لابد أن أفصل قليلا في هذا الموضوع الهام لأن فيه الهدف والمصير والخير العظيم لكل الناس. وإن الصدقة باب عظيم لو ولج أحدنا من خلاله وهو صادق في نواياه لحصد من نتاجه ما لا يتوقعه العقل من عوائد وفرج ليس لمداهما حدود.
إن من أكبر المصائب التي انتابتنا في هذه الأيام القاسية هي انعدام الثقة بين الناس. ورغم أن الظنون بمساوئها تراود كل من يتحدث في مسألة الإنفاق لأن القاعدة السائدة اليوم هو أن الذي يحث على الصدقة، عن طريقه أو طريق غيره، هو منتفع ذو التفاف … إلا أني سأكتب في هذا الموضوع المهم الذي يأتي في قمة الأولويات والله من وراء القصد، وسأحدد جهات موثوقة بعينها بعد أن ذكرني أحد المحسنين الكرام برغبته في تناولي لهذا الموضوع، وبعد أن أدركت بأنه ليس لنا أن نكتفي بالأقربين أو الجيران أو المعارف فحسب.. لأن المأساة الكبرى تعدت حدود العقل. وإن المحتاجين الذين تأكلهم الأمراض لا يجدون ثمنا للدواء يموتون ويموت أبناؤهم أمام أعينهم لا يجدون سبيلا إلى علاجهم، وكذا المنكوبين الذين يتلمسون ظل شجرة يبيتون تحته فلا يجدونه، والجائعين والمنقطعين وأبناء السبيل.. كل هؤلاء ومثلهم معهم من أهل الصبر والبلاء هم أكثر من أن يحصوا !!
إني وبالرغم من حساسية هذا الأمر، نظرا لانتحال الكثير من النصابين (أفرادا ومجموعات) صفة المحسنين خلال السنوات الصعبة الماضية، إلا أنه لابد لنا من ايلاء الثقة للجمعيات ذات المصداقية التي يشهد لها تاريخها، والتي لم تنقطع عن العمل الخيري لسنين طويلة. وإن دمشق أنموذجا فريدا في هذا الأمر إذ وعيت على الدنيا وأنا أعلم عدم خلو أي حي أو تجمع سكاني من المراجع الخيرية ومنابع البذل. وإن دمشق كانت ومازالت ممتلئة بهذه الغرسات الطيبة التي تقوم على خدمة الفقراء والمساكين وفق دقة واحتراف وحسن تصرف وعطف وحنان، تعي تماما مواطن الحاجة، وتضمن حسن التصرف في التبرعات، وتقدر الأولويات، وتساعد المحتاج على إدارة مصروفه. ولئن كانت دمشق ومدن الشام تنحو نحو الخير فإن ذلك موجود في كل مجتمع ومكان في الأرض، إسلامي كان أم غير ذلك. فلئن كانت الحكومة الأمريكية، وسائر الحكومات الأوربية، تغض النظر عن المشردين إذ يلجؤون إلى الحدائق والأماكن العامة، وتخصم قيمة ما يعطى إليهم من أصل المبلغ الذي تحتسب على أساسه الضريبة، أفلا نكون (نحن حاملو رسالة الله) أولى بذلك من غيرنا؟
إن الذي يحض على طعام المسكين يكون قد استبرأ لذمته وعرضه أمام الله كي لا يكون مكذبا بالدين، لأن الذي لا يحض على طعام المسكين هو كمن يكذب بالدين (بنص القرآن). فالدين هو منبع الأخلاق، وهو قيم وأعمال وتحاب وعطاء ورحمات بين العباد قبل الشعائر. وإن الشعائر هي اسباب من شأنها أن تصون الأخلاق والحياة الكريمة بين الناس بالرحمة والتآزر. فالله (تعالى) ليس بحاجة لعباداتنا أبدا، بل عباداتنا فوائد منعكسة علينا بالكلية.
