www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

ملكية حق الانتفاع بالأشياء بين الفطرة والاكتساب /أسامة عكنان

0

عندما يقول الرسول الكريم.. “الإسلام دين الفطرة”، فهذا يعني أن مفاهيم الإسلام وأحكامه وتشريعاته ومواقفه من مُختلف القضايا، يفترض أن تنسجم تمام الانسجام مع الفطرة الإنسانية، وهي الجِبِلَّة التي جبل الله عليها الناس، ولا تتعارض معها. والفطرة بمعنى الجِبِلَّة هي في شكل من أشكالها مَجموعة الإحساسات الذاتية في الإنسان والمرتبطة بوجوده وبقائه الحيوي في هذا العالم. فالشعور بالميل

ملكية حق الانتفاع بالأشياء بين الفطرة والاكتساب

أسامة عكنان

عندما يقول الرسول الكريم.. “الإسلام دين الفطرة”، فهذا يعني أن مفاهيم الإسلام وأحكامه وتشريعاته ومواقفه من مُختلف القضايا، يفترض أن تنسجم تمام الانسجام مع الفطرة الإنسانية، وهي الجِبِلَّة التي جبل الله عليها الناس، ولا تتعارض معها. والفطرة بمعنى الجِبِلَّة هي في شكل من أشكالها مَجموعة الإحساسات الذاتية في الإنسان والمرتبطة بوجوده وبقائه الحيوي في هذا العالم. فالشعور بالميل إلى الجنس الآخر شعور فطري يقوم عليه استمرار النوع. والشعور بالجوع والعطش والرغبة في النوم والراحة واللعب، كلها مشاعر فطرية يرتبط وجود الإنسان بها بشكل من أشكال الارتباط. والشعور بالرغبة في العدل وبحبه وحُسْنِه وبكره الظلم وبغضه، هو أيضا شعور فطري، لأنه شعور يتحقق به الوجود الإنساني في أسمى وأرقى وأنبل هيآته. هنالك إذن مَجموعة من المشاعر والأحاسيس الفطرية التي لا تُكتَسب بالتربية أو بالمؤثرات الخارجية سواء كانت مؤثرات بيئية اجتماعية أو طبيعية.
وعندما يقول الرسول الكريم.. “يولد المولود على الفطرة فأبواه هما اللذان يُهَوِّدانه أو يُمَجِّسانه أو يُنَصِّرانه”، فهو إنما يبين لنا بكل وضوح أن التربية والبيئة بصورة عامة تسهمان إلى حدٍّ بعيد في طمس معالم الفطرة في بعض الجوانب، ما لا تتاح معه الفرصة للإنسان كي يصل إلى الحقيقة بكل موضوعية. وهي الحقيقة التي ما كان إلاَّ ليصلَ إليها فيما لو حيلَ بين فطرته واستعداداته الطبيعية، وبين المكتسبات التي جاءت بها البيئة الاجتماعية فغطَّت من خلالها على بعض ملامِحها الأصيلة. وقد تُسهم البيئة الاجتماعية والمفاهيم التربوية التي يعيش في ظلها وكنفها الإنسان، في توليد العديد من الأفكار والأحاسيس التي تغدو مع الزمن ومن خلال التواصل النفسي من جهة والاجتماعي التاريخي من جهة أخرى، وكأنها حقائق ومشاعر راسخة ترقى إلى مصافِ ثوابت الفطرة الإنسانية، مع أنها في حقيقتها ليست كذلك، وما تلبث عدم فطريتها أن تَتَكَشَّف أمام ناظرينا عند أيِّ امتحانٍ إختباري بسيط. وما موضوع “الملكية الفردية” للموجودات إلاَّ واحدٌ من هذه المواضيع التي عانت من الضياع البُنْيَوي بين مقولتي “الفطرية” و”الاكتساب”.
فمقولة حق الإنسان “الفرد” في التَّمَلُّك استنادا إلى فطرية هذا الحق، ما لا يجوز معه الوقوف في طريقه إلاَّ إذا أريد الوقوف في طريق الفطرة ومحاربتها، وهو الأمر الذي يتهدد النظام البشري ككل تماما كما يتهدده لو تمت محاربة ميل الإنسان إلى الجنس الآخر، أو رغبته في سد رمقه من الطعام والشراب، هي المقولة التي يتبناها من يؤكدون على ضرورة بناء النظام الاقتصادي في المجتمع على أساس “الملكية الفردية”، وذلك بإتاحة الفرصة الحرة أمام الناس ليتملكوا.
وفي المقابل فإن هنالك مقولة أخرى ترتكز إلى اعتبار حق التملك الفردي للأشياء والموجودات حقاًّ تعسفيا، فهو لا يَمت لا من قريب ولا من بعيد إلى فطرة الإنسان. فالإنسان لم يوجد ولم يولد وهو يلهث وراء ملكية الأشياء ملكية فردية كلهاثه وراء الطعام والشراب، بل إن مثل هذا الشعور بالرغبة في التملك هو شعور مُكتسب تَخلقه للإنسان البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، من خلال المفاهيم التي تحاول تكريسها في ذهنه عبر التربية والتعليم ووسائل الإعلام والاتصال والتَّلقين والتنشئة المختلفة في المجتمع، ما يعني أن الإنسان لو عاش في بيئة اجتماعية لا تعير التفاتاً ولا أهمية للتنظير لمقولة فطرية حق التملك، لنشأ هذا الإنسان دون أن يشعر بأيِّ رغبةٍ في تَملك الأشياء تملكاً فرديا، ولكان شعوره بِحق المجموع في تَملك هذه الأشياء أعمق إذا ما انتهجت تلك البيئة الاجتماعية نَهجا تربويا وتعليميا وتلقينيا يكرِّس مثل هذا المفهوم الجماعي.
إن المقولتين السابقتين معا ارتكزتا إلى فكرةٍ واحدة هي في جوهرها خطأ، إنها حق التملك الإنساني للأشياء والموجودات، بصرف النظر عن كون المقولة الأولى اعتبرته حقاًّ فرديا، وعن كون المقولة الثانية اعتبرته حقاًّ جماعيا وليس فرديا. ومكمن الخطأ هو أن الإنسان لا يمتلك بالمفهوم المبدئي للملكية الذي يقتضي حرية التصرف، وهو حين لا يمتلك فهو لا يمتلك لا بصفته فرداً ولا بصفته مجموعاً، لأنه لا الفرد ولا مجموع الأفراد لهم الحق في التَّصرف في موجودات هذا العالم بدون قيود أو شروط. إن ما يمتلكه الإنسان الفرد أو الإنسان الجماعة، هو حق الانتفاع بموجودات هذا العالم، بِما يكفل له أو لها إشباع حاجاته أو حاجاتها كي يستطيع أو كي تستطيع تحقيق أمر التكليف بالخلافة. من هنا يأتي خطأ المقولتين معا حين تعاملتا مع العالم كأنه ملك للبشر، وحين أهملتا الدور النيابي للبشرية. وهكذا يغدو من الأجدر أن نعالجَ “ملكيةَ حق الانتفاع” لمعرفة الفطري من المكتسب فيها.
ليس بكثير أهمية أن يكون أمرٌ ما فطريا في حدِّ ذاته وبصورة مباشرة كي نتعامل معه على أساس ما تقتضيه الفطرة، فقد يكون غير فطري ولكن تمرير الفطرة لا يتم إلاَّ به فيكتسب صفة “اللزوم الفطري”. وهذه الحالة شبيهة تماما بالقضايا العقلانية التي تدرك بالنظر العقلي. فليس بالضرورة كي تكتسب حقيقة ما صفة “اللزوم العقلي” أن تكون واضحة في العقل كوضوح الحقيقة التي تنص على أن لكل حادث سبباً، فقد يكون التركيب المنطقي للحقائق الواضحة بعضها إلى بعض موصلا إلى حقيقة غير واضحة في العقل بصورة مباشرة ولكنها مع ذلك تكتسب صفة “اللزوم العقلي”.
وما الرياضيات إلاَّ دليلٌ على ذلك. فنحن قد لا ندرك من حقائق الرياضيات بوضوح عقلي تام إلاَّ القليلَ جدا منها، كحقيقة أن المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين في واقع هندسي إقليدي، أو كحقيقة أنه من نقطة خارج مستقيم لا نستطيع أن نرسم سوى مستقيم واحد يوازيه، ومع ذلك فلا فرق من حيث “اللزوم المعرفي العقلي” بين هاتين الحقيقتين البديهيتين، وبين حقيقة أن مربع الوتر في المثلث القائم يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين فيه، وهي الحقيقة الرياضية التي لا نستطيع معرفتَها بدون برهان رياضي تركيبي من النوع غير السهل بكل تأكيد.
كذلك هي “القضايا الفطرية”. فنحن لا نشعر بملكيتنا لحق الانتفاع بالموجودات شعورا فطريا، بل إن هذا الشعور شعور اقتضته المشاعر الفطرية الحقيقية. فنحن مثلا نشعر بحاجتنا إلى الطعام لسد رمق جوعنا، وإذا كانت هذه الحاجة لا تتحقق في زمان ومكان معينين إلا عبر الانتفاع ببعض الموجودات بطريقة معينة، فإن الانتفاع بها بتلك الصورة يغدو مُتَّصِفاً بـ “اللزوم الفطري”، ويغدو امتلاكنا لحق الانتفاع بها مشروعا، لأن الفطرة أدَّت إليه، تماما كما هو شأن المعارف العقلية المركبة التي أدت اليها المعارف العقلية البسيطة.
إذن فـ “ملكية حق الانتفاع بالموجودات” تترتب تَرَتُّباً ضروريا على شعورنا بالحاجات الفطرية ذاتِها، ما يَجعلها تكتسب صفة “اللزوم الفطري” من حيث المبدأ، في كل زمان ومكان، لأن تلك الحاجات الفطرية لا تُشْبَع إلاَّ عبر الامتلاك المبدئي لحق الانتفاع بالموجودات التي تُشبعها. وهكذا نَخلص إلى حقيقة أن “ملكية حق الانتفاع” بما في الأرض، هي ملكية تتصف بـ “اللزوم الفطري” المترتب على حاجاتنا الفطرية المحتاجة إلى إشباعٍ لا يمكن تحقيقه إلاَّ عبر “الانتفاع” الذي لا يمكنه أن يتحقق ابتداءً إلاَّ عبر امتلاكنا لحقنا فيه.
إذن فكما أن هناك على المستوى المعرفي العقلي نوعين من المعارف العقلية، النوع البسيط الذي اكتسب بساطته من وضوحه التام والمباشر في العقل، والنوع المركب الذي لا تُمكن معرفته إلاَّ عبر مُمارسة نوعٍ من الاستدلال المنطقي بتركيب مجموعة المعارف البسيطة، للوصول إليه بسبب عدم وضوحه التام والمباشر في هذا العقل، فإن هناك على المستوى الفطري نوعين من الإحساسات الفطرية، النوع البسيط الذي يكتسب بساطته من الشعور المباشر به، والنوع المركب الذي لا يُمكن الشعور به، ولكن يمكن اكتشافه بعد الشعور بالأول، وبأنه ضروري لإشباع وتحقيق هذا الأول.
فإذا كان تَمَلُّكُنا لحق الانتفاع بالموجودات قد اكتسب لزومه الفطري من جراء كونه الضرورة التي بها تُلَبَّى الحاجات، فلا يمكن لهذا الشكل من أشكال التَّمَلُّك أن يَتَحَدَّد وتُعْرَفَ أبعاده وماهيته إذن، إلاَّ عبر التَّعَرُّف على أبعاد ذلك الشعور الفطري الذي أدَّى إليه ابتداءً، وهو الحاجة. وهنا فقد صار لزاما علينا أن نُناقش هذه الحاجة الإنسانية التي يُحِسُّ بها الإنسان فطريا والتي أكسبت ملكية حق الانتفاع لزوما فطريا، كي تتسنى لنا معرفة “حق الانتفاع” نفسه، كيف سيكون، وكيف ستكون ظروفه وملابساته، وما يُمكن أن يكون منه فطريا وما يُمكن أن يكون مُكتسبا بالتربية وبالتَّنْشِئَة الاجتماعية.
للوهلة الأولى يتبين لنا بكل وضوح أن الحاجات الإنسانية يمكن حصرها في اثنتي عشرة حاجة، وهي من هنا حاجات محدودة من جميع جوانبها الوجودية، وليست مطلقة لا محدودة. فإحساس الإنسان بالميل إلى الجنس الآخر يدفعة إلى الاتصال به. وبعد عملية الاتصال وإشباع نهم هذه الحاجة، نَجد أن الإنسان يعزف عن الاتصال ويَعِفُّ عنه إلى درجة اللاَّرغبة المؤقته في الجنس الآخر، إلى أن يتجدد هذا الميل عبر فترة زمنية مُقبلة لتبدأ الدورة من جديد. ورغم أنه صحيح أن الناسَ يتفاوتون في شدة الميل وحجم المطلوب من الاتصال لإشباعه، إلاَّ أن الكل في النهاية يقدرون على الوصول إلى مرحلة الحصول على حجمٍ من الاتصال يُشبعُ ميلَهم بالكامل.
وإحساس الإنسان الفطري بالجوع يدفعه إلى البحث عن الطعام والتهامه، ومهما التهم الإنسان الجائع من طعام، ومهما كانت حاجته منه كبيرة في ظروفٍ معينة، فإنه سيصل إلى مرحلةٍ من الإشباع لا يستطيع معها أن يُضيف شيئا إلى جوفه، لتبدأ الدورة من جديد، وذلك باستهلاك الطعام شيئا فشيئا داخل جسده، لتعود الحاجة إلى طعامِ جديد بالظهور، وهكذا. وما يُقال عن الحاجة إلى الطعام، يقال عن الحاجة إلى الشراب، وما يقال عن الحاجة إليهما يقال عن كل الحاجات الفطرية أو ذات اللزوم الفطري عند الإنسان.
الإنسان يحتاج إلى الراحة فيرتاح ثم يشبع منها باحثا عن تعب جديد. ويَحتاج إلى اللَّعِب فيلعب إلى أن يَمَلَّ اللَّعب بعد أن يشبع منه. ويَمرض الإنسان فيتعالج، وعندما يشفى تنتهي حاجته للعلاج إلى أن يمرض مرة أخرى. ويسكن في بيته إلى أسرته فيطمئن ويرتاح، ولكنه يشبع من كل ذلك فيخرج من البيت باحثا عن واقع جديد وعن وجه جديد لحياته. هكذا هو الإنسان، وهكذا هي حاجاته، عميقة تُهدد وجودَه بالفناء إذا لم يُلَبِّها عند الشعور بها، ويصل وهو يمارس معها عملية التَّلْبِيَة إلى حدِّ الإشباع الذي لا يطيق معه التفكير فيها إلاَّ بعد أن تعاودَه الحاجة إليها من جديد.
وإذن فكلُّ حاجات الإنسان محدودة، وحجم المطلوب من الموجودات ومن طرائق الانتفاع بها لتلبيتها هو أيضا محدود بحكم محدودية الحاجات ذاتها. وإذا كانت الحاجات الإنسانية محدودة، وإذا كان حجم المطلوب من الموجودات والمنافع لإشباعها محدوداً بالتالي، فلا شكَّ إذن في أن ما تطلبه الفطرة بإلحاحٍ وباستمرارٍ هو إشباع هذه الحاجات، أماَّ ما فوق الإشباع فليست له علاقة بالفطرة. لأن الفطرة التي هي من خلق الله، لتكون مُرشد الإنسان في حياته كي يحافظ عليها وينميها، رُكِّبَت وصُمِّمَت بالشكل الذي تُلِحُّ فيه على طلب الإشباع لتسكن بعد هذا الإشباع، إلاَّ في حالة واحدة، وهي أن تكونَ البيئةُ التي نشأت فيها بيئةً تُكَرِّس مفاهيم معينة عنها تضيف اليها ما ليس منها وما ليست لها به علاقة.
خلاصة القول إذن، أن الفطرة تَكُفُّ بطبيعتها عن المطالبة بشيء عند إشباع حاجات صاحبها. ولا يوجد هنالك شيء تطلبه الفطرة ويُعترف له بفطريته أو بلزومه الفطري على الأقل، ويكون خارج حدود الانتفاع به لإشباع حاجةٍ من حاجاته التي ترتكز أساسا إلى الفطرة. وبِما أن حاجات الفطرة معروفة وبَيِّنَة واضحة، فإن تلبية وإشباع تلك الحاجات الضرورية للإنسان مطلوب فطريا، أماَّ غير ذلك والإلحاحُ عليه وعلى كونه فطريا، هو إلحاح في غير موضعه، تصنعه البيئة التي تؤثر في العقل وليس في الفطرة، وتصبح المطالبة به مطالبة من الشكل الذي يحاول اقحام الفطرة عنوة فيما ليس لها به دخل أو شأن.
إن الإنسان يحس بحاجته إلى الطعام في كل زمان وفي كل مكان منذ وُجِدَ على هذه الأرض. ولكن الطُّرُقَ التي يتبعها لإشباع حاجته هذه مختلفة بحسب الإمكانات المتاحة أمامه وبحكم المعارف والعلوم التي توصل إليها للاستفادة من الطبيعة لصالح غذائه. فهو في بداية وجوده كان يأكل الأعشاب والنباتات والثمار المتوافرة له في الطبيعة بشكل مباشر، ثم أصبح يأكل اللحوم النيئة من صيد الحيوانات التي تشاطره المكان، بعد أن اكتشف وسائله الخاصة لاصطيادها. وبعد أن اكتشف ما بداخل البحار أخذ يصطاد حيوانات البحار ويأكلها، وبعد اكتشافِه للنار أخذ يطهو طعامه فوجده أطيب وألذ فأصبح الطهي طريقةً جديدة معتمدة لديه لإشباع حاجته من الطعام. ثم بعد أن اكتشف الزراعة استقر في الأرض وأخذ يزرع ما يناسبه، وتنوعت المزروعات التي يستخدمها في غذائه عبر الزمان والمكان. وبعد أن تَمكن من تدجين الحيوانات اعتمد عليها كثروة غذائية. وبعد أن دخلت الصناعة حياته بدأ يُحول الأغذية ويركبها ويُخَزِّنُها، وتطور هذا النمط الغذائي له. وقد يصل إلى مرحلة الاعتماد على الحبوب والكبسولات المُكَثَّفَة بمادتِها الغذائية المصنعة كيمياويا في المستقبل.. إلخ. فالحاجة الى الغذاء حاجة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، أماَّ طريقة إشباع هذه الحاجة فهي متغيرة ومتبدلة، وبحكم طبيعة التطور التقدمي الغالب على حياة الإنسان، فإن التغيرَ والتبدلَ إنما يَحصل باستمرار نحو الأفضل والأحسن بالمقايس والمعاير الإنسانية. وما يقال بهذا الخصوص عن الحاجة إلى الطعام يقال عن الحاجات الإنسانية كلها، سواء الحاجة إلى الشراب أو إلى التنقل أو إلى السكن أو إلى الأمن أو إلى غير ذلك.
وإذا اتضح لنا أن إشباع الحاجة مسألة نسبية تَحكمها إمكانات المرحلة التاريخية والواقع المكاني الذي يحياه الإنسان، فإنه وهو يسعى إلى إشباع حاجاته الفطرية يمتلك حق الانتفاع بالموجودات الطبيعية بما يُحَقِّق له الإشباع المطلوب بالمعايير العلمية والحضارية والمقدراتية لزمانه ومكانه المُعَيَّنَين. فعندما كان الإنسان يستعمل الجمال والبغال والخيل كوسائل للتنقل من مكان إلى آخر، فهو إنما يُعبر عن امتلاكه لحق الانتفاع بتلك الموجودات بتلك الصورة لتلبية حاجة التنقل عنده، لأن تلك الوسيلة كانت هي الوسيلة التي وصل إليها جهده وعلمه. وعندما أصبحت السيارة وسيلتَه للتنقل عبر التطور العلمي الذي أحرزه، فإن استعماله لها في تنقلاته إنما يُعبر عن امتلاكه لحقه في الانتفاع من موجودات الطبيعة بالصورة التي أوصله إليها علمه ومعرفته ومقدرته وبحثه الدؤوب نحو تطوير واقعه مُعَبَّراً عنها بالسيارة.
لكن الحديث عن الفطري والمكتسب من المشاعر والأحاسيس، وعن علاقة ذلك بالحاجات وإشباعها، لا يكتمل دون التطرق بحيادٍ وموضوعية إلى مسألةٍ هامة تتعلق بالفطرة في سياقها غير الحاجاتي. فليست كل المشاعر الفطرية أو التي تتصف بـ “اللزوم الفطري” نابعة دائما عن حاجات حيوية غريزية تتطلب الإشباع المباشر. قد نكون محقين إلى حدٍّ بعيد إذا قلنا أن المشاعر الفطرية عندما تتعلق بالحاجات التي تتطلب الإشباع، فإن تحديدها وتأطيرها يجب ألاَّ يخرج عن حدود تلك الحاجات التي ارتبطت بها وانبثقت عنها. ولكن ما هو شأن المشاعر الفطرية أو ذات “اللزوم الفطري” التي تنشأ وتنبثق في الإنسان بشكل يبدو فطريا وغريزيا دون أن تكون وراءَها حاجاتٌ حيوية دفعت إليها؟!
كي يكون حديثنا واضحا وذا دلالة نُحَبِّذ الاستئناس بمرحلة الطفولة المبكرة المتحررة من ضغوطات الآثار الفعلية للتنشئة الاجتماعية. فهذه المرحلة هي أكبر مؤشر على ما يمكنه أن يكون فطريا مما لا يمكنه أن يكون كذلك. فالطفل المبكر وهو التعبير الطبيعي عن الحالة الشعورية الفطرية لدى الإنسان قبل أن تكتنفها المؤثرات البيئية، وقبل أن تتدخل في صياغتها مؤسسات التنشئة الاجتماعية بأّيٍّ من أشكالها، يُعْتَبَر الوعاءَ الحاضن للمشاعر الإنسانية في سياقها الأكثر تلقائيةً وطبيعيةً وبُعْداً عن التأثر بالمحيط الخارجي، بحيث يمكننا الاعتماد على هذا الوعاء اعتمادا كُلِّياً في تصنيف المشاعر الإنسانية التصنيف الأصيل، أو التصنيف “ما قبل الاجتماعي” إن صح التعبير.
يبدأ الطفل حياته بشعورٍ كلي بأن العالمَ ملك له يجب أن يستجيب لاحتياجاته أياًّ كانت. تتجلى مظاهر التعبير عن هذا الشعور لدى الطفل برغبته الشديدة والحازمة – غالباً – في الاستحواذ على ما في أيدي الآخرين وفي تَمَلًّكِه، خاصة إذا كانوا أطفالا في مثل سنه. ومع تقدمه في السن يبدأ هذا الشعور الكلي بالتملك يتقلص ويتهذَّب، بسبب اكتشاف الطفل لحقيقة الواقع الموضوعي المحيط به، والذي يتعلم منه أن هناك شركاء لا يمكنه أن يتجاوزهم وأنَّ لهم الحقوقَ نفسها، وبالتالي فإن عليه أن يبدأ بالسيطرة على رغباته كي لا تجلب له الضرر بالنظر لما فيها من عدائية تستفز الآخرين إذا تواصلت بشكلها ذاك. وهو في المقابل يرى الآخرين من نُظرائه يفعلون الشيء نفسَه، فيدرك أن طبيعة الأمور تقتضي ذلك، وأن الوضع فيه قدر معقول ومناسب من العدل والإنصاف، فلا أحد يطالبه بفعل ما لا يطالِب الآخرين من أقرانه بفعله.
الطفل أيضا يشعر بسعادة غامرة كلما تَمَّت مكافأته على أفعال حسنة تُطلب منه، أو على نجاحات يحققها في مجالٍ أو في آخر. وكلما كانت المكافأة التي يحصل عليها ذات قيمة مادية واضحة التأثير في إشباع حاجاته ومُتَعِه كلما كان أكثر سعادة بها. لن تستوقفَنا من ظاهرة عدم إدراك الطفل المبكر للواقع الموضوعي، سوى مسألة واحدة هي على وجه التحديد الدلالة الحقيقية لنزوع الطفل إلى الاستحواذ والتملك والسيطرة على ما لدى الآخرين، فضلا عن تأثير المكافآت والحوافز عليه وعلى أدائه وعلى سعادته.
في الوقت الذي يؤكد فيه دعاة “لا فطرية النزعة إلى التملك” على أن هذه النزعة تُمْنَح بالاكتساب وعبر مُدخلات التنشئة الاجتماعية المختلفة، وأن الإنسان لا ينشأ وهذه النزعة قائمة فيه ومُتَحَكِّمَة في مشاعره، لكنها ترافقه من خلال المعتقدات التي تحقنه بها الأسرة والمدرسة والثقافة الاجتماعية السائدة بكل عناصرها. فإننا نجد أن حالة الطفولة المبكرة التي اعتمدنا عليها لسَبْرِ غور الحقيقة، تشير إلى عكس ذلك تماما. فهي تكشف لنا عن أن الإنسان يولد ونزعة السيطرة على ما في أيدي الآخرين متحكمة فيه ومتأصلة في مشاعره وبشكل عدائي أحياناً، وأنَّ المجتمع ومؤسسات التنشئة والثقافة بالتالي هي التي تُسهم مُجتمعة في تهذيب هذه النزعة وتخفيف وطأتها وتأثيرها عليه. فضلا عن أن حب المكافأة والتَّحفيز ينطوي ضمنا على كل معاني الرغبة في التملك والتميز عن الآخرين بهذا التملك. كيف يمكننا قراءة ظاهرة النزوع إلى التملك في الطفولة المبكرة عبر عنصري “الرغبة في الاستحواذ” و”السعادة بالمكافأة”، في ضوء قناعتنا بأن المشاعر الفطرية المرتبطة بالحاجة تَكُفُّ عن المطالبة بأكثر من إشباع الحاجة عندما يتم إشباعها، مع أن هذه النزعة لدى الطفل المبكر تبقى مُسيطرةً عليه حتى بعد إشباع كل حاجاته التي تكون في حاجة إلى إشباع؟!
في الواقع لا يوجد فرق بين الطفل المُبَكِّرِ وبين الإنسان الراشد في هذه النزعة إلى التَّمَلُّك بعنصريها، إلاَّ في مستوى ظهورها وفي طريقة التعبير عنها، وفي الموقف الأخلاقي منها فقط. ولأن الطفل في سِنِّهِ المبكرة تلك مُتَحَرِّرٌ من مؤثرات التنشئة الاجتماعية، ومن التحفظات الأخلاقية، ومن الوعي بالواقع الموضوعي ومتطلباته، ومن إدراك الحدود والفواصل بين “الأنا” و”الأنت” و”الهو”، فإنه يعبر عنها بدون حرج أو تحفظ، عبر ممارسةِ ما من شأنه أن يكشف عن رغبةٍ فَجَّةٍ في الاستحواذ على ما في أيدي الغير من أقرانه على الأقل، وعبر إبداءِ استجابته وسعادته البالغتين بالمكافآت والحوافز التي يحصل عليها متميزا بها عن الآخرين. فيما تجعل التحفظات بمختلف أشكالها، ومنظومات القيم الأخلاقية، ومؤثرات المجتمع، تلك النزعة إماَّ كامنة أو مختفية تماما، وإماَّ مُعَبَّرٍ عنها برغبة في التَّمَلُّك المحدود، أو التَّمَلُّك واسع النطاق، أو التَّمَلُّك غير المحدود، لدى الإنسان الراشد، مع بقاء النزعة إلى حب التملك عبر المكافأة أكثر بروزا لارتباطها في العادة بكفاءات خاصة يحب المرء إظهارَها لا إخفاءَها، لما فيها من إشباع لنزعة التَّمَيُّز والظهور. تُرى هل معنى ذلك أن الشعورَ العارم بالرغبة في التَّمَلُّكِ هذا، هو نتاج نزوع فطري إليه، خلافا لكل ما قلناه وما قعَّدناه بشأن العلاقة بين الحاجة وبين تَمَلُّك حق الانتفاع؟!
بكل تأكيد فإن المسألة ليست على هذا النحو على الإطلاق. فالنزوع إلى تَمَلُّك حق الانتفاع بما يلبي الحاجات ويشبعها هو ناتج في الأساس عن وجود تلك الحاجات على وجه الحقيقة، ضمن منظومة أحاسيس ومشاعر فطرية غريزية الطابع. وبالتالي فإن النزوع إلى استمرار هذا التَّمَلُّك حتى بعد إشباع هذه الحاجات، لن يكون نزوعا إلى نفس المعنى للتملك ولا لتحقيق نفس الغرض الذي دفعت إليه المشاعر الفطرية الحاجاتية، والمتمثل بالرغبة في إشباع الحاجة.
نستطيع اكتشاف طبيعة هذا النوع الجديد من النزوع عبر ملاحظة أنه غير ذي جدوى في إشباع الحاجات، ولا حتى في تأمين مستقبلها، لأنها مشبعة أصلا به وبدونه حاضرا وربما مستقبلا أيضا، ولأنه نزوع إلى تَمَلُّكِ ما هو أكبر بكثير من متطلبات تلك الحاجات للإشباع. ومع ذلك فالنزوع إليه قائم وعميق. إنه نزوع إلى تَمَلُّك حق الانتفاع بِما يُحَقِّق رغبةً فطرية في السيطرة والنفوذ والتحكم والقيادة. إذ من حقنا أن نتساءل عن القيمة الحقيقية وعن الدلالة الفعلية لأن يحرصَ شخصٌ ماَّ على امتلاكِ ثروةٍ قادرة على تلبية كلِّ حاجاته بأرقى صور التلبية الممكنة والمتاحة وأكثرها رفاهية وكُلْفَة، ويحرص مع ذلك على بقائها ثروة ضخمة وكبيرة بالقدر الذي لا يحس بأنها مُسَّت أو بأنه قد نقص منها ما يمكنه أن يؤثر في حجمها؟!
إن أيَّ ثروة في العالم، عندما تزيد عن حدٍّ معين لا يُعتبر في ذاته كبيرا بالقدر المُتَصَوَّر بالقياس لما نراه في عالم اليوم من ثروات مهولة، تَفْقِدُ قيمتَها على صعيد علاقتها بالحاجة التي تتطلب الإشباع، ويحدث نوع من الانفصال الفعلي بينها وبين تلك الحاجة. لأن الحاجة لا تتطلب ثراءً من النوع الكبير لإشباعها حتى بأرقى صورها ونماذجها ترفا وبذخاً. وإذن فإن الثروة بعد ذلك الحد المتصور تتحول إلى وسيلة من وسائل السيطرة والتحكم والنفوذ والقيادة. لذلك فإن قادة المجتمعات عادة هم أثرياؤها أو من يتحركون بتوجيهات من أولئك الأثرياء. إن الحاجات الاثنتي عشرة للإنسان لو افترضنا أنها ستُشْبَع على أعلى مستوىً ملوكي في العالم، فلا يمكننا تخيل أنها تتطلب ثراء من ذلك الذي يُسَمى فاحشا أو باذخا.
فلو تم السكن في قصر، ولو تم امتلاك عدة شاليهات متناثرة في أنحاء مختلفة من العالم للإقامة فيها أثناء السفر، وإذا استخدمت في التنقل أرقى وسائل النقل بما في ذلك الطائرت الخاصة، ولو تم تناول أرقى أنواع الأطعمة التي يجهزها أكفأ الطهاة في العالم. وإذا تم ارتداء ملابس من أغلى الماركات العالمية، واستخدام عطور مصنعة كماركات خاصة مسجلة باسم مستخدمها، والاستحمام بماء الورد، والإنفاق بترف على النُّزْهات والرحلات السياحية، والتداوي في أرقى وأغلى مستشفيات العالم في حالة المرض، وتشغيل عشرات الحرس والمرافقين الخاصين للحماية والأمن.. إلخ، فإن الانفاق السنوي لمن يعتمد سياسة انفاقية على هذا القدر من المبالغة بأسعار أغلى دولة في العالم، لن تتجاوز عدة ملايين من الدولارات.
ومع ذلك فإننا نعرف جيدا أن هذا المستوى من الحياة المُرَفهَة لا يَحياه حتى معظم أولئك الذين يستطيعون أن يعيشوا فيه، وأن مبلغ عدة ملايين من الإنفاق السنوي هو مبلغ تافه أمام ما نعرفه من إنفاقٍ غير معهود في تاريخ البشرية من قبل فئاتٍ شاءت الأقدار أن تضع بين أيديها ثروات خرافية القِيَم. فالمسألة في الثراء إذن ليست مسألة حاجاتٍ أساسية يجب أن تُشبع بأكثر طرق الإشباع رفاهية، بل إنها تلبية لنزعة إلى السلطة والنفوذ، تُوجه الثروات لتحقيقها بالشكل المناسب على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. وعندما تتجاوز الثروة إمكانات الحاجات وظروف السلطة والنفوذ، فإنها تتحول قطعا إلى وسيلة من وسائل الفساد والانحلال بكل أشكاله المتصورة. فضلا عن تضخيم بعض عناصر الحاجة بشكل غير مسبوق ولا معهود لتتم تغطية نفقاتها بشكل غير عادي.
إن مهمة الأديان والأخلاق عموما هي تخليص الفئات ذات النزعة السلطوية المدمرة من البشر من نزعتهم تلك، وتحويلها إلى نزعة بَناَّءَة. أو تخليص المجتمعات الإنسانية من أمثال أولئك بحرمانهم من مواقع السلطة والنفوذ، ومن تَكَدُّس الثروات في أيديهم. وبالتالي، فليس كل ما كان فطريا تجب مداراته أو يجب التجاوب معه وتقنين الواقع بما لا يقف في طريقه. ولسنا بحاجة لأن نثبت عدم فطرية النزوع إلى التملًّك، كي نضع القوانين والقواعد التي تنظمه بشكل قد يبدو أحيانا وكأن فيه اعتداءً على تطلعات الكثير من الطموحين إلى حدودٍ واسعة منه، عندما يكون هذا التنظيم مطلبا أخلاقيا وعادلا.
لم يكن أعداءُ الملكية الخاصة في حاجة إلى ذلك القدر من تلجيم الفطرة والخروج على المنطق بادعاء عدم فطرية ما هو فطري، كي يثبتوا صحة وجهة نظرهم في ضرورة مناجزة الملكية الخاصة العداء. ولا يُعْطِيِ أنصارَ الملكية الخاصة مشروعيةً لفلسفتهم القائمةِ على إطلاق العنان لها، مجردُ إثبات أنها فطرية وأن النزوع إليها نزوع طبيعي. فما أكثر الرجال الذين ينزعون إلى رغبةٍ عارمة في امتلاك عشرات بل ومئاتِ النساء والاستمتاع بهن بغير ضابط؟ ومع ذلك، فهل يوجد مجتمع على وجه الأرض تجاوب مع هذه النزعة الفطرية لملايين الرجال لمجرد أنها فطرية؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.