالحياة وتقلباتها مهمة, لأن الصورة المقابلة, سوف تقابلنا في القصيدة التالية (نخلة تسند العمر), ففي هذه القصيدة نشعر أن الإحساس بالشمس (معادل إدراك ومعرفة), واضح وجلي, فهي التي تروض خيل الظهيرة, التي تشير إلى مدى زمني يرتبط بمدى معرفي وإدراكي, لم يكن متاحا في مرحلة الطفولة, والخيل في ذلك السياق تأتي متشحة بالحلم ومرتبطة بالخيال, وارتباط الخيل بالظهيرة, يشير إلى فحوى دلالية مرتبطة بمشروعية الحلم في هذا المدى الزمني:
لنا الله
حين يلف اليباب حقولا من الحلم
رحنا نرى سنابلها في الفصول العصيه
وحدها خيلنا
حين تغدو إلى النبع
تشرب من خيلاء يلوح
على فضة الماء
تظل تراوح في سهل ثورتها
بانتظار المهب الأخير
كي تتوق طويلا لعودة فرسانها
من خريف بعيد .
إذا كان الصباح دالا على الطفولة, فإن الظهيرة تأتي عنوانا على فترة خاصة, لا يصلح معها الخيال فاعلا ومسيطرا, بحيث يشكل وتيرة فاعلة في تلقي الحياة بتقلباتها العديدة, وهنا تأتي الصورة المقابلة المرتبطة باليباب والخريف البعيد, فالخيل (معادل الحلم), لم تعد بسهولة تقتنص فريستها, وإنما أصبحت تراوح حتى ينتهي هذا الخريف.
وبداية من الظهيرة يتشكل لدينا جانبان فاعلان يتصارعان, الجانب الأول الذي توارى بفعل النمو الزمني والمعرفي والإدراكي, ولكن بالرغم من هذا التواري, نجد أن هناك محاولة من الذات الشاعرة للارتداد إليه, وهذا الجانب يتشكل من الحلم والنخلة بسموقها, والجانب الآخر يتشكل في حدود اليباب والريح والهجير, وهما جانبان متعاركان بفعل الحركة والتوجه لتحقيق الجانب الأول الخاص بالاكتمال والتوحد والصفاء, ولسيادة الجانب الآخر, الذي يجهض أي محاولة للعودة إلى هذا الاكتمال.
إن هذا التعارك- بالضرورة ـ يفضي إلى سيادة نسق على آخر, وربما تكون هذه السيادة واضحة, من خلال عنوان القصيدة التالي, وكأن الديوان رتب بشكل خاص, حتى يوافق هذه الحالات الخاصة المرتبطة بالتوحد والسقوط, وبداية الشعور بهذا السقوط, ثم التغذي والاستقواء بفعل الذكري, والتذكر مصطلح من مصطلحات المتصوفة, إذ يلح المتصوفة على فعل التذكر, وكأنه فعل يكشف للمتصوف اختلافه عن العالم الذي كان قريبا منه, ومن ثم فهو لديه شعور بقيمة وجمال العالم السابق, وفي الوقت ذاته يلح عليه شعور بقبح ودمامة العالم الآني, ومن ثم فإن فعل الذكري أو التذكر هو الذي يعيد تشكيل الحياة, ويحفظ له حياته من خلال اجترار التوحد السابق:
تجلس الذكري أمام النبع
تروي للغزالة
قصة العطش المقيم على الضفاف
وكيف لاح الغيم في خجل على الماضي
ليزهر غصن قامتك النخيل …
إن قصائد الديوان كلها تدور حول هذا الفضاء الدلالي, هناك اكتمال سابق, وهناك نقص آني, وكل القصائد محاولة للعودة إلى هذا الاكتمال, للوصول إلى الفضة الرائعة, ولكنها دائما تتعثر, ولا يبقى لها سوى الحلم والذكري:
هناك في شجر قطعنا ظله
غصن وحيد للغناء المرمري
على ضفاف الروح
يكفينا اعتناق الحلم والذكري
لنكمل سيرنا نحو التراب .
تبقى نقطة مهمة , وهي عنوان الديوان (الغزالة تشرب صورتها), فمن خلال بعض المتابعات النقدية لهذا الديوان, توقف البعض عند أسطورة (نرسيس), الخاصة بعشق الذات, ولكن الغزالة كما تجلى من عنوان الديوان والقصائد, تأتي لفظة مشعة, ومحملة بدلالات عديدة, ولكن أهمها حين تأتي مرتبطة بالخيل, لتشير إلى التوحد أو الاكتمال السابق, وتأتي في قصائد جناح المخيلة مرادفة للحب واليوتوبيا.
محمد حبيبي – أطفئ فانوس قلبي – جمالية التقرير:
أطفئ فانوس قلبي هو الديوان الثاني للشاعر محمد حبيبى, وهذا الديوان – بعيدا عن أحكام القيمة – يثبت أننا أمام شاعر له ملامح خصوصية, وهذه الملامح كثيرة, ولذلك فإن المداخل التي يمكن أن يدخل منها الباحث للديوان عديدة, ولكن الباحث اختار سمة خاصة, ترتبط باللغة التقريرية, فالمتأمل لشعر محمد حبيبي يدرك أن لغته تميل إلى البساطة والوضوح, ولكنها بساطة خادعة, إن لم يقدرها الباحث حق قدرها, فهذه البساطة ليست جنوحا إلى السهولة, ولكنها بساطة فنية, تحيل المتلقي إلى مدى دلالي واسع, يرتبط بحالات فكرية ومعرفية.
ولكن ما المقصود بالتقرير؟ ولماذا كان الاستناد إلى هذا المصطلح دون غيره من المصطلحات التي قد تكون متاحة في ذلك السياق, مثل الحقيقة أو التصوير بالحقيقة في مقابل المجاز؟
والإجابة لن تكون سهلة, كما يتصور البعض, لأن دلالة التقرير بوصفه مصطلحا, لن تكون متاحة من خلال استقراء المعاجم, ولهذا فالباحث بحاجة إلى الاتكاء على خصائص اللغة الشعرية موضوع الدراسة, حتى يصل إلى دلالة هذا المصطلح.
أما تفضيل هذا المصطلح دون غيره من المصطلحات التي تصلح, لأن تكون وصفا للظاهرة, فإنه يرتبط بقصور في مصطلح الحقيقة, لأن استخدام مصطلح الحقيقة, الذي يعني في تحديد معظم البلاغيين, الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له, من غير تأويل في الوضع كاستعمال الأسد في الهيكل المخصوص, سوف يجرنا إلى الثنائية غير المتحققة منطقيا, فاستخدام هذا المصطلح قد يوحي أن هناك انفصالا تاما بين الحقيقة والمجاز, في حين أن الواقع يثبت حضور المستويين معا, فالإيمان بوجود المستويين, لا يعني – بالضرورة – وجودهما منفصلين, فاستخدام الحقيقة لا يخلو في وجه من وجوهه من المجاز, واستخدام المجاز لايمكن تصوره دون وجود مستوى نمطي متخيل يتمدد من خلاله, والشاعر – أي شاعر – لا يكتب قصيدة ما بلغة حقيقية وأخرى مجازية, وإنما المقصود أن النص الشعري لا يعول على الاستعارة, بقدر ما يهتم باللغة, التي تحقق له تواصلا مع المتلقى, ومن ثم تزداد فيه درجة الوضوح والتقرير.
كيف نحدد معنى مصطلح التقرير؟ إن تحديد مصطلح التقرير, يجب أن يرتبط بالشعر أو الديوان موضوع الدراسة, لكي يصل الباحث إلى خصائص أو سمات تكون فاعلة في تحديد ماهية المصطلح, والسمة الأولى التي يمكن أن تطالعنا في شعر محمد حبيبي هي سمة عدم الاتكاء على الاستعارة البعيدة الأطراف, وليس معنى هذا أن الشاعر لا يستخدم الاستعارة, وإنما المقصود يشير إلى أن استخدامها لا يشكل في نصه الشعري نسقا استعاريا لافتا, وفي المقابل تكون السيادة للجملة التقريرية, التي لا تخرق مواضعة لغوية, والجملة التقريرية موجودة بشكل لافت في ديوان حبيبى, وهذه الجملة – بالرغم من تقريريها التي قد تشير إلى البساطة – ترتبط بمدى دلالي خاص, فحين يقول محمد حبيبي في قصيدة (شقيقة/ صالحة):
مع أطفالها أقبلت
كغريبين صافحتها
سوف نجد أن هذين السطرين الشعريين يرتبطان بمدى دلالي خاص, ولن يتسنى للمتلقي أن يصل إلى هذا المدى الدلالي الخاص, إلا بعد أن يتوقف عند حركة المعنى النامية في النص الشعرى, والمرتبطة بالتقاط حالات التماهي بين الشقيقين في حالات الصفاء الطبيعية والطفولة, التي يكمن بهاؤها في الانعتاق من الأسئلة التي تصاحبنا, بفعل النمو العمري والمعرفى. وبداية من هذا الإحساس الخاص بالنمو المعرفى, تبدأ مساحات التيبس في الظهور, ووجود الأطفال (الأبناء) مع الشقيقة, معادل خلخلة للصور القديمة, التي كانت ماثلة في الذهن, ومن ثم فقد بدأ السارد الفعلي في النص يشعر بالمغايرة والاختلاف, الذي يشير إلى الخروج عن النسق السابق, وفي ذلك السياق تأتي الغربة الداخلية, المرتبطة بفقد نسق سابق, ووجود نسق جديد.