أتواصل منذ سنين طويلة مع أكثر من جهة خيرية في دمشق، وهذه الجهات معروفة مسجلة ذات مصداقية يقوم عليها رجال وسيدات ثقاة نذروا حياتهم لعمل الخير، وهم يقومون بواجبهم بشكل رسمي ونظامي. ورغم أن الفرصة لم تتح لي كي أتبرع لهذه الجهات كما يجب أن يكون، إلا أن شق تمرة يجزئ في مثل هذه الأيام. ولقد مدح الله (تعالى) في سورة البقرة إبداء الصدقات والتحدث عنها إن كان إبداؤها في سبيل الخير (دون تخصيص). وإن أول الخير هو الحض والحث على إتيانها. فلئن كان الله (تعالى) قد غفر لامرأة بغي من بني إسرائيل في كلب سقته فإن المغفرة أرجى، والثواب أجزل، والتعويض أقرب، والجزاء من الله كبير في إحسان إلى أبناء عشيرة وإخوان في الله وفي الدين.
أستغرب كيف يدعي مسلم في مغرب الأرض أو مشرقها أن صدقاته أولى في منطقته أو سواها، وينسى حجم النكبات التي تنوب كثيرا من المجتمعات المسلمة ممن يتسبب (دولار واحد) في تحويل مجرى حياتهم بالكلية!! وإنه إن تبرع المحسن إلى فلان بجواره من أجل إتمام علمه، أو لآخر من أجل ترميم بيته، أو لثالث من أجل تزويج ابنه (وتلك اعمال جليلة محمودة يكتبها الله ويجزي عليها) فإنه لابد أن يعلم أيضا بأن هنالك من يحتاج إلى بضعة دولارات كي يحتمي من وحش الجوع هو وأطفاله، وهنالك من يحتاج إلى شراء نظارة لابنته التي وقعت على الأرض وانكسر عظم أنفها نتيجة سقوطها إذ لم تر الانحدار الذي صادفها بسبب ضعف نظرها. ولئن علمنا أن سيدة كريمة، كانت بالأمس القريب ملكة في بيتها، تبذل قصارى جهدها من أجل تنويم أطفالها كي تهدئ من صراخ جوعهم فإن الأمر يستدعي القلوب الكبيرة والرحيمة على عجل. وكم من نفس كريمة ثبت عدم إمكانية شفائها من مرضها الذي سيلازمها طيلة حياتها لكونها قد عجزت عن تامين العلاج لقلة ذات اليد.
مامن شك بأن تقصيرا مبينا في البذل والعطاء يجتاح مجتمعاتنا بأسرها. وإن أهل الشر والاحتيال لم يتركوا مجالا للثقة بين الناس، لكن الدنيا لم تخل ولن تخلو، ويبقى من هم أهل للثقة يعملون في سبيل الله تحت أعين الله. ولئن كبرت فئة الذين يبخلون بالعطاء تحت حجج واهية رغم أنهم قادرون على إيصال أموالهم إلى الجهات الموثوقة والجمعيات الخيرية بسهولة ويسر، فلابد أن يعلم اهل هذه الفئة بأن من يبخل فإنما يبخل على نفسه. وإن العجب كل العجب في رجل يذهب إلى العمرة ثلاث مرات في السنة، يدفع في كل مرة ما يكفي إطعام مئة أسرة لسنة، ثم يعود يظن أنه قد رضى ربه، يرتدي الثوب الأبيض يستقبل المهنئين، فيما أخوه أو ذو الرحم صلة منه لايجد طعاما أو ثيابا لأبنائه!!! ولعمر الله إن ذلك تناقضا في العقل كبير، وتخالفا في الدين مبين. أولم يعلم حين قرر الاعتمار، أو الحج للمرة العاشرة، بأن المؤمنين إخوة؟ أولم يسمع عن الأولوية في العطاء؟ أولم يستق من القرآن أولوية ما أمر الله به كي يصبح قادرا على اقتحام عقبة من عقبات يوم القيامة تحتاج بذلا كبيرا، لا يقدر على تعديها إلا من أطعم في يوم ذي مسغبة (مجاعة) ليتيم قريب أو مسكين ذي متربة التصقت بطنه بالتراب من شدة الجوع؟ أولسنا نحن في أيام كلها مسغبة؟!!… ألا ويح الناس يعبدون المال الذي يغادرونه، ولو أنهم أرادوا اصطحابه معهم لأمكنهم ولعاد عليهم مئات الأضعاف فيما لو بذلوا اليسير منه في تجارة رابحة مع الله رأسمالها العطف والصدقات. أوليس رسولكم (عليه الصلاة والسلام) هو الذي قال: “المسلمُ أخو المسلم لا يظلمهُ ولا يُسلمهُ، ومن كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته، ومن فرّج عن مُسلمٍ كربةً، فرَّج اللَّه عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً سترهُ اللَّه يوم القيامة”… ترى هل علم احدكم ما معنى: (كان الله في حاجته)؟!! 😪😪
اعلموا ايها الناس بأن الله قد ابتلانا بما جعل في أيدينا من مال، وأن المال هو الوسيلة التي تمهد الطريق أمام العبد إلى الجنة إن أحسن الاستثمار فيه مع الله. فكم من يد أعطت لوجه الله عافاها الله ودفع عنها البلاء، وكم من خطيئة أطفأها الله بصدقة وزاد (بفضله تعالى) أن أخلف على باذلها ودفع بها صنوفا من البلايا لا يعلمها إلا الله. وكم من صدقة رحم الله بها معذبا، وفرج بها الهم والكرب… فإذا عظمت على الإنسان ذنوبه، وكثرت منه خطاياه وعيوبه، فما عليه إلا أن يكثر من الصدقات رجاء أن يرحمه الله بها. ولينفق ولو ببضع وريقات نقدية فالله يضاعف أضعافا ليس لعقولنا أن تحسبها. وهذه أمنا عائشة (رضي الله عنها وأرضاها) يأتيها سائل، فتأمر له بحبة عنب، ولما تعجب النسوة الذين كانوا حولها، قالت: إن فيها ذرا كثير… إذ تاولت قول الله (تعالى): “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ”-(الزلزلة)، وإن أم المؤمنين (رضي الله عنها) لم تفعل ذلك بخلا، بل هي من أكرم كرماء الصحابة، لكنها فعلت ذلك لتعلمنا بأن المعروف عند الله كبير مهما قل، فالله الكريم الوهاب هو الذي يضاعف الحسنات ويكيل بمثقال الذرة (جل وعلا). ولما سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أفضل الصدقة، قال: “جهد المقل”- (رواه أحمد والنسائي وأبو داود).. أي القليل مما أمكن. ولنتذكر بأن الصدقة في حال اليسر والارتياح أعظم ثوابا وأوجب منها في أيام الشدة والعسرة. فلئن تصدق أحد في سبيل قضاء حاجة، أو تفريج كرب، أو شفاء من مرض، فإن الله يجيبه بفضله. وإنه لو فعل ذلك في أيام العافية والرخاء لكان الثواب أعظم وأجل، ولكانت الإجابة أقرب. ومن هنا أكد الله (تعالى) في سورة (الحديد) بأن الذين أنفقوا من قبل فتح مكة هم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح. وإن هذا المنطق الذي أكده الله سليم وفطري دون شك، لأن الذي أنفق في الأيام التي لم تستقر فيها دولة الإسلام، وكان فيها المصير مجهولا آنئذ، هو رجل أعطى وفق نية خالصة تماما لوجه الله دون أن يتأكد من رسوخ عمود دولة الإسلام. أما من فعل ذلك بعد الفتح فلاشك بأن الله وعده الحسني.. لكنه لا سواء بين الحالتين. ولقد ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: “أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ”