حذرني أحد من تَلْمَذْتُ لهم وعزفت عنهم، أن لو بقيتُ على حالي لصرت مثل مصطفى ناصف؛ فلم أفهم خبيئة تحذيره، حتى ذُكر مصطفى ناصف في مجلس من العلماء غَيْرِ العاملين، فقال أحدُ فَجَرَتِهِمْ:
– هذا الناقد المجنون!
ثم ضرب الدهر ضرَبانَه؛ فإذا ذلك الأستاذ الذي تلمذت له وعزفت عنه، يذكر كيف أُحْرِجَ إلى عرض أحد كتب مصطفى ناصف، ولم يجد مهربا، فاضطر إلى قراءته، وصبر على بَدَوَاتِه، ثم اصطنع مسلكا عجيبا، كان فيه يثبت بعبارة موجزة في ورقة مستقلة كل فكرة جديدة تعرض له بقراءة الكتاب، ثم نحاه عن نفسه بِمَرَّةٍ، واشتغل بالعبارات التي أثبتها، يقلبها ويتأملها يتلمس ما يجوز أن يُدَّعى بينها من علاقات، حتى تَرَكَّبَ له بنيانٌ مقاليٌّ، اكتفى به، وقبله منه من أحرجه إليه!
مصطفى ناصف، وما مصطفى ناصف!
لم يجدر بمثلي أن يذهل بمثل تلك الدعاوى، عما عاينه، وعما عالجه: أما ما عالجتُه فكُتبه التي كنت دائما أراها نارا ثقافية متأججة وهاجة، أقتبس منها ما أشتعل به، مثلما فعلتُ بما حصلته من نقده على كتابة الجاحظ فيما كتبته عن تَغزّله عن الصُّنّاع. وأما ما عاينتُه فلقاءان أحدهما كان أواخر ثمانينيّات القرن الميلادي العشرين، في مجلس محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا -رحمه الله، وطيب ثراه!- والآخر كان أواسط عام سبعة وتسعين وتسعمئة وألف الميلادي بمستشفى النزهة الدولي، الذي نقل إليه أستاذنا في مرضه الذي مات فيه.
أما في المستشفى فقد جلسنا في الباحة خارج غرفة التمريض، وكان قليل الكلام متقطعه، ربما بادر صمته بتسبيحة أو تحميدة أو تهليلة، فقطعتُ عليه أذكاره، وحملتُه على الكلام فيما يتسع له مثل هذا اللقاء الخاص من أمور الفن والعلم، وعرض ذِكر الدكتور محمود الربيعي أستاذنا المعروف –أطال الله في النعمة بقاءه!- فقال:
– والربيعي ما أكثر ما علمته، ولكنه لا يعترف!
وأما في المجلس فقد سألته هدايتي إلى علم أسرار التراكيب؛ فاستنكر عليّ:
– تسألني أنا!
وكأنه لا يجوز في حضرة أستاذنا أستاذ الدنيا أن يُسأل غيره؛ فلم أكن أرغب مني عندئذ في أن تبتلعني الأرض!
ولقد أدركته قبيل وفاته بخيمة عكاظ من معرض القاهرة الدولي للكتاب، يردّ بعض مقالات عبد الرحمن أبو عوف صاحبِ محاضرتِه، ويحتج ببعض كلام الدكتور طه حسين مُتَبَسِّمًا تَبَسُّمَةً ماكرة، وكأنما وجد الحجر الذي سيُلقمه فاه مُتَمَلِّئًا بما وجد. وقد حضرهما عندئذ أحمد عبد المعطي حجازي ولم يجد غير كرسي على الأطراف؛ فلم يزل يتسحَّب على القاعدين حتى بلغ الصف الأول، ولم أكن أعرف أن للدكتور ناصف فيه كتابا خاصا.
الآن (5/8/2019)، أقرأ للدكتور مصطفى ناصف (1922-2008)، كتابه “الوجه الغائب”، وأعجب:
– كيف اتفق في الغياب الوجهان، مثلما اتفقا في الحضور!
رحمه الله، وطيب ثراه!
القادم بوست