إن هذا التوجه الفني الخاص, المرتبط باستخدام لغة تبتعد عن النهج الاستعارى, ويرتبط بلغة تقريرية, لم يكن توجها نحو السهولة, وإنما كان توجها نحو البساطة المملوءة بمدى دلالي واسع, كالإشارة إلى مرحلة الطفولة, وما تحققة للإنسان – فضلا عن الشاعر – من اتزان نفسى, ثم الانتقال إلى مرحلة النمو المعرفى, التي تأتي محملة بأسئلة خاصة.
ويتكرر هذا المنحى الخاص المرتبط ببساطة تركيبية, والمملوء بنسق تقريرى, لا يعول كثيرا على الاستعارات البعيدة الأطراف, في ديوان حبيبى, ففي قصيدته الأولى في الديوان (مشابك), والتي جاءت تحت عنوان أكبر (محض كلام), التي يقول فيها:
نحلم
ن ح ل م , نحلم , ن ح ل م, نحلم…..
في الصبح نحمل أحلامنا لنجففها
وكي لا تطير بعيدا
نثبتها بمشابك
المشابك
محض كلام
نجد أن هذه القصيدة بسيطة تركيبا, ولا تعتمد على الاستعارات البعيدة الأطراف, التي شكل الاعتماد عليها طبيعة الشعرية العربية. ولكن هناك صورة في النص السابق, قد تشكل معارضة لمنحى التقرير, الذي اخترناه مدخلا للدراسة, وهي تجفيف الأحلام, وتثبيتها بمشابك, وهذه الصورة, لا تؤثر في وجود نسق استعاري سائد, يمكن أن يشعر به المتلقى, نظرا لطبيعة شعر محمد حبيبى, التي تتحرك ببطء تجاه النسق الاستعارى, فشعريته تقدم هذا النسق بالتدريج, فنصه يشكل في وعي المتلقي سياقا خاصا, قبل هذه النقلة الاستعارية, وحين يصل المتلقي إلى هذه النقلة, يجدها داخلة في إطار سياق دلالي يكيفها, ومن ثم لا يشعر المتلقي بأي صعوبة أو معاظلة في تلقيها, بل لا يجد – والحال تلك – مبررا للوقوف عندها واستبيان دلالتها بشكل استثنائي فردى, وإنما يجد نفسه مشدودا إلى الكيان الفكرى, الذي يحاول النص الشعري ارتياده.
والنص الشعري من خلال هذه البساطة التركيبية, يستدعي نسقا دلاليا مهما, فالنص الشعري يشير إلى مناخين: هما (المساء – الليل), و(الصباح – النهار), وكل مناخ منهما, له دوره الفاعل في تشكيل طبيعة توجه الساردالفعلى, فالمساء والليل, يأتيان وكأنهما يشكلان نسق المراقبة, والتأمل للمتخيل النموذجي المرتبط بالأحلام والآمال, وكأنهما – أيضا – يقيسان حجم المتحقق من هذا المتخيل النموذجي في كل ليلة. أما (الصباح – والنهار), فيأتيان بوصفهما معادل سعى, للاقتراب من هذه الأحلام والآمال, التي تشكل المتخيل النموذجى, فالإنسان – فضلا عن الشاعر – يضع أمامه – بداية من الإحساس بالوعي والالتحام بالحياة – متخيلا نموذجيا للوصول إليه, قد يرتبط بالأمل أو بالحلم, أو بصورة خاصة للذات, وهذا النسق لا ينتهى, لأن الإنسان إذا حقق أملا, ينتقل – بالضرورة – إلى أمل آخر يحاول تحقيقه.
والقصيدة تلح على هذه الفكرة, المرتبطة – إجمالا – بكون الحياة إمكانية جميلة لشئ لا يتحقق أبدا, والنص حين يشير إلى أن السارد الفعلي من خلال فعلي المراقبة والسعى, لم يقترب من سلطة نموذجه قيد ذراع , يدلل على طبيعة الأحلام والآمال, التي لا تقف عند حد, بل لا تتجلى على هيئة واحدة, فهي – أيضا – في معرض دائم للتغير والتبدل, وفقا لسطوة الواقع , الذي يغير في طبيعتها, ويؤثر في هيئتها.
أما السمة الثانية فهي سمة ترتبط بالتعويل على المشترك الإدراكى, وهي جزئية مهمة وأساسية, في سياق حرص الشاعر المعاصر, على التواصل مع المتلقى, لأن التعويل على المشترك الإدراكى, يشير إلى جزئية مهمة, يعرفها الشاعر, ويعرفها المتلقى, وترتبط بالإنساني في مداه الرحب, وفي ذلك السياق سوف نتوقف في الديوان عند جزئيات شعرية لا تخرق مواضعة لغوية, ولكننا مع ذلك نشعر بجمالها, وحين نحاول تبرير هذا الجمال, لن نجد إلا مقدرة الشاعر في التقاط صورة شعرية يدركها المبدع, ويدركها المتلقى, وتتحد بالإنسانى, فحين يقول محمد حبيبى, في قصيدته (حريم):
حريم تقاضمن
حول فناجين تفرك آذانها
ذيول العباءات تمشط
حكي الأزقة
فيما المحمص من بنهن
تطاير صوب فراغ ثنايا تمصمص غيبة
جاره
سنشعر أن هذه الصورة الإنسانية التي يلتقطها الشاعر, ويقدمها للمتلقى, وثيقة الصلة بالإنساني, وبالبيئة التي ينتمي إليها, فهي صورة عادية, ويدركها كل إنسان, ولكن الشاعر – الشاعر الحقيقي – هو الذي يستطيع أن يلتقطها, ويقدمها في ذلك السياق الخاص, المملوء بالبساطة والتقرير, والمهموم بالتقاط مالا يلتقط, أو تكديس ما لا يكدس. فصورة النسوة الجالسات حول فناجين القهوة, بالإضافة إلى التحدث عن الأخريات الغائبات صورة عادية, ولكن الفن, هو الذي يغير في معالم الصورة, فيجعل الجزئيات المادية داخلة في إطار الصورة, وهي – أي الجزئيات المادية – لا تقف عند حدود الوجود المادى, وإنما تطل فاعلة, وكأنها كائن حي يشارك في الفعل.
أما السمة الثالثة والأخيرة, فهي سمة الاتكاء على آليات فنية مأخوذة من فنون نثرية, كاستخدام السرد الشعرى, وهنا تجدر الإشارة إلى أن استخدام تقنيات القص في إطار النص الشعري ليس شيئا سهلا, بل هو عمل صعب إلى حد بعيد, فالشاعر يجب أن يجعل المتلقي يحس بالشعر, وفي الوقت ذاته يحس بالقصة. بالإضافة إلى أن ضم الشعر إلى القصة ليس مجرد زينة, وليس مجرد قدرة لإثبات القدرة على نظم الكلام, وإنما يستفيد كل فن من الآخر, فالشعر يستفيد التفصيلات المثيرة الحية, وتستفيد القصة من الشعر التعبير الموحي المؤثر. إن الشاعر الذي يستخدم تقنيات فن في إطار فن آخر, ربما يقع في قبضة الثنائية, فتقنيات القص حين تستخدم في النص الشعري لا تملك وجودا قائما بذاته, فهي جزئية في إطار النسق الشعري الأساس, وتكمن مقدرة الشاعر في صهره لهذا العناصر. ومحمد حبيبي – في نصوصه الشعرية – على وعي كبير بهذه الجزئية, فهو لا يستسلم لعناصر القص, التي يمكن – إذا استسلم لها – أن تطيح برهافة ما هو شعرى, القائم على التكثيف, ومن ثم سنجد سرده الشعري يرتبط بجزئيتين أساسيتين, هما: التكثيف الشعرى, والانعتاق من السرد التتابعى, الذي نجده ماثلا عند أغلب الشعراء, فهو – في نصوصه – لا نجده يتبع المنطق التراتبى, وإنما نجد النصوص, تصنع وجودها من خلال منطقها الخاص, ومن خلال استخدام آليات سردية تقضي على خطية الزمن وتمدده الطبيعى, وفي سبيل ذلك يقوم بالانتقاء الخاص للتفصيلات الحية, التي يمكن أن تكون فاعلة في إطار حركة المعنى النامية في النص, بالإضافة إلى استخدام المفارقة, التي حمت نصه من الترهل السردى, فالمفارقة يمكن أن تعد جزئية أساسية في إبداع محمد حبيبى, ففي شعره تأتي المفارقة, وكأنها بؤرة يختبر الشاعر رؤيته من خلالها, ويقارن من خلالها بين الماضي والآنى, يتجلى ذلك في قصيدة (وسام), وفي قصيدة (الشقة), وفي قصيدة (ياسمين), ويتجلى بشكل قد يكون أكثر وضوحا في قصيدته (شقيقة- صالحة), التي عرضنا لها سابقا, بحيث تأتي جزئية الارتداد للخلف لمعاينة نسق حياتي تم تجاوزه, من خلال التركيز على صور مختزنة:
كنت أدفعها للشقاوة دوما
لننتصف الصفعات
ترافقني للدكاكين, حيث أمط لها النصف
من علكة المستكى
و… أعلمها كيف تجلو
البقايا بركن الجدار
وقت يكف غبار القرى
مثل لصين نظراتنا ترتمي
لقروش تطل ,
لا أسامحها حين تقضم مرسمتي (الفكس)
مع أطفالها أقبلت..
كغريبين صافحتها
إن النص الشعري القائم في بنائه على الارتداد, وعلى اختيار تفصيلات حية, لا زالت مملوءة بوهجها, يقارن بين توجهين أو نسقين معيشين: نسق الطفولة, التي يظل أصحابها, أو من ينضوون في إطارها مكفولين من الآخرين, والنص في هذا النسق يعبر عن الماضى, وينتقي جزئيات تشير إلى الانعتاق من المسؤلية والأسئلة, التي تبدأ مع النمو المعرفي والإدراك, والبداية تطل من الفعل (كنت), الذي يضع الإخبار والسرد في بؤرة التركيز, وتتوالى الصور الجزئية من خلال وسائل الربط المعهودة, ولكن النص الشعري – الذي تمدد تركيبيا لسطور عديدة في تقديم النسق الأول – ينقلنا إلى النسق الأخير أو الآنى, ومن خلال سطرين فقط, فتتشكل المفارقة, التي تشير إلى براج الطفولة والانعتاق, في مقابل السأم والقنوط الآنى.

Posted by drgham68 at 6:05 PM 0 comments Links to this post 
Friday, July 18, 2008
مقدمة كتاب تشريح العقلية النسوية العربية -للشاعر الليبي محمد القذافي مسعود

تشريح العقلية العربية النسوية

إجراء الحوار ليس سهلا , كما قد يتصور البعض , لأنه يحتاج إلي معرفة شاملة أو شبه شاملة , بالشخص الذي تحاوره , ويقتضي ـ أيضا ـ أن يكون المحاور واعيا بالسياق العام , وبالسياق الخاص , الذي شكل ملامح التميز الفني أو الإبداعي .
فالحوار ليس إلا سباحة في العقل , وتحريكا للساكن , وكشفا للمخبوء المتجذر في الباطن , فالحقيقة بنت الحوار , وليس هناك أنفع من الإطلاع علي ما في عقل الآخر , ففي الحوار هناك بؤرة لاندماج وعيين , وعي مؤسس مخبوء , ووعي خاص ينطلق لمعاينة الوعي السابق , وفتح له نافذة للظهور .
إن هذا الوعي ربما يزداد حدة وحضورا حين يكون المحاور أديبا , أو شاعرا له ملامح خصوصية , لأن هذه الخصوصية الإدراكية للحياة والفن , هي التي تعطي رؤيتة شمولا وأبعادا خاصة . فالحوار ـ في هذه الحالة ـ لا يكشف عن طبيعة المحاوَر فقط , وإنما يكشف ـ أيضا ـ عن طبيعة المحاوِر , بحيث نجده يلح علي مجموعة قضايا تكون مسيطرة ومطبقة في لحظة زمنية راهنه .
في كتاب الشاعر والصحفي الليبي محمد القذافي مسعود نجد أن هناك إلحاحا علي اختيار كاتبات عربيات , ليكشف من خلال هذا الحوار , عن إشكاليات سياسية واجتماعية وأدبية مازالت مثار شد وجذب , ومازال توهج هذه الإشكاليات حاضرا بقوة , انطلاقا من عدد الدراسات والبحوث التي تناولت هذه الإشكاليات .
والتركيز علي الكاتبات العربيات أو المبدعات بشكل عام , في حد ذاته لا يخلو من دلالة , فالمرأة ـ بصفة عامة ـ هي الكائن الأكثر تأثرا بواقعنا المهيض , بالرغم من حالة الاستلاب التي يعاني منها الإنسان العربي رجلا كان أم امرأة .
ومحمد القذافي في حواراته لا يتبع منهجا ثابتا , في التعريف بشخصية المحاور , ففي بعض حواراته يقدم معلومات ضافية عن الكاتبة أو الشاعرة , ترتبط بالميلاد والنسق التعليمي من جانب , ومن جانب آخر يقدم سجلا موازيا للتكوين الأدبي .
وفي حوارات أخري نجده ـ ربما استنادا إلي المعرفة المؤسسة لدي القارئ ,وهذا لا يشير إلي نسق تراتبي أو قيمي ـ لا يقدم أي تعريف بها , كما فعل مع سلوى بكر وأخريات , ولكنه في حوارات أخرى ـ خاصة مع الأديبات المغتربات ـ يقدم وقفة تعريفية ضافية , كما فعل مع كلاديس مطر أو باسمة يونس .
في هذه الكتاب تتشكل إشكاليات مهمة , وليس في وسع هذه المقدمة ـ كما أنه ليس من غاياتها ـ أن تستقصي مجمل هذه الإشكاليات , ولكن تتوقف عند أهم هذه الإشكاليات التي شكلت وجودا لافتا , ومن ثم حضورا ملحا في تحليل بعضهن لمأزقنا الراهن بتجلياته العديدة .
وربما تكون أولي هذه الإشكاليات ـ ونحن نتحدث عن كاتبات ومبدعات عربيات ـ متمثلة في وضع المرأة الخاص في المجتمعات العربية , وقد تجلى من خلال الحوارات أن وضع المرأة في المجتمع العربي , لا ينفصل عن وضع الإنسان العربي بصفة عامة في إطار نسق القمع والاستلاب السائدين , وفي إطار هذه النظرة التي تجلت بشكل واضح تتواري فكرة المساواة , أو المطالبة بالمساواة , التي أصبحت في بعض مجتمعاتنا طلبا غير مجد لتحققه علي هيئة ما , وتحل محلها فكرة التكامل الخلاق , فالوضع العربي يفرض علي الإنسان العربي وجودا وكيانا , لا يمكن مقاومتهما إلا بالتسليم .
ولكن هذا التكامل الخلاق الذي تحدثت عنه كلاديس مطر , نجده مازال مجروحا بقوة لدي كاتبات أخريات , مازلن يؤمن بفكرة الصراع , خاصة مع استمرار نظرة الرجل إلي المرأة , بوصفها كيانا ناقصا , يحتاج إلي الولاية والتطويع في إطار نسق سلطوي خاص .
ولأن الإشكاليات في المجتمعات العربية متشابكة ويصعب الفصل بينها بشكل قاطع, تأتي إشكالية أخرى مرتبطة بالإشكالية السابقة , وقد تكون نابعة منها أو ـ علي الأصح ـ مولدة لها , وهي إشكالية وضع المثقف العربي , وهل مازال له دوره الفاعل , الذي كان موجودا في تجليات ولحظات سابقة . وتتعدد الإجابات- في إطار هذه الإشكالية – فسعدية مفرح تنطلق من إشكالية الوضع الراهن وتقول عن المثقف ( إنه لقيط ) , وسلوى بكر تلح علي أن علاقة المثقف بالسلطة علاقة ملتبسة , ومشدودة إلي الترغيب والترهيب , أو إلي ذهب وعصا معاوية , وهذا قد يشدنا إلي مصطلح استخدمته وفاء عبدالرزاق (المثقف الطبال ) أو المسيس , أو بتعبير أقل حدة استخدمته فريدة النقاش , ففي رؤيتها لهذه الإشكالية ترى أن المثقف قد تخلى عن دوره الكاشف , وتحول إلي مسوغ أو مبرر .
وتقف كلاديس مطر عند هذه الإشكالية موقفا خاصا , فهي ترى أن المثقف يمارس سلطة ما , ترتبط بمكان آخر , ربما لأن دوره لم يكن فاعلا , كما كان في تجليه القديم وربما كان هذا التوجه منها , مرتبطا- في الأساس ـ بمفهومها للثقافة , فالثقافة ـ في رأيها ـ لم تعد مجرد القدرة علي تراكم معلوماتي, وإنما تأتي مرتبطة بالوعي بالسياق الفردي والجماعي والكوني .
وربما كان وضع المجتمع العربي , وتشكيله الخاص , في إطار تعدده العقدي أو الطائفي في بعض المجتمعات العربية حاضرا في رؤية الكاتبات العربية , وقد تجلت هذه الرؤية من خلال نظرة خاصة إلي التراث وإلي الحداثة , وإلي غياب القارئ , الذي يجعل أثر المثقف أو المبدع يكاد يكون غائبا . فسلوى بكر تعلل غياب القارئ بالخلل الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي , وربما يكون هذا التبرير من الكاتبة ـ وإن كان في جوهره صحيحا مقبولا ـ مرتبطا في الأساس بنفي التهمة عن المبدع أو المثقف . وربما كانت الكاتبة غير بعيدة عن هذه الفكرة في تناولها لإشكالية الحداثة في مجتمعاتنا العربية , فهي تري أن السبب في ذلك يعود إلي ثبات الأسئلة وثبات الإجابة , فتجديد الأسئلة في كل تمفصل مرحلي ضروري , حتي وإن كانت الإجابة غائبة أو غير حاضرة .
هذه الرؤية ظلت حاضرة في مقاربة الكاتبات العربيات للتراث , ودوره في انفتاح المجتمع إلي مناح جديدة , أو وقوفة في صقيع ساكن , فهدى حسين الشاعرة والكاتبة المصرية تلح علي الوعي الآني بالتراث , وهذه فكرة مهمة , إذا أضفنا إليه صيرورة وحركة دائمين , وقد ألحت سعدية مفرح علي القراءة الحديثة للتراث, وفي إطار هذا التصور تضع كلاديس مطر ـ انطلاقا من وضع وطنها الخاص ـ إلي فكرة العقدية أو الطائفية , التي تكون ذات تأثير سلبي يؤدي إلي غياب الهارموني والتناغم الفعال لأي مجتمع . فالعقدية أو التعددية الطائفية إن لم تؤسس في إطار حوار فعال يبني علي دعائم إنسانية تؤدي إلي صراعات فادحة .
تتبقي في هذه الحوارات إشكاليات مهمة تتصل بالإبداع , وبأثر البيئة , والنوع الأدبي , وعلاقة المبدع بالناقد , وهي إشكاليات – بالرغم من خفوت بعضها ـ إلا أن وميضها مازال موجودا , ويزداد حدة من حين لآخر .
ففي جزئية أثر البيئة وارتباطها بالإبداع , فقد جاءت معظم الآراء كاشفة عن أن أثر البيئة يكاد يكون غير موجود , لأن البيئة ـ كما تقول بريهان قمق ـ لا تمنح جينات وراثية , ولكن السبب الأهم ـ من وجهة نظري ـ الذي يجعل أثر البيئة يقل أو يمحى هو وجود ما يمكن أن نسميه سلطة النموذج الفني , الماثلة في إبداعنا العربي من العصر الجاهلي إلي وقتنا الحالي , فالمبدعون ينطلقون في إبداعهم باتجاه نموذج مؤسس , فالرومانسية كانت نموذجا فنيا مصريا , وشعر التفعيلة كان عراقيا , وقصيدة النثر لبنانية , وفي إطار هذا الانحناء تجاه نماذج مؤسسة يقل أثر البيئة أو يمحي .
أما فيما يخص جزئية النوع الأدبي , فإن كثيرات من المبدعات العربيات أشرن إلي أن هناك جانبا لا يمكن إدراكه لاختيار فن دون آخر , فالمبدع- في إطار هذا التوجه ـ مشدود إلي قوه عليا , أو إلي تكوين ثقافي خاص يجعله يختار فنا دون آخر .وانطلاقا من الجزئية السابقة نجد أن هناك بعض المقاربات المنطلقة أساسا من السؤال الأجناس , كقول إحدى الكاتبات ( سلوى بكر ) , إن الرواية تأريخ للحظة , أو أن الرواية فن مفتوح يختص بالعوالم البديلة أو المحرفة للواقع .
وتجلت في بعض هذه الحوارات مقاربة خاصة لفن الرواية باعتباره فنا مرتبطا بالمجتمعات الحديثة وبنشأة الطبقة المتوسطة , ومن ثم يرتبط بالمدينة بتشكلها الطبقي الخاص . ولمقاربة هذا التصور الناقص من وجهة نظري , يجب أن نفرق بين المدينة باعتبارها مكانا , والمدينة بوصفها مجموعة أسس للاندماج في واقع ما , فالمدينة بوصفها مكانا فقط لا ترتبط بالرواية , وإنما ترتبط بها بوصفها كيانا أكبر يحتوي علي تشابهات وتباينات عديدة , وفي إطار هذا التصور , يمكن أن تتحول القرى أو الريف إلي مكان فاعل لتقديم روايات لافتة .
إشكالية المبدع والناقد , أخذت حيزا لافتا في مقاربة الكاتبات , وقد تعددت مقاربة الكاتبات لهذه الإشكالية , فكثيرات منهن أشرن إلي انتشار المجاملات وغياب الموضوعية عن الناقد العربي , وأشارت بعضهن ـ فاطمة الزهراء بنيس ـ إلي أن النقد ـ وهذا شئ منطقي وطبيعي ـ قابل للنقد والمراجعة .
وقد تجلى لدى بعض الكاتبات اتهامات صعبة للنقاد بشكل عام , مثل قول وفاء عبد الرزاق ( الناقد يبيع كلمته بمائة دولار ) , وهو اتهام لا يمكن قبوله بسهولة , ومثل هذا الكلام يشكل نسقا جاهزا لبعض الكاتبات للمواربة والتحيز للفعل الإبداعي لديهن .
إن هذه المقدمة القصيرة لا يمكن أن تلم بإشكاليات هذه الحوارات الكاشفة , عن طبيعة العقلية العربية النسوية , ولكن يكفي أن أشير إلي جزئيات مهمة يمكن أن تقابل القارئ , مثل الفن والقضايا الكبرى , أو الرؤية والتشكيل , أو مقاربة سياسية مهمة لفريدة النقاش تتصل بفكرة الإخوان المسلمين , والتطابق بين السلطة والمعارضة في إسدال نسق سلطوي على الفرد .

د. عادل ضرغام / ناقد وأكاديمي مصري .

Posted by drgham68 at 12:32 AM 0 comments Links to this post 
Wednesday, June 4, 2008
قصيدة النثر السعودية -الغامدي والخميسي
قصيدة النثر السعودية
الغامدي والخميسي
عادل ضرغام

إن النظر إلي الشعرية العربية المعاصرة سوف يفصح عن وجود اتجاهات عديدة , منها أشكال كتابية شعرية ترتبط بالأنساق والبنيات القديمة , وهذه الأنساق ترى أن التمسك بهذا الشكل الكتابي يدعم وجودها ويضمن استمراره , وقد يمارس أصحاب هذه الأشكال الشعرية سلطة ما , متدثرة بالمعهود والمقرر . وهناك ـ بالإضافة إلي أشكال أخري ـ قصيدة النثر , التي مازالت ـ بالرغم من وجود نماذج سامقة لها في إبداعنا العربي مثل الماغوط وسركون بولس وعباس بيضون وآخرين ـ تجابه بمعارضات ومجابهات قوية .
وليس من غايات هذه الدراسة أن تقف وقفة نظرية مع قصيدة النثر , للإشارة إلي جمالياتها المائزة عن الشعر العمودي أو التفعيلي , وإنما غاياتها الأساسية محاولة تقديم قراءة جمالية , لديوان ( البوادي ) لعيد الخميسي , وديوان ( صندوق أقل من الضياع ) لمحمد خضر الغامدي,بالإضافة إلى إن الباحث لا يستطيع أن يقدم قراءة لقصيدة النثر في المملكة العربية السعودية , فهذا عمل يحتاج إلي جهد كبير , فضلا عن كون هذا المنطلق ليس من غايات البحث .
أفق الذات :
ربما يكون مقررا أن الشاعر المعاصر لم تعد تشده الموضوعات الكبرى , التي كانت تشد الشاعر في لحظات سابقة مثل الوطن والحب والوجود , وإنما أصبح الشاعر المعاصر ـ وشاعر قصيدة النثر علي وجه الخصوص ـ مرتبطا بالذات في تشظيها وانكسارها وآمالها وإحباطاتها,وفوق ذلك سنجد أن الشاعر المعاصر , لا يهتم بالذات في إطارها العام , وإنما يهتم بالجزئيات الخافتة , وكأن الاهتمام بهذه الجزئيات إعلاء لشأن الذات وإثبات لخصوصياتها وإدراكها المتميز , وهذا الإدراك المتميز هو الذي يصنع الفارق , ويجعل الشعور بالفن مختلفا من لحظة إلي آخري , فالشعرية ليست ساكنة , وإنما هي متحركة فهي تارة تسكن الموضوع والالتحام بالآخر , كما يمكن أن نجد لدي صلاح عبد الصبور , وتارة تسكن الهامش , بفجاجته , ولكن هذا الهامش حين يقدم شعريا , ومن وجهة نظر خاصة يصبح موضوعا شعريا بامتياز !….
والقارئ لديوان البوادي لعيد الخميسي , الذي ينطلق أساسا من الوعي الخاص بالمكان , ومن وجهة نظر لا يمكن الإمساك بها بسهولة , يدرك أن الديوان يحاول تشكيل عالم مندثر أو اندثر ,ولكن يعاد خلقه وتكوينه بهيئات مختلفة في كل مرة , فالتكوين أو الهدم لا يتم في الأماكن أو المباني , وإنما يتم من خلال البشر , واختلافهم من جنسية إلي جنسية , فكل جنسية لها سماتها الخاصة , ومن ثم تكوّن ـ في فترة ما ـ طبقة جيولوجية معينة , تخلق ذاكرة خاصة لها , والديوان ـ في إطار هذا التوجه ـ ليس إلا محاولة لبناء طبقات جيولوجية وثيقة الصلة بالمكان , وهذه الطبقة لها ذاكرة خاصة, والديوان يحاول استعادة هذه الطبقات وتثبيتها داخل المتلقي ,لكي يخلق روحا أو أفقا شعرية لهذا المكان , وكأن هذه الطبقات المتوالية علي المكان تؤثر في الآني وتحضر في القادم , يتجلي ذلك واضحا في قصيدة فم المريض :
هو ذاته الفم الذي يضحك ويمتلئ بالحكايا والشعوذات …
التي لن تصل لعابر انفتح أمامه , لبرهة , شق الباب الأزرق
فولجه
كما ولج مصريون بملابس مرحة ووجوه ملطخة بالأسمنت مرتين
( منتصف السبعينات وبداية التسعينات)
ولجه أفغان بأرجل مقطوعة وعمائم لشجيرات بيضاء مقلوبة
وعبروه وهم يجسون الشوارع
المكان في النص الشعري , ليس مكانا أو حيا فقط , وإنما الذي يعطي هذه المكان وجهه الماضي والآني , هم البشر , الذي يصنعون للمكان ألقه وروحه ووجوده, ويقدمون له ذاكرة لصيقة بهم .
إن الحديث عن أفق الذات في الديوان يجب أن يكون حديثا ذا خصوصية , وذلك لأن الديوان ـ أو شعريته- اختطت من البداية أن تكون موضوعية حيادية قائمة علي الحكي والسرد والاستعادة,ومع ذلك فإن حضور الذات بشكل خاص يأتي واضحا في بعض القصائد , ففي قصيدة ( تخطيط ) :
في الرسم البدائي للبيوت
لا يمكنك أن تجمعها في إطلالة واحده :
أدوات العمل البالية هذه ,
الخطوات التي تبتعد ,
البيت ذو النافذة الخشبية والتي ما عادت تفتح.
……….الرسم البدائي للبيوت
لم يخف كثيرا
شخصية الفنان
نجد أن المتلقي لا يستطيع أن يصل إلي جمال هذه الطبقة من طبقات الحي بذاكرتها إلا إذا استعار عين المبدع , وأطل من خلالها , ومن خلال وجهة النظر التي تبدت فاعلة بشكل غير علني , وإنما تبدت من خلال التوقف عند بعض الجزئيات , التي يمكن أن يكون لها تأثير في محاولة اصطياد عبق غير واضح , فالرسم البدائي للبيوت لم يقض تماما علي شخصية الفنان. والبحث عن صوت الذات أو انحيازها غير الواضح في إطار هذا النسق الحيادي الموضوعي , يتطلب قراءة واعية للديوان بكامله , كما في قصيدة ( فم المريض ) , حين يصور النص الشعري الباب الأزرق , الذي أصبح علامة علي هذا الحي :
الباب الأزرق الجاهز والمستعد كل لحظة
الذي كان يبيعه محل علي شارع الستين
واشتري منه كل القاطنين أبوابهم
تكفينا هذه السنوات لنحكم علي نزاهته
علي أنه خفيف حقا ومصنوع بإحكام
أو يصور ذلك الترابط الحميم بين الإنسان والجدران في قصيدة ( الطريقة ) :
تلك الجدران
اكتفينا بأن نمسد ظهرها ونحن نرفع أعناقنا قليلا ونتبادل التحية
الخارج والداخل :
إن تشكيل حي البوادي في النص الشعري في هذا الديوان , من خلال تثبيته داخل وعي المتلقي تم من خلال نهجين مهمين , تم الاتكاء عليهما لتشكيل طبقاته الثلاث بمراحلها المختلفة , بداية من ( التكوين ) ,ومرورا بالإحساس بهذا التكوين ,وكأنه تجل أصبح ناجزا وجاهزا , وانتهاء بالمغايرة والاختلاف عن التكوين الأولي , فكل مرحلة من هذه المراحل شكلت طبقة خاصة بذاكرة خاصة .
أما النهج الأول , فالشاعر ـ من خلال سرد حيادي قائم علي الانتقاء ـ قدم صورة خارجية لهذا الحي , مرتبطة بأبنيته الشعبية والبدائية , وبأبوابه الزرقاء التي أصبحت ميزة كاشفة عنه , وتجلي ذلك في قصائد عديدة مثل ( أرض فضاء ) ,والعشب بأنواعه المختلفة كما في قصيدة ( غرفة بجدران بيضاء ) , أو الإشارة إلي التكوين البشري المتعدد في إطار التشابه والاختلاف من خلال العباءة , كما في قصيدة ( بلا عناء ) :
هذه العباءات التي لم تجتمع في مخيلة بائع
أو هفوة شارع مزدحم
ازدحمت هنا بلا عناء .
إن حركة المعني في النص الشعري السابق تأتي كاشفة عن طبيعة أصناف سكان الحي , وتوزع الأصناف إلي فئات عديدة , تختلف باختلاف العباءات , فهذا التوزع الكرنفالي يأتي ليكشف عن تعدد جنسي خاص , يشكل طبيعة هذا الحي , المشدود إلي التوحد والتفرد في آن .
وفي النهج الأخير نجد أن الشاعر في بعض القصائد يتوقف عند جزئيات ربما تكون كاشفة عن طبيعة هذا الحي من الداخل , مع الإلحاح علي أن الداخل والخارج لا ينفصلان , ولكن الفارق يكمن في وجود السارد الفعلي في النص وكونه مشاركا بالحضور الفاعل أو بالمراقبة الحيادية , ففي قصيدة ( حكاية قديمة ) , نجد أن السارد الراصد موجود ومشارك , ومع أن القصيدة تنتهج نسق التغييب, إلا أن المتلقي من خلال الوقوف عند بعض الجزئيات الموحية , يستطيع أن يلم بأطراف الحكاية , وتكون هذه الحكاية صورة خاصة للحي , وهذه القصيدة نموذج للشعرية التي تظهر بالرغم من محاولة التخفي أو التستر .
وهناك قصائد عديدة في إطار هذا المنحي الكاشف عن طبيعة البنية الداخلية لهذا الحي , مثل قصيدة ( بقع ) ,وهي قصيدة وإن كانت تكشف عن سلم تراتبي اجتماعي لسكان الحي , إلا أن أهميتها الكبرى ترتبط بفكرة الديوان الرئيسة المهمومة برصد ما لا يرصد أو تكديس ما لا يكدس , من خلال الاتكاء علي أن رصد الحاضر لا يمكن أن يتم إلا من خلال استحضار الماضي أو الوعي بالطبقة أو الذاكرة السابقة :
منذ المرة الثالثة التي ظلت تنجب أطفالا موتي
تدفن أطفالها في ذات المكان الذي اغتسلتُ فيه طفلا
لم يلحظ الأنين ولا البقع غير المنتظمة في صبة الحمام
كما لم يلحظها المستأجرون الجدد بعد ذلك
فالشاعر ـ في هذا النص الشعري ـ يؤكد علي أن المكان كإطار حاوٍ وجامع للبشر , يتأثر ويتغير سمته , بفعل البشر , فهذا الفعل المرتبط بدفن الأطفال في ( الطاقة ) وهي ظاهرة كانت موجودة في الريف قديما , وإن كانت تدل علي فعل تراتبي اجتماعي , موح إلي حد بعيد بقيمة المكان وطبقاته السابقة , التي تطل فاعلة في تشكيل واقعنا الآني .
السرد والحكي واستعادة الماضي :
عيد الخميسي من خلال ديوانه البوادي , استند إلي تقنيات عديدة , لكي يعيد تشكيل طبقات عديدة متوالية لهذا الحي , وهذه الطبقات في معرض دائم للتغير , فهذا الحي لا يظل علي وتيرة واحدة أو شكل ثابت .
وقد استند الشاعر إلي جزئية مهمة ترتبط بالبساطة , فالشاعر ـ علي سبيل المثال ـ لم يستخدم لغة شعرية استعارية بشكلها العلني المقرر مسبقا , وإنما استخدم لغة تنتهج البساطة سبيلا , وهذه اللغة تحتاج من المتلقي إلي إصغاء تام وإلي رصد يقترب من رصد عدسة الشاعر, حتي يدرك مواطن الجمال , وهذه البساطة اللغوية كان لها دور فاعل في إسدال نوع من الحميمية في رصد الأشياء , فالجمادات أو الأشياء المادية في هذا الديوان ليست جمادات أو أشياء مادية , وإنما ظهرت بوصفها كائنات حية لها حضور فاعل في تشكيل إحساس خاص بهذا الحي , بداية من أنواع النباتات أو الأعشاب , ومرورا بالأبواب والشبابيك وانتهاء بأسماء المواضع , فالمكان لا يمكن أن نأخذ صورة واضحة عنه إلا إذا أحسسنا بهذه الأشياء المادية دافقة في أركانه , وهذه الأشياء هي التي تعطيه سمته النهائي .
وارتباطا بهذه البساطة التي أشرنا إليها سابقا, سنجد أن شعرية الديوان تنتهج نسقا سرديا راصدا , واستخدام تقنيات السرد في إطار فن الشعر ليس شيئا سهلا ,كما يتصور البعض , فالشاعر الذي يعمد إلي ذلك مطالب أن يشعرك في كل لحظة بالشعر والنثر في آن , والشاعر الذي يستخدم آليات السرد في النص الشعري , وهي آليات لا تملك وجودا قائما بذاته , مطالب ـ أيضا ـ أن يكيف هذه الآليات حتي لا يشعر المتلقي بأن ما هو سردي قد أثر علي ما هو شعري , وحتي لا يكون هناك وقوع في قبضة الثنائية الفنية .
والديوان من بدايته إلي نهايته مملوء بالقصائد التي تشير إلي أن آليات السرد لها حضور واضح , مثل قصيدة ( أعمامي ونفر آخرون ) , و ( حكاية قديمة ) , و( وفم المريض ) , و( بقع ) , و( عائدة ) ……….
ولكن الشيء المهم في هذه القصائد ,يتمثل في أن آليات السرد المستخدمة في النص الشعري , لم تفض إلي ترهل بنائي يمكن الوقوف عنده , وإذا كان الشعر قد يستفيد من السرد التفصيلات المثيرة الحية , فإن الشاعر عيد الخميسي , قد عمد إلي اختيار اللقطة الكاشفة , بالإضافة إلي أن سرده لم يكن تتابعيا , ففي أغلب قصائده نجده يعتمد علي آليات تقطع خطية الزمن وتمدده المعهود , لأنه لا يهتم بخطية الزمن أو التمدد المعهود , وإنما ينصب اهتمامه الأساسي علي اختيار لقطة كاشفة تكون وثيقة الصلة بطبقة جيولوجية أو ذاكرة محددة لهذا الحي , ففي قصيدة ( راعية ) :
الراعية التي تسوق غنمها علي مهل وهي عائدة قبيل المغرب
بقربة شبه فارغة وعصا وكل ما يلزم لزى راعية عام 73 ه
في المشهد الذي سارع لالتقاطه تجار صور جائلون
لم يصلهم ضيق الراعية من رائحة ملابسها
تأففها …ألم قدميها المشققتين وجوع بطنها
أو أنهم قاموا بحذف هذه العناصر
نجد أن المتلقي سوف يلاحظ للوهلة الأولي الإصرار علي تفصيلات حية , تأتي كاشفة عن طبيعة الصورة , وهناك تركيز علي تفاصيل بسيطة المقصود منها إكمال عناصر الصورة , ولكن المهم- في ذلك السياق ـ أن الشاعر لا يعتمد سردا تراتبيا , فهناك حالة من الارتداد والاستباق في آن , لتقديم عوالم مختلفة , فالراعية بلحظتها الآنية ليست منفصلة عن لحظات سابقة شكلت تأففها وألم قدميها وجوعها , وكذلك المصورون ـ بطبيعتهم ـ يختارون ما يناسبهم , فيحذفون ما يعكر صفاء النموذج أو جمال الأيقونة .
فاستخدام السرد في إطار النص الشعري , استخدام محسوب , مرتبط بقدرة الشاعر علي اختيار لقطة كاشفة , وارتباط هذا الاختيار بالتكثيف , حتي لا يكون هناك ترهل سردي,يقضي علي حرارة ما هو شعري ..
وإلحاح الشاعر ـ في هذا الديوان -علي استخدام لغة تتسم بالبساطة وآليات السرد , أثر بالضرورة علي الآليات الفنية , التي يقدم الشاعر من خلالها نصه الشعري , فليس هناك تعمد واضح لخرق نسق المواضعة اللغوية , ولا تقديم استعارات علنية , فالشعرية في هذا الديوان تعتمد علي التعبير البسيط الموحي , الذي يشكل ـ إن استحضره المتلقي ـ ميزة جمالية تقوم علي البساطة والتقرير بعيدا عن الجماليات المقررة والمؤسسة في شعريات كانت تمثل تجليات سابقة .
الوعي الانشطاري والأزمنة الحديثة
محمد خضر الغامدي:
إذا تأملنا نماذج عديدة من شعرنا المعاصر , وشعر قصيدة النثر بصفة خاصة , سنجد أن الوعي الذي يتجلي من خلال هذه القصائد وعي انشطاري , يجمع الأشياء دون رابطة ظاهرية واضحة في إطار سياق دلالي واحد , ووجود هذا الوعي الانشطاري مرتبط ـ أساسا -بطبيعة اللحظة الحضارية التي نحياها , فنحن في لهاث دائم , لرصد العالم من وجوهه المختلفة والمتناقضة , وأي محاولة منطقية لفهم العالم الفردي والجماعي محكوم عليها بالفشل والاستحالة , ومن ثم فوجود هذا الوعي يكاد يكون مبررا استنادا للحظة حضارية خاصة .
يتجلي هذا الوعي بشكل لافت في ديوان محمد خضر الغامدي ( صندوق أقل من الضياع ) , خاصة في قصيدة( حديث البلكونة ):
لطالما حدثتها عن البلكونه
وعن أفلام الآكشن المصرية
عن دفاتري وأقلامي وحجرة
الكمبيوتر
جاك دريدا ـ الإمام النفري
الجريدة ـ وبيتر جونسون
الموت والدفء
فالثنائيات المقدمة في الجزء السابق لا رابط بينها علي المستوي الظاهري الواضح , ولكن جمعها في سياق واحد , بالإضافة إلي جزئيات عديدة مثل الحديث عن عبد العزيز مشري أو ميلان كونديرا أو العولمة أو الكونيالية , يشير إلي جزئية مهمة ترتبط بالإنسان المعاصر ووعيه المنفتح علي آفاق عديدة , مشدود إلي إدراكها .
هذا الوعي المتعدد الطبقات والاتجاهات أثر تأثيرا كبيرا في شعرية محمد خضر الغامدي , وفي بناء الصورة الشعرية لديه , فالصورة لا تبني علي منطق واقعي , وإنما تبني في إطار منطق خاص , ففي قصيدة ( أرق ) :
يسقط النعاس
في معركته الأخيرة
شرشف متجعد آخر السرير
وحليب الصباح المتثاءب
يقفز في حلقي
بدون تبريرات واقعية
أشعل سيجارة
وأراقب عصفوره تتمطي
فالصورة في هذه القصيدة صورة تكوينية ترتبط بالذات ,بأفقها المغلق والمطبق لحظة الصباح , وللخروج من هذا الأفق المطبق , الذي تشكل من صور مجهرية فاعلة بداية من المجاهدة للالتحام بالواقع بفعل الصحو, ومرورا بحليب الصباح الذي يقفز في الحلق ,نجد أن حركة المعني تنتهج فعل المراقبة بعيدا عن أفق الذات , وكأن فعل المراقبة يضع قشرة رهيفة علي السأم المنفتح وكأنه ـ أيضا ـ يمثل أفقا للضياء .
إن هذا الوعي الخاص الذي أثر علي أن تكون الصورة الشعرية لدي محمد خضر الغامدي تكوينية من بنيات صغري أو مجهرية, كان له حضور خاص في توجيه شعرية الديوان إلي جزئيات خافته لصيقه بأزمة الإنسان المعاصر , وهذه الجزئيات الخافته لا يمكن إدراكها بسهولة , لأنها تحتاج إلي وعي شبيه , بوعي الشاعر, حتي تتم معاينة حركة المعني ونموها في أفق خاص, ففي قصيدة تشرد :
بلا هوادة
كأي شخص وجد أهليته
استرخي آخر أضلاع الليل
اقرأ وجه التشابه
غربة تشعل الصهيل
مساء مشرد نتقاسمه
تتواطأ المدينة مع بغية الريح
وتزرعنا في الشتات.
فالمتلقي لا يستطيع أن يلم بأطراف المعني , إلا إذا استحضر ( المساء ) , وما يوجده للسارد الفعلي للنص من توحد مع الذات , ومن مساءلة خاصة , تفصح عن تشابه السابق والآني والقادم , ومن ثم تأتي الغربة فاعلة , بعد معاينة الفرق الواضح بين المتحقق والمتخيل , وثمة جزئية في النص السابق , تشير إلي تعامل خاص مع عنصر من العناصر الأساسية للوجود , وهو الهواء , من خلال الريح , فالقارئ للديوان يدرك أن الشاعر علي مدي صفحات الديوان أسس رمزية خاصة للريح , فالريح في القصيدة وسيلة أساسية للشتات والعراء , وهي التي تحمل السارد الفعلي في النص وتحركه ـ وهو تحرك ثابت في المكان ـ إلي فضاءات تتكاتف فيما بينها للإحساس بالشتات والأفق المغلق والسكون.
وفي قصيدة ( هوامش الريح ) تأتي الريح مرتبطة بالحزن والبكاء , واحتفالات الحزن , ويبدو أن حضور ( الغبار ) ـ معادل التراب ـ في نظرية امبادوقليس بعناصرها الأربعة في النص الشعري ,يدل علي أن الشاعر يعي تماما ملامح هذه النظرية , التي تجلت بشكل واضح في ديوان عفيفي مطر( رباعية الفرح) , وديوانه ( ملامح من الوجه الامبادوقليسي ) ,فالريح في نص محمد خضر الغامدي وثيقة الصلة بتكوين ذهني خاص , يرتبط بالحركة وعدم الثبات , عند أفق واحد , وإنما تصبح هذه الذهنية المرتبطة بالريح منفتحة لتجارب عديدة تتراكم في لحظة واحدة , بينما يأتي الغبار معادلا للسكون والهدوء , يقول محمد خضر الغامدي :
يزعم الغبار أنه كان حاضرا
في الصف الأمامي
لا لشئ إلا للإثارة
بينما تدرك الريح
هذه السلوكيات الصبيانية
تلتم عصفورتها
وتواصل البكاء
فالغبار ـ معادل التراب ـ يشير إلي ثقل يهدهد من طبيعة الريح المجلوبة علي الحركة , والتي تحمل معها ذاكرة منفتحة علي تجارب تتراكم في لحظة واحدة , مشكلة أفقا خاصا للتشظي والبكاء .
والقارئ لقصيدة ( ركام ) , سوف يدرك مشروعية هذا التوجه في فهم دلالة الريح , ودورها في نقل الإدراك الذهني إلي تجارب تتراكم في لحظة واحدة :
ونمضي كالتفاصيل إلي جحيم الليل
أنت قلتَ ذات سهو بعيد
كيف لي أن أغلق الباب
وصوت الريح يطرق بإمعان
كتابة الذات ونسق المراقبة :
القارئ لديوان ( صندوق أقل من الضياع ) , لمحمد خضر الغامدي , يدرك بسهولة أن كتابة الذات جزء أساسي من شعرية الديوان , فالذات الإنسانية لها حضور واضح الملامح , وثمة جزئية مهمة تشير إلي هذا النسق , وهي جزئية عناوين القصائد , فالمتأمل لهذه العناوين يدرك أن معظم العناوين جاءت (نكرة ) , وهذه التنكير يشي من وجهة أولي بخصوصية الرصد , ومن جهة ثانية يشيرإلي الإعلان عن قيمة هذا الرصد , فالعناوين مثل ( زمن ـ حيرة ـ فقد ـ لهفة ـ رؤيا ـ ترادف ) تكشف كلها عن خصوصية , وعن قيمة هذه الرؤية , فتنكيرها جعلها مرتبطة بحدقة الراصد دون النظر إلي نموذج سابق مؤسس , فهي تؤسس تفردها من خلال هذا التنكير , يتجلي هذا حين يتوقف عند قصيدة ( رسم ):
كل دائرة رسمتها داخل الغرفة المغلقة
كانت تشبه الإطار العتيق
مسنونة جوانبها
محفورة للداخل
نبتسم من الوصايا المعلقة هناك
غير آبهين بمزاج سماء مستطيلة
ففي النص السابق ندرك أن العنوان ( رسم ) جاء مرتبطا برؤية خاصة , للقيود والقواعد الخاصة أو العامة , التي تشكل خطأ أو صراطا , للبشر المنضوين داخل مجتمع ما , وهذه القواعد تتمثل في ( الغرفة )و ( الدائرة ) , وعلي الجانب الآخر , يأتي رسم مغاير يتمثل في المستطيل الذي يشير إلي بوادر للخروج عن القواعد المؤسسة المعهودة , وربما يتجلي من خلال السطر الأول أن هذه القواعد ( الدوائر ) , من صنع الذات وليست لصيقة بالمجتمع , وهذا سوف يجعلنا نعيد تلقي ( السماء المستطيلة ) , بحيث تغدو نسقا خاصا يستعصي علي القواعد , ويهدم الدوائر المصنوعة حول الذات,والأسس التي تكونها لنفسها .
وهذا التوجه في كتابة الذات, والذي يشير إلي نسق متفرد من الوعي , قد يشدنا إلي التوقف عند بعض القصائد , التي جاءت مرتبطة بالزرقة, والزرقة في وعينا الإدراكي لا تنفصل عن البحر أو السماء , بحيث تغدو في قصائد الشاعر معادل غيب , ومعادل مجهول , كما في قصيدة ( زرقة ) , أو في قصيدة ( الحياة باعتبارها زرقاء ) , والزرقة في قصائد الشاعر ـ بالرغم من أن التعامل مع الألوان تعامل ذاتي محض ـ ترتبط بالدلالات المرصودة في إبداعات الشعراء السابقين , فالزرقة ـ لديه ـ مرتبطة بالمرأة النموذج , التي تشكل سلطة نموذج متخيل ( ليس بوسعنا تخيل الأزرق شريعة للريح ـ حتي في أصعب حالاته ) , والأزرق ـ أيضا ـ يأتي معادلا للصفاء , كما في قوله في القصيدة ذاتها :
إن السماء حين تكون زرقاء زرقاء
صافية
يعني أن حالة غبطة وفرح
تأتي من بعيد
يتجلي نسق كتابة الذات في قصائد عديدة مثل ( فقد ) , بحيث يغدو الزمن أو الإحساس بالزمن شاهدا علي حدوث تحولات داخلية , وبحيث يغدو المتن هامشا والهامش متنا , نظرا للنمو المعرفي , ووجود خلخلة لمنظومة القيم التي كانت مطروحة في لحظة ما , لتحل محلها قيم جديدة وارتباطات مغايرة.
وإذا كانت كتابة الذات تجلت في الجزء السابق من خلال الارتباط بالذات وقيمها , فإن هناك جانبا مهما في إبداع الشاعر , يرتبط بالواقع , ومراقبة الآخر, الذي لا ينفصل عن الأنا , ولا يكون للآخر إطار واضح , إلا في إطار جدلي مع الأنا , والديوان به جزء كاشف عن هذا المنحي , تحت عنوان ( حصيلة الواقع ) , والواقع في هذا الجزء لا يتجلى من خلال الاتكاء علي جزئيات كاشفة عن هذا الواقع , وإنما ـ أيضا ـ في استخدام لغة خاصة , تتعلق بالمعيش , وكأن هذه اللغة اليومية , قضت علي أي تعال نسقي خاص بلغة الشعر .
وربما تأتي جزئية أو فعل المراقبة واضحا في هذا الجزء , ولكن فعل المراقبة في ديوان الشاعر لا يأتي بشكل حيادي , وإنما يأتي من خلال وجود وجهة نظر أو وعي ذاتي خاص, يتجلي بشكل متوار وغير علني , ويأتي ـ أيضا ـ مرتبطا بطبيعة الحياة وتناقضاتها اللافتة للنظر ,ففي قصيد ( زمن ) , نجد أن الزمن يطل عنصرا فاعلا للإشارة إلي الحياة بتناقضاتها العديدة من خلال فعل المراقبة الراصد.
والقصيد ترصد وجهين متقابلين للفتاة, ففي الوجه الأول :
البنت الحلوة
تحمل حقيبة اليد الرمادية
الحقيبة نفسها التي تحملها
منذ أعوام
تمشي بهدوء
بجانب السيارات المركونة
عند متجر الأحذية
أراقبها أحيانا
حين يكون الفراغ
كتابا مفتوحا في وجهي
البنت الحلوة
تمشي لوحدها
في هذا الوجه , تلح مجموعة جزئيات كاشفة عن براح الطفولة , التي يكمن جمالها في الأمان , وفي انعتاقنا من الأسئلة الوجودية أو المعرفية التي تنمو معنا بفعل النمو المعرفي أو الزمني , ومن سماتها ـ أيضا ـ الانعتاق من نسق سلطوي يمارس دوره بالتدريج مع تبدل أشكاله وهيئاته .
إن النص الشعري بعد أن يقدم هذا الوجه , يطل الصوت السردي الفاعل في النص , لكي يشير إلي الوعي الخاص , ولكي يشير ـ أيضا- إلي أن السرد المراقِب أو المراقَب السابق لم يكن سردا حياديا , وإنما سرد مبني علي الوعي , وعلي وجهة النظر المتأملة لجمال اللقطة السابقة ببراحها الجميل , قبل أن ينتقل إلي اللقطة الثانية , التي تشير إلي تحول خاص :
البنت الحلوة
أصبحت الآن
تصطحب رجلا بدينا بشارب محايد
وكومة صغار
خلفها
يصرخون
ماما
ماما
البنت الحلوة
لم تعد تحمل حقيبتها الرمادية
ولم تعد تمر من هنا
ففي الجانب المقابل للصورة السابقة , نجد أن السمات التي كانت متاحة , حدث لها تحول , فبراح الطفولة الذي كان موجودا سابقا , والذي يكمن بهاؤه في وجودنا مكفولين من آخرين , وأمان الطفولة في السير منفردة بالنسبة للفتاة , لم يعد متاحا بفعل النمو العمري , وأصبحت هناك صور جديدة تشير إلي وجود إطار سلطوي خاص ممثل في الرجل البدين , وأصبحت الفتاة التي كانت مكفولة من آخرين في موضع جديد , مما أوجد زحزحة وخلخلة للصورة المرصودة السابقة .
إن وجهة النظر الخاصة بالوعي الذاتي في هذا النسق المراقب , تتجلي بشكل واضح في نهاية النص من خلال الاتكاء علي إغلاق أفق هذا الفعل , وكأنه يمثل لهذه الذات بؤرة من الضوء تخرجها من دائرتها المقيمة المطبقة .
إن هذا النسق الخاص بالمراقبة في شعر محمد خضر الغامدي , لا يأتي فقط في إطار مراقبة الآخر المباين عن الذات , وإنما قد يتشكل ـ أيضا ـ ونحس بوجوده في مراقبة الذات , من خلال الاتكاء علي ضمير الغائب للتعبير عن الأنا , وكأن الذات الشاعرة في ذلك السياق تحاول أن تتخلص من كل أواصر الترابط , وذلك بوضع الذات في بؤرة الرصد , دون أدني حضور للأنا التي قد تشكل مصادرة , ومن ثم تغيب الرؤية الموضوعية , فهذا التوحد ليس إلا سبيلا لمعاينة وضع الذات دون مواربة أو تحيز , كما في قصيدة ( صمت ) وقصيدة ( مطابقات ) :
مرة قال عن البحر
همس السماء
وقلادة التيه
مرة قال عن البحر
أغنية عاشق يحترق
وفوضي الطبيعة
مرة
وجدناه هناك
يتكئ علي الحائط الرخام
تتدلي قدماه عند أول الزبد
ولا يلفت انتباهه
غير صوت كلب
ينبح ينبح
باتجاه البحر
إن التعبير عن الذات من خلال استحضار الغياب تقنية لافته في شعرنا المعاصر , فالشاعر يحول ذاته إلي مادة أو ظاهرة من خلال تفردها للدراسة أو المعاينة ,ومن خلال تجرد شبه كامل , وربما كان المقطع الأول والثاني مقطعين عاديين , في إطار الكشف عن طبيعة التأمل الموضوعي , لوضع الذات , خاصة إذا أدركنا أن النص الشعري مرتبط برصد علاقة بين الأدنى والأعلى , بين المبذول والمنكسر وبين المتأبي والمترفع والمتعالي .
ولكن الرؤية الموضوعية الكاشفة تتجلي في المقطع الأخير , حتي لو كانت هذه الرؤية صادمة إلي حد بعيد , خاصة إذا استحضرنا مساحات ( التطابق ) التي وجدنا صداها ماثلا في العنوان , إن هذه الرؤية الموضوعية ترتبط بانكسار ما , في معاينة الغيب أو المجهول , أو قد ترتبط بانكسار ما في تواصل ما يرتبط بمقاربة سلطة نموذج أنثوي متخيل , كما فعل هنريك إبسن في مسرحية حورية من البحر ….

 

 

 

Posted by drgham68 at 11:29 PM 0 comments Links to this post 
Tuesday, December 11, 2007
جدلية المحو والإثبات

«متاهة مريم» لمنصورة عز الدين
جدليـة المحـو والإثبـات

عادل ضرغام
إن رواية متاهة مريم للكاتبة منصورة عز الدين رواية مهمة، لأنها لا تعطي مكنون دلالتها في إطار نسق دلالي واحد، فهي لا تقف عند حدود الذات الداخلة في المتاهة، وكأنها تعيش في عالم غير حقيقي، يحاول التبرم من وجودها، أو إقصاءها بعيدا عن إطاره، فمريم ـ الشخصية الرئيسة ـ يمكن أن تكون ـ إذا وسعنا دائرة التلقي ـ نموذجا للجيل الجديد، الذي لم يفهم التحولات السياسية التي مرت بها البلاد، ولم يقدم له أحد تفسيرا مقنعا لما حدث، ومن ثم فالمعرفة لدي هذا الجيل ـ والجيل في بداية تلقيه للمعرفة يبحث عن البياض الواضح لا عن الرمادي ـ ضبابية غير يقينية. وهنا يمكن أن يثار عدد من الأسئلة: هل تنتمي مريم إلى صوفيا والتاجي الكبير بوصفهما نموذجين لمرحلة ما قبل الثورة، أم تنتمي إلي يوسف وعبد الناصر، يوسف الذي جاء تكوينه الشكلي والنفسي مشوهين إلي حد بعيد، من خلال فقد الذراع وارتياده الغرز الحقيرة، وزجاجات الخمر التي تحفظ له هدوءه واتزانه، في إطار سيل المتغيرات؟ أم تنتمى إلى يحيى بعالمه الآني ويقينه الزائف؟ إن القارئ للرواية يدرك أن الشخصية الرئيسة تتجاذبها المحاور الثلاثة، كأنها مرايا متجاورة أو متعاركة، بالرغم من محاولتها الانسلاخ من العالمين الأولين، إلا أن العالم الثالث الذي تبحث عنه، لكي تضع نفسها في إطاره، أو تشكل حضورها الواضح من خلال وهجه، عالم تشوبه الهواجس، ويشوبه عدم الانسجام التام. إن الشخصية الرئيسة ـ مريم ـ تأتي في الرواية، وكأنها تحيا في عالم لا يخصها أو ـ على الأقل ـ ينكرها، وهي في الوقت ذاته تنكره، فتمسكها بصورة ونسق حياة بالية، في إطار نسق جديد له سطوته ووجوده، يشير إلي أن التحولات الكبرى، التي تصيب الكيانات الخارجية، ربما يحس بها الإنسان ويلمسها، ولكن الداخل الذاتي يظل في أغلب الأحيان في حالة ارتياب أو تمحيص فترة طويلة، محاولا في ذلك السياق التوقف عند صورته السابقة، التي تحفظ له هدوءه واتزانه، فارتداء مريم صورة جيفارا يشير إلى محاولة استبقاء صورة سابقة، كان لها تأثير واضح في فترة مد فكري وثقافي، والاتكاء عليها هنا يشير إلى رفض الآني. وثمة تقنية مهمة اتكأت عليها الرواية، وهي جزئية الملاحق النصية، التي كان لها دور فاعل في الإيحاء بتفرد النص الروائي، وانفتاحه إلى دلالات عديدة، منها طبيعة المكان، وكأنه جزء فاعل، وموح بتغييرات عديدة، وتحولات طبيعة الذات، ولهاثها حول صورة أو منطق تحاول أن تجعله منطلقا لتحركاتها وتشظيها في هذا الوجود. والذات ـ في ذلك السياق ـ لا تقف عند حدود النموذج الأنثوي، الذي يبحث عن وجه خاص، وإنما تحدث ـ بالضرورة ـ خلخلة وإزاحة، لكي تحل كيانات أخري في إطارها، فالإشارة في الملحق النصي الأول إلى سراديب القصر الملتوية، يشي بالعراك الداخلي، وبالتعدد، ومحاولة بحث الشخصية عن وجه تختاره، في مقابل وجه تحاول التخلص منه. وفي إطار ذلك التوجه، ربما تتعدد درجات الرمز ودلالاته، فالوجه الذي تحاول التخلص منه أو محوه، وثيق الصلة من خلال الملحق النصي الأول، بلحظة تاريخية، فالإشارة إلى شقة عابدين في لحظة الصحو، وتوديع مرحلة سرايا التاجي، مؤشر دلالي مهم في جر الدلالة نحو وجهة معينة، بحيث تغدو مريم الذات بتقلباتها العديدة، وثيقة الصلة بلحظات التحول المفصلي في حياة الكيان الأكبر. الاتكاء في بناء الملاحق النصية علي طبقتين اجتماعيتين، يشير من طرف خفي، إلى أن الرواية، لم تأت بريئة تماما من الهم السياسي والحراك الاجتماعي، بل هي منغرسة ومتجذرة فيه، ولكنها لا تعرض هذا الهم من خلال وجهة نظر معينة، تؤمن بها وتدافع عنها، ولكنها من خلال وجهة نظر وحدقة المراقب، ولكن ـ بالرغم من هذه الحيادية ـ يظل ذلك التشظي الذي يشير إلى المتاهة واضحا، فمريم ـ وكذالك الوطن ـ لا يظل على هيئة واحدة ، فهي في معرض دائم للتحول، ولكن شعورها ـ أو تأخر شعورها ويقينها ـ بهذا التحول، هو الذي يكون هذه المتاهة. السياسي وبناء الملاحق النصية على هذا النحو، ربما يشير إلى قيمة السياسي، الذي ربما يكون الخلفية التي تشكلت في إطارها الرواية، ولكنه لا يشكل العمود الفقري فيها، ولكنه يبقى مهما بوصفه جزئية تتأبى على التفسير الواضح للأجيال الجديدة. فمن سمات هذه الرواية أنها قدمت السياسي بشكل خاص، بعيدا عن الانتماءات الصارخة والرنانة، فهي تقدم محاولة للكشف أو الوعي، أو للخروج من نفق المتاهة، في حين أن هناك روايات لكتاب من الأجيال الجديدة، ما زالت تستجلب هذه الانتماءات الطنانة دون مبرر فني، فرواية (أحلام العايشة) لخليل الجيزاوي، و(حفيف الترائب) لخالد الأنشاصي، وروايات أخرى، ما زالت ممسكة ومتوقفة عند هذه اللحظة الفكرية، التي تم التعبير عنها من خلال روايات أجيال سابقة، قد يكون التعبير عن هذه اللحظة لصيقا بهم، مثل (بيت الياسمين) لإبراهيم عبد المجيد، (والحب في المنفى) لبهاء طاهر. ولكن هذه الرواية لم تقع في هذا الفخ، لأنها لا تريد الوقوف عند نفق مظلم باكية أمامه، وإنما تقف أمامه، لكي تسأل بحثا عن المعرفة، وتشكل محاولة المعرفة، وعدم تجليها بشكل واضح المتاهة في النهاية. والسرد في الرواية ليس سردا تراتبيا، وإنما هو سرد قائم على تقنية التشظي، بحيث جاءت أجزاء العمل وفق ترتيب خاص، لا ينتهج النمو البنائي، وإنما يقدم الأحداث بشكل خاص، بحيث يكون علي المتلقي تجميع هذه الجزئيات حتى يلم في النهاية بأطراف الحكاية، التي تتأبى على التنميط. وربما كانت هذه التقنية مهمة في إحساس المتلقي بمتاهته الخاصة في تلقي العمل، والبحث عن الشخصيات المتوازية والمتجاورة، التي تشكل رمزا لكل مرحلة من مراحل التعدد والتشكيل. فالرواية تبدأ بمحاولة الشخصية الرئيسة، التخلص من وجه لا ترضاه، وتركيب وجه ـ بالرغم من التناحر الداخلي ـ يكون مناسبا من وجهة نظرها، ثم يأتي الجزء الخاص بموت يوسف، الذي يشير موته إلى انتهاء مرحلة ما، قد تكون مرحلة الأعراف بين الملكية التي يمثلها التاجي، ومرحلة التحول، التي كانت مرحلة عاصفة، وسببا في محاولة الارتداد لمعاينة المرايا السابقة، وفي الجزء الثالث تعود الرواية للكشف عن طبيعة يوسف، وأثر التغيير، الذي جعله يقف مشوها في دائرة مغلقة، فهذا السرد الخاص الذي جاء مغايرا لزمن الحدوث، يشي بالمتاهة في عمق تجلياتها. ثم تعود الرواية بعد لمتاهة الذات، حين تقول (تسير مريم في شوارع المدينة كالمنومة)، لينمو الخط التصاعدي التدريجي، بعد الجزئيات السابقة، التي جاءت بوصفها خلفيات كانت مؤثرة في وجود المرايا العديدة، وفي محاولة التخلص من وجه، وتثـبيت وجه آخر مكانه. فالرواية ترصد التحول المفصلي من عصر إلى عصر، يتجلى ذلك في مشهد صالح ـ المولع بالجنازات وخفير جنائن التاجي سابقا ـ الذي يتكئ على عصاه، التي آلت إليه من انهيار لحظة سابقة في جنازة عبد الناصر، وبعد مرور عدد من السنوات كان يركب سيارة مرسيدس في جنازة الرئيس المؤمن، وهذا التحول السياسي، جاوبه ـ بالضرورة ـ تحول قيمي في تراتبية الطبقات. رواية (متاهة مريم)، قد تنطلق من متاهة آنية وذاتية، مرتبطة بيحيى المجدول بأفق الموت، ولكن في تجليها الدلالي، لم تبق على هذه الجزئية الحياتية، ولكنها انطلقت منها، ومن خلال هذا السؤال الذاتي الصغير إلى سؤال أكبر، يرتبط بالكيانات الكبرى والتحولات المفصلية في تاريخ الفرد والجماعة، وعوزه القـديم للمعرفة والتفسير. (القاهرة) –>

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.