www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

خبير مكتبات .. في العاشرة من عمره/بقلم: شامل سفر

0

عندما اتفقتُ مع دار كبرى للنشر ، على إجراء دورة متعمقة ذات مستوى عالٍ جداً

في مجال بيع الكتاب وتسويقه ؛ يحضُرها (خبراء) في المجال المذكور …

لم يخطر لي على بال أن أحد المتميزين منهم سيكون بدراً .. كانوا كلهم أقماراً في مجرة مهنتهم المترامية الأطراف .. لكنه كان بينهم بدراً منيراً .. بدراً زاد قلبي اطمئناناً إلى أن الخير في هذه الأمة لن ينتهي … والمفاجأة أنه كان فتياً جداً .. كان في العاشرة من عمره.
وصدقوا ـ أو لا تصدقوا ـ أن من بين الذين حضروا تلك الدورة .. والده واثنين من أعمامه ، بالإضافة إلى المدير التنفيذي للدار المذكورة ومدير التوزيع فيها ، فضلاً عن ثلة من أكابر المشتغلين على ( هموم ) الكتاب؛ على مستوى العالم العربي … وكل واحدٍ منهم حجةٌ في مجاله ، وقادرٌ على تعليم غيره مهنة المكتبيين من ألفبائها إلى أعلى مستويات الخبرة … لكني ـ أنا شخصياً ـ تعلمتُ من ذلك البدر المنير .. نعم .. تعلمتُ منه الكثير.
أعترف لكم بسر … في اليوم الذي جعلتُ فيه الفتى يتواجد في الدورة التدريبية .. وكنتُ قد حضّرت له (وللموجودين) مفاجأة من العيار الثقيل .. اضطربتُ قليلاً .. حسبتُ كلماتي بدقة .. فأذهان الحاضرين معي على الخط ، لأننا أبناء مهنة واحدة ، كما أني تشرفتُ بزمالة الغالبية منهم ، على الرغم من فارق السن والأقدمية … وأما الفتى المنير .. فذهنه ما يزال غضاً طرياً ؛ يلتقط كل حرفٍ بذكاءٍ بالغ … وخشيتُ أن أستطرد استطراداً لا داعي له ، أو ألقي نكتةً من نكاتي المشهورة عني أثناء قيامي بالتدريب .. أو أي شيء آخر خارج السياق .. فيلتقطه الفتى العبقري ثم يتغلغل في أعماق وعيه .. أو ربما يسألني عنه …. وصدقوني أني ـ يومها ـ ضبطتُ لساني أكثر من أي يومٍ آخر .. وتبادلنا (أنا والبدر) مراقبة بعضنا البعض .. هو يتابعني كلمةً فكلمة .. وأنا أرقب ردات فعله وتحركات عضلات وجهه السموح .. وجهه الذي لم أفلح في قراءة الكثير منه .. كان قد أخذ من محسن جينات الوجه المتزن .. ومن سعيد ابتسامته الذكية .. ومن أحمد ثلاثة أرباع جديته ، وزاد عليها قليلاً (أتحدث هنا عن أبيه وأعمامه) … ومن جده لأمه محبةَ القلوبِ المتعبة التي تحتاج إلى علاج.
وأما المفاجأة التي حضّرتُها في ذلك اليوم .. فهي أني اتفقتُ مع صديقٍ حبيب إلى قلبي ، أن يشرفني بإلقاء محاضرة فرعية … وهذا من عاداتي في التدريب ؛ أن أطعّم السياق المعلوماتي بحضور شخصٍ (غيري) من المختصين الخبراء ؛ يحاضر بدلاً عني لمرة واحدة ، وأترك أنا مكاني كمدرب لأجلس بين المتدربين … وصديقي الذي أحدثكم عنه ، خبير تسويق من الطراز الرفيع ، وكان مديراً عاماً للتسويق في شركة عالمية عابرة للقارت (لكن منتجاتها لا علاقة لها بالكتب) … لم أكشف للحاضرين عن مهنته الحقيقية فوراً ، وتركتُ ذلك لآخر الجلسة .. قدمته على أنه صديقي .. وأنه من العاملين في مهنة التسويق ….. ألقى الرجل محاضرته .. ثم طلبتُ من الحاضرين أن يقنعه كل واحدٍ منه بشراء كتاب من الكتب التي كانت أمامنا على طاولة النماذج (شراء افتراضي طبعاً) …. نوع من التدريب التفاعلي يتحدث فيه المتدربُ أحياناً ، أكثر مما أتكلم أنا، ومواقف مقننة (Standardized Situations) يتم من خلالها لعب أدوار البائع والمشتري وأنا أراقب وأحلل وأرشد … ومن بين الذين (باعوه) كتاباً …. وأقنعوه بشرائه ثم بقراءته .. أي أن من بين الذين أقنعوا (خبيراً عالمياً) في التسويق بشراء كتاب .. فتى صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره .. شاب اسمه: بدر.
قرأ بدر فلم يلحن .. ثم شرح فأوضح وأبان .. وبعد ذلك رغّب وشوّق .. وحرّض الرغبة في القراءة دون أن ينسى التلميح إلى (الحاجة) إليها .. حلّقت طبقةُ صوته الواضحة الجهورية في أجواء القاعة فأسكتت الحاضرين ، وأسكتتني أنا أيضاً … سألتُه عن مكان أحد الإصدارت ، فتبين أنه يحفظ أماكن الكتب على الرفوف ، مع أن أعدادها بعشرات الألوف … وأما صديقي .. الذي تفاعل مع أداء الفتى بأبوية حانية .. فقد ظهرت على محيّاه علائمُ الإعجاب واضحةً جليّة.
بدر الدين .. يا صديقي الصغير … أنت كبيرٌ يا حبيبي ……. وأعلمُ أنك تقرأ كثيراً .. لكن خذها مني ؛ نصيحةً من ثلاثة بنود … الأولى: اقرأ … والثانية: أقرئ غيرك .. وأما الثالثة: فانشر حبك للقراءة بين الناس؛ علّمهم الحبَّ .. فنحن بحاجةٍ إلى الحب يا بدر .. نحن (جميعاً) بحاجةٍ إلى الحب.
عمك المشتاق إليك .. شامل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.