أي غيور على مصلحة العرب والمسلمين يحب ان يرى بلادهم مستقرة على الدوام، ويعمها السلام.
ومن بين هذه البلدان تركيا، التي تتطلع وتتلهف حكومتها الحالية الى بلوغ عام 2023 وهي في أحسن حال
إذ سيشهد ذلك العام الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان، التي أُرغم الاتراك على توقيعها، عام 1923، بشروط وقيود، فرضتها عليهم القوى الاوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، لمدة 100 عام، تنتهي في 2023. وترى الحكومة التركية أن البلاد ستشهد انطلاقة اقتصادية عملاقة بمجرد رفع قيود معاهدة لوزان، وستنطلق نحو آفاق جديدة، وهذا حلم يراود حكامها الحاليين، بأن يجعلوها دولة كبرى اقتصاديا. وهم سائرون في هذا الاتجاه، بمعرفة عدوهم وصديقهم.
كانت محاولة الانقلاب الفاشلة ستقضي على هذه الاحلام، وتعود بالبلاد الى الوراء. وبما أن الحكومة تعرف سلفا من الدول التي لا تريد لتركيا ان تسير في طريق التقدم، فانها بالتالي تعرف من يحاول أن يضع العراقيل أمامها. ولما وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة، شعر الاتراك بالخطر الشديد، بأن بلادهم وأحلامهم أصبحت في مهب الريح. ومن هنا توجهوا نحو روسيا، في حركة وصفها مراقبون بأنها تعكس “عبقرية” أردوغان السياسية. هذا التوجه التركي الجديد تجاه الشرق، بدلا من الغرب، يأخذ شكل الاستدارة بمقدار 360 درجة، وهو تغيير جذري في الدور “الوظيفي” المرسوم لتركيا خلال المائة عام الماضية، وجاء كرد فعل على الموقف الغربي عموما من طموحات تركيا، لما بعد عام 2023. وقد عجل به الموقف الغربي من محاولة الانقلاب، الأمر الذي أغضب أنقرة وأفقدها هامش المناورة، على الصعيد الدولي.
معروفة علاقات تركيا المتينة مع الغرب، ومعروف انها عضو في حلف شمال الاطلسي، ومعروف انها تشكل خط الدفاع الأول عن اوروبا وعن الشرق الاوسط وعن المياه الدافئة، في وجه الأحلام التوسعية للاتحاد السوفياتي من قبل، ولروسيا من بعد. ومعروف أيضا أن وصفها “الوظيفي”، من ناحية استراتيجية، لا يتعدى الحراسة، وهذا ما جاءت به معاهدة لوزان. ودور الحراسة مارسته تركيا، بكفاءة، اثناء أزمة تدفق اللاجئين على اوروبا، وقبضت ثمن ذلك. وتاريخيا، معروف أيضا أين نصب الأمريكيون صواريخهم النووية، خلال أزمة الصواريخ الكوبية مع الاتحاد السوفياتي، اوائل الستينات.
“الحراسة” هي الدور المحوري والمهم الذي قامت به تركيا، خلال تاريخها الحديث، فهل ستستمر في أداء هذا الدور لصالح الغرب؟ هذا التساؤل مطروح على بساط البحث حاليا في دوائر القرار في انقرة. فهي تخدم مصالح الغرب، والغرب، كما تشعر انقرة، لا يريدها عن تخرج عن وصفها “الوظيفي” المرسوم لها، ولا يريدها ان تفكر بغير هذا الدور المحدد، ولا تحلم بأي شيء آخر، مثل التقدم العلمي والنمو اقتصادي، أو غيره. وذلك بدا واضحا في ردة فعل دول الغرب على محاولة الانقلاب الفاشلة، التي كان مقصود منها إعادة تركيا لمهمتها الأصلية في الحراسة فقط.
ولأن حكام تركيا الحاليين يريدون أن تلعب بلادهم دورا غير ذلك المرسوم لها، فقد رسموا خطا جديدا ساروا عليه، وأخذوا يتفلتون من القيود المفروضة عليها، قبل الاوان، وقبل حلول الأجل المتفق عليه. فمن هنا جاء الصدام بين تركيا والغرب عموما. ولذلك أخذت أنقرة تفكر في التخلي عن دورها كـ “خط دفاع أول”، نكاية بالغرب، في محاولة لتحقيق ذاتها وأحلامها بالتقدم، واستقلالية قرارها، ولعب الدور الذي تريده في العالم. ومن هنا سارعت أنقرة إلى التوجه نحو الشرق فور المحاولة الانقلابية الفاشلة. واتضح هذا من خلال التفاهمات التركية الروسية مؤخرا، والانفتاح الروسي الفوري نحو تركيا. مما أثار القلق في الغرب، فجاء جو بايدن ليعتذر علانية لاردوغان، في محاولة يائسة لثني تركيا عن التوجه نحو روسيا.
رد فعل الغرب والعبرة التاريخية
طبعا، أن يخسر الغرب حليفا مثل تركيا يُعد كارثة. فهي “حجر الزاوية” في سياستهم الدفاعية، في هذه المنطقة، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. فكيف سيكون رد فعل الغرب أمام تحول جذري كهذا؟ هنا تدخل العبرة التاريخية. فمن المعروف أن الحروب العالمية قامت نتيجة التنافس بين الدول الاستعمارية والدول الطامحة للاستعمار. ومعروف تاريخيا أيضا أن الدول الغربية تطلعت، وسعت طويلا، الى انهيار الدولة العثمانية من أجل أن ترث أملاكها، فيما عُرف بـ “المسألة الشرقية”. ولما حاولت المانيا القيصرية، بعد توحيدها على يد بسمارك، ان تتوسع في الشرق، بتحالفها مع السلطان عبد الحميد، جاء قيصرها ويليام الثاني، عام 1898، زائرا اسطنبول والقدس ودمشق. واعلن من القدس رفضه لمشروع الدولة اليهودية في فلسطين، واعلن من دمشق حبه لـ 300 مليون مسلم في العالم، وزار قبر صلاح الدين ومدحه، ووضع اكليللا من الذهب عليه، واعلن معارضته للحروب الصليبية، وقال “هم دخلوها بالحرب ونحن دخلناها بالصداقة والسلم”. فجُن جنون الدول الغربية الاخرى، واعتبروا اقوال القيصر تدخلا في شئونهم الداخلية، كون معظم مسلمي العالم رعايا في مستعمراتهم! وبدأ الغرب يعمل. وكانت النتيجة أنه خلال 10 سنوات تم خلع السلطان عبد الحميد، في انقلاب 1908، ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى، بعد سنوات، نظرا لإشتداد التنافس بين الدول المستعمرة وتلك الطامحة للاستعمار، وتحالفت الدولة العثمانية مع المانيا، وهُزمتا معا.
هذا من الماضي. أما من الحاضر: فما هو العرض الذي قدمه اردوغان إلى بوتين؟ يمكن تخيل انه قال له: “الوظيفة المرسومة لتركيا أن تكون ضد روسيا، ونحن الان مستعدون ان نصبح معكم”. وهنا سال لعاب القيصر الروسي الصغير القابع في الكرملين، تماما مثلما سال لعاب القيصر الالماني الشاب، ويليام الثاني، من العرض الذي قدمه له السطان عبد الحميد، قبل حوالي 120عاما.
بالامس، غذت لعبة السلطان عبد الحميد، مع القيصر الالماني، الطموحات الاستعمارية لالمانيا، فاندفع قيصرها نحو اسطنبول وفُتحت له أبواب “الشرق”، فقام بزيارته التاريخية، التي كان لها ما بعدها، إذ خسر السلطان عرشه، وخسرت بلاده الحرب، وانهارت.
أما اليوم، فقد غذت لعبة أردوغان، مع بوتين، طموحات روسيا في بسط نفوذها على الشرق الاوسط، والوصول الى المياه الدافئة. وموسكو تدرك ما هي مقبلة عليه، فها هو وزير خارجيتها لافروف يعلن بنبرة تