تأليف: كاولوس زافون
ترجمة معاوية عبد المجيد
تقديم: أحمد مجدي همام
***************
إسقاطات:د. ريمه عبد الإله الخاني
ظل الريح لكارلوس زافون، هي رواية إسبانية صدرت عام 2001 للمؤلف كارلوس ثافون. وترجمت إلى أكثر من 20 لغة وبيعت منها ملايين النسخ. وهي تعتبر الجزء الأول من رباعية مقبرة الكتب المنسية التي تضم إلى جانب ظل الريح كل من لعبة الملاك،وسجين السماء ومتاهة الأرواح وقد ترجمت ثلاثة من هذه الرباعية لحد الآن 2019.
الكتاب مميز جدا، يتبعك بحروفه حتى النوم، وقلما يحصل معي هذا رغم ترجمة وانتشار أي كتاب حتى لو كانت ترجمته جيدة، باختصار كون أي كتاب ما ..ترجمت كتبه لعدة لغات لايعني هذا أنه يستحق قراءة نتاجه،مالم تقرأ الكتاب وتحكم بنفسك ، ومجلة الدوحة تنذر بنهاية عصر رواج الروايات، والروايات التي استمتعت بها قليلة، ذلك أن زخرفة الكلام، لن تطغى على دينامية الحدث والحبكة وقلت الروايات التي تتكلم عن الكتب حصرا، مثل الكتب التي ابتلعت والدي، ولقد كان هناك محاولة لي متواضعة بعنوان بلوى الكتب، وكانت رواية ظل الريح أخيرا التي قرأتها حديثا، أما عن محكم الروايات الملتفة، وماأقلها فهي -كانت روايتنا منها-، مثال:
الطنطورية لرضوى عاشور وبعد اكتمال القرن لذكرى نادر، وقصر شمعايا لعلي الكردي، تنضم لها من جديد ظل الريح.عنوان الرواية لم يبهرني، بل غموضه أخافني من أن ألقى خيبة أخرى عندما طالعني زخرف البدايات فشدني السرد، فأعدت الفصل الأول المعنون ب: مقبرة الكتب المنسية، كأنني تمنيت أن يكون العنوان الكامل للرواية هذا هو… ظلال الكتب .اجتزأت من المقدمة التي وضعها أحمد مجدي همام العبارة التالية:
ماالذي أفرزته الحداثة غير كائن استهلاكي، لايتوقف عن الأكل، وهو لايعرف أنه المأكول في النهاية؟. الصفحة 10.
هل يختصر فيها مغزى الرواية هنا؟ لاأظنها تكفي ..
وقد دونت في كراستي كثيرا من الاقتباسات من خلال متن النص، فدوما تغويني الأسقاطات الحكمية لو جاز التعبير.فأحس للسرد طعما رصينا فيه معاني عميقة ، وخلفيه أقوى من السرد نفسه.
انتقلت فورا للفصل الأول ، لتطلعني عبارة : لن أنسى أبدا….
قوية في البدء، ملفتة للانتباه، ماسكة بيد عقلي القرائي لدخول لجة الرواية:
لن أنسى أبدا ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى مقبرة الكتب المنسية…..
فقد يجد عملا هناك يوما ما ولابأس من التعرف على المكان.
نعم هو طفل توفيت والدته بوباء الكوليرا بعد الحرب الأهلية، ومازال يتخيل أنه يكلمها وتكلمه…ومازال الأب مخلصا متذكرا…
- تنهد والجدي وارتدى قناع الابتسامة…
كم نرتديه فعلا…هو في جيبنا دوما.
إن روح الكاتب التي يسكنها الأدب بوضوح، تجعلنا فعلا أسيري قلمه الذي يمسك بنا فيتجول في حارات أسبانيا ليرينا مايرى وكأننا فعلا هناك، فقد جر كتاب ظل الريح الذي يذكره بطل الرواية دانيال الفاقد لأمه، مشكلات كان بغنى عنها، وهنا علينا فهم مراد الكاتب تماما، بين السطور، أن للسرد غاية وهدف فوق السرد ذاته، خاصة عندما تبدأ بافتتان دانيال بابنة مهتم بالكتب ومزيف لها برسلوه ، ليعلم دانيال ند أول زيارة لها منفرده أنها مستشرفة، فيمتلئ قلبه بالغضب، وينوي نسيانها والعودة لمقبرة الكتب وإعادة الكتاب، و وهنا تبدأ الرواية اللغز.
تطالعنا في الصفحة 79، وهو في المقبرة يحاول اسحق قيّمها مساعدتهما فيقول دانيال في وصفها:
-خطر في ذهني أن هذه الشخصية، والتي تتراوح بين خارون ( شخصية خيالية من أسطورة إفريقية)- وأمين مكتبة الأسكندرية، سيطيب لها المقام بين صفحات إحدى روايات خوليان كاركس.
ماهذا الخيال الأدبي الفذ والممتع؟.أعترف أنني لم أقرأ بعد رواية الطنطورية رواية استغرقتني في كل حروفها كتلك الرواية، قد لاتعجبني سلوكيات أبطالها كوني من بيئة ملتزمة، ولكن الحق يقال استطاع الكاتب، من خلال وصف مشاعر وبيئة كل بطل وماحوله من شخوص وعلاقات، أن جذب القارئ خاصة في الحس البوليسي لو جاز الأمر ولكن وقبل أن أكملها، موقنة ولاشط أنني، أمر من نفق لايصل لشيء، وربما أجد نفسي عند أوله، وذلك لأن القضايا التي يقدمها قد لاتمس القارئ سوى لو جيرها لعالم استثنائي شبيه بأمر ما أم قريب منه بطريقة خاصة، كفلتات الأغنياء، والطبقة المسحوقة، والتقائهم معا رغم عدم الانسجام بحال بينهم، تطرح سؤالا ساذجا :
-هل مازالت البيئة في كل مكان تحمل خلايا منفصلة عن بعضها حسب التصنيف البيئي؟وإذن فهل ماقرأناه مستثنى ومفتعلا لافتعال الصدام؟.
بكل الأحوال نجح بشكل منقطع النظير في حبس أنفاسنا متابعة.حيث أنه أحكم الحبكة وسلم تفاصيل اللغز لعدة أبطال كان لهم دور في دورة حياة خوليان كراكس، وبتكرار الأسماء على مدار الرواية أقحمك المؤلف رغما وأمسكك بيده ليدخلك عالمه، البيوت المسكونة، والحي الفقير والتناقض المادي الذي تجده معششا في زوايا الرواية بقوة.
رواية ظل الريح تتكلم عن رواية ظل الريح ومؤلفها الفاشل الفقير البائس”خوليان كاراكس”، وكيف قتل، وعلاقاته المشبوهة، وألغاز تحوم حوله، من خلال أصدقائه في المدرسة وتفرق أهواءهم وتفكيرهم وطباعهم حتى وتصادمهم حيث تبدأ بدخول بطلها دانيال مع والده لمقبرة الكتب المنسية واختياره هذه الرواية ومعرفته من عدة أفواه بحياته اللغزية ،وبحثه عنا تفاصيلها وملابسات مقتله لو نظرنا للقصة من بعيد، فهي لاتعني لك شيئا، لأن الصورة مأخوذة من شخوص معظمها بائسة،وكأن المؤلف جمعها كعقد ثمين ليخرج بروايته، لكن يبقة يأسرك الإنشاء والتعبير الآسر حقيقة مثال:
-“هذا المكان سرّ يا دانيال، إنه معبدٌ، حرَمٌ خفيّ. كلّ كتابٍ أو مجلد هنا تعيش فيه روحٌ ما. روح من ألّفه وأرواح من قرأوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله. وفي كلّ مرّة يغيّر الكتابُ صاحبه، أو تلمس نظراتٌ جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية”.ص16
-كان خوليان يعيش لأجل نفسه، ولأجل كتبه، ويحيا في قصص رواياته مثل سجين في زنزانة فاخرة، ثمت سجون أسوأ من الكلمات….ص 190-191
-كان يعيش في صفحات رواياته، والجسد الذي رقد في تلك الحفرة، كان جزءا منه فقط، أما روحه فتسكن في الحكايات التي قصها.ص197
-الروايات كما يعلم الجميع،لتسلية الإناث أولئك الكسالى الذين لايعملون. ص 238
-الكلام مسلك الحمقى، السكوت حجة الجبناء، والإصغاء زينة العقول.
من قال ذلك؟
سينيكا.ص 331
ومنها الكثير الذي لو قيلت في زمننا هذا لأثارت جدلا طويلا، فهل خص ماورد بالبيئة، أم هي حكم ينفرد بها، تركها تقال على لسان الأبطال؟، الذين كان رسم شخصياتهم ناجحا وملفتا في تكريس التمايز بينهم، حتى لتشعر أنهم لحم ودم جمعهم الكاتب رغما في رواية واحدة، وإنك تتلمس ذلك من بؤس معظمهم، وقصص حياتهم الحادة الأطراف.
لقد كانت الترجمة موفقة للغاية، حتى أنها أتت بروح النص خاصة في الأمثال القليلة، مثل ذنب الكلب أعوج وغيرها.
وهناك جملة ترددت كثيرا عبر مساحة السرد وهي:
“هناك سجون أفظع من الكلمات “
كان هذا في الصفحات : 190 على لسان فيرمين، والصفحة 392 على لسان ميغيل، ودانيال، وبالاثيوس معاون المحقق فوميرو قاتل كل من يعرف مقابل أي مبلغ محترم من البيزيتات ، ونوريا في مذكراتها، فهل كانوا يعنون الذكريات مثلا؟، لينهي موميرو اللغز بقوله في الصفحة 494 بقوله:
رب صورة خير من ألف كلمة يادانيال.
وهي صورة خوليان مع زوجته المستقبلية.
السرد محشو بالصور الموحية بالعلاقات غير الشرعية، ولعل زمن السرد كان في نهاية عصر الخوف على الشرف، وبداية التفلت الحقيقي المحزن، وكأن المؤلف يسخر من المتدينين ليفرض عقيدته العصرية، حيث نجد ذلك في الصفحة 494: على لسان والد دانيال:
-أبي الذي لم يراوح الكرسي، طوال سبعة أيام بلياليها، يصلي لله الذي لم يكن يؤمن به يوما.
هذا غير سخريته من القس الذي رفض إتمام مراسيم زواد دانيال من بيا عندما عرف أنها حامل.
الرواية حرصت على تفاصيل كل شخصية وخصوصيتها وتاريخ خاص بها، وربطها ببعضها جيدا بحس بوليسي محكم.براعة مابعدها براعة، وبيئة موصوفة بتفاصيل دقيقة.لتنتهي كبدايتها بزيارة دانيال وابنه خوليان لمقبرة الكتب المنسية، والتي عرفت دانيال بداية على رواية ظل الريح التي قادته لمؤلفها، عبر مغامرات تحبس الأنفاس، قلما تجدها حتى في الروايات الفائزة بالجوائز والتي أنشات لها مجموعة خاصة على الواتس فكان 90% منها لا تجد فيها مايلفت النظر بقوة. بل قد يكون بعضا لايستحق كلمة رواية.
وينتهي السرد بخاتمة يكتبها المترجم، واصفا صعوبة مهمتة التي أعتقد أنها ناجحة جدا.ويذكر أن مكافأته المتعة التي يمنحها إياها الكاتب.حيث اطلع واعتمد على لغة الرواية بالاسبانية والفرنسية والإيطالية وحتي الانكليزية.ونظرية الترجمات المقارنة. غير المراجع النقدية المتعددة للمحافظة على نكهة التعبير.إضافة لأبحاث المترجم الخاصة ويشكر زملائه الذين تحملوه أثناء عمله.
***************************
وأخيرا:
لعلي بت على يقين بعد ممارسة الكتابة، أن معظم الكتاب الناجحين، يملكون حساسية استثنائية تجاه الواقع، ومنضدة مليئة بالبهارات الحارة، لتطييب الطعام…
الكتب الناجحة علم لانهائي من الأفكار، من عوالم خاصة جدا ، لايعيها إلا من أحبها بصدق.
لايقرأها إلا متذوق، ولايكتبها إلا ذو نظر دقيق وإحساس مرهف.
شكرا لحضوركم.
15-7-2019