انتهت مباريات كأس العالم، ولا أنكر أنني تنفست الصعداء
فأنا لم أتابع ولم أشاهد أية مباراة، ولا أهتم أصلا بهذه الرياضة
ولا أخفي غيظي من هذا الاهتمام المبالغ فيه رسميا وشعبيا بها.
ولقد خرجت الفرق العربية المشاركة في المونديال مبكرا، أي أن الأمر لا يعنينا، أو هكذا يفترض بالنسبة لنا معشر العرب، على اعتبار أننا سلمنا بمسألة البحث العربي الجمعي عن أي إنجاز يباهون به الأمم والشعوب.
وليس من حقي تنصيب نفسي وصيّا على أذواق الناس واهتماماتهم، ومساحات تفاعلهم، أو طريقة تعاطيهم مع الأشياء، وإذا فعلت فلن يجاوز صوتي صوت مشجع واحد على الأغلب. وللأمر تفسيرات مختلفة، وأنا أضع في الاعتبار وآخذ بالحسبان، أن الاهتمام العربي الواسع، والزائد عن الحدّ، على الأقل كما أراه، ليس حالة عربية خالصة، فثمة اهتمام بالمونديال خاصة، وسائر مباريات كرة القدم عامة لدى شعوب وأمم الشرق والغرب في هذا الكوكب، على اختلاف أديانهم وأجناسهم ومستوياتهم.
ولكن تفسير الظاهرة عربيا له أبعاد أخرى مختلفة متداخلة حقيقية أو متوهمة، ولا يمكن تناول جميع التحليلات والتفسيرات، فهي أكبر وأوسع وأعقد مما يمكن شرحه وسبر أغواره في هذه العجالة؛ لأنها أحيانا تتعلق بالفرد نفسه، فمثلا أخبرني أحدهم أنه لم يسبق له الاهتمام بالمباريات والمونديال حتى جاوز عمره الأربعين ببضع سنين، ولكن من كثرة اهتمام وشغف أولاده وأصدقائهم بها، انخرط في الموضوع واشترى اشتراكا لقناة رياضية للمتابعة، وصار في مجالسه الخاصة يتحدث عن الموضوع!
العقل العربي الباطن يرى أن هامش الحرية المتاح للتفاعل مع مباريات كرة القدم وتشجيع فريق ومخاصمة آخر، واسع ويضمن له ممارسة (سياسية) آمنة، لن تجلب له صداعا أو متاعب
ومما لا شك فيه أن اهتمام عامة الناس بمباريات كرة القدم، يفوق بأضعاف مضاعفة اهتمامهم بقضايا عامة سياسية أو فكرية، أو بمسائل علمية أو طبية؛ فالمسألة العلمية لها تفصيلات لا تخلو من تعقيدات طويلة، لن يدركها أو يستوعبها إلا أهل الاختصاص، وقلة قليلة من أصحاب الاهتمام، والناس عادة في تعاطيهم مع المسائل العلمية يهتمون بالنتائج أكثر من تفصيلات يرونها صعبة أو مملة، وهي فعلا في بعض الجوانب كذلك، فلن يتابع أغلب الناس تفصيلات ومراحل أبحاث تتعلق بأمراض الدم والقلب والسرطان، فالنتيجة هي المهمة لأن التفصيلات البحثية صعبة على الفهم، بعكس تفصيلات مباراة كرة قدم.
أما السياسة، وهي مركزية ومحورية في تفسير وتحليل أي ظاهرة عربية، مهما كان حجمها، فإن العقل العربي الباطن يرى أن هامش الحرية المتاح للتفاعل مع مباريات كرة القدم وتشجيع فريق ومخاصمة آخر، واسع ويضمن له ممارسة (سياسية) آمنة، لن تجلب له صداعا أو متاعب، فالدولة العربية منذ عقود احتكرت العمل والفعل السياسي، وحصرته في نخبة أو طبقة، وما على الأفراد إلا التسليم والخضوع، أما كرة القدم وتشجيعها فتضمن للفرد حالة يجد فيها ذاته حرّا في رأيه و تخرجه من التملق الاضطراري وتبعد عنقه عن سيف الترهيب المسلط. هذا مع نفور عامة الناس من السياسة والحديث عنها لأنهم يرون أن الاهتمام بالسياسة ولو من جهة المتابعة فقط، أمر باعث على إحباط لم تعد قلوبهم تقوى عليه، بفعل الخيبات والهزائم واستقواء الأعداء عليهم وعلى مقدرات بلدانهم.
وقد يكون هناك اهتمام مزدوج عند شريحة من الناس بالشأن العام والشأن الكروي؛ فقد رأينا من يعرفون في مصر بـ(الألتراس) يشاركون بفاعلية في ثورة يناير، لدرجة وصفهم بأنهم من حماتها وقد دفعوا ثمنا باهظا من دمهم في غير مكان خاصة في مذبحة بورسعيد… ولكن لا يغيب عن البال أن الألتراس روابط ومجموعات لتشجيع فرق محلية مصرية لهم ما يشبه التنظيم على بساطته، وتجمع فيزيائي قابل للتحوّل إلى حالة كالتي صاروا عليها في الثورة، وليسوا أفرادا مبعثرين يتابعون المباريات عبر الإنترنت أو محطات التلفزة، ويبثون تعليقاتهم عبر مواقع التواصل.
مباريات كرة القدم في أكثر من زمان ومكان عربي صارت مرتعا للنعرات والعصبيات الذميمة، مثلما رأينا في مباراة مصر والجزائر في 2009 على سبيل المثال
مواقع التواصل
الظاهرة متشابكة ومعقدة، ومن يرفعون الصوت بأنه من باب أولى متابعة جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وإظهار تلك الحميمية الطاغية لقضايا الأمة، مثلما ظهرت في متابعة المباريات، وصرف الوقت والجهد العقلي فيما هو مفيد، أو يزيد رصيد المرء الثقافي والمعرفي، ومن لأسباب يعرفها أو لا يعرفها يرى التعلق بالمونديال وتفصيلاته أمرا يجب أن يتجنبه العرب عموما لوضعهم الصعب المحتاج للطاقة المهدورة لتحسينه، أن يتذكروا مسألة مهمة، وهي أنه في خير الأزمنة، وفي حضرة رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم- ترك الناس عدا عصبة(12 رجلا وامرأة) خطبة الجمعة لقدوم بضاعة (زيت) من الشام ومعها طبل، وتركوا خير خطيب وهو رسول الله قائما على المنبر، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة الجمعة:-
(وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) هذا في حضرة إمام المرسلين، وفي مسجده الشريف… فيا أيها الغاضب مهلا، فلسنا بعد 14 قرنا بحرارة إيمان أولئك القوم، وليس بين أظهرنا محمد بن عبد الله، فلا تبتئس ولا تيأس لما تراه من تفاعل مع مسألة هناك مسائل أحق بالتفاعل معها، فقد تُرك محمد عليه الصلاة والسلام قائما فمن أنت؟!
بقي أن أشير إلى أن مباريات كرة القدم في أكثر من زمان ومكان عربي صارت مرتعا للنعرات والعصبيات الذميمة، مثلما رأينا في مباراة مصر والجزائر في 2009 على سبيل المثال، ولا يقتصر الأمر على ما يعرف بـ(العنف الرياضي) بل يضاف له تسميم الفضاء الإعلامي بالفحش والبذاءة بسبب مباراة، بحيث صارت كرة القدم عامل فرقة جديد، وكأننا نجتر داحس والغبراء وقد أكرمنا الله بالإسلام وأنزل القرآن، وكأن هذا الخلاف والشقاق هو ما ينقص العرب… وفي ذات الوقت لو تمعنا في هذه الخلافات لوجدنا أنها تريح الدولة العربية من الأسئلة الجادة، وتتيح لها فرصة البقاء فترة أطول حاملة أدوات الاستبداد مفرّخة الجهل والفقر والذل… صحيح أن هذه النعرات الجاهلية لا تظهر عربيا في موسم المونديال، ولكن هي ضمن ظاهرة التعلق وطريقة التفاعل العربي الملموس مع مباريات كرة القدم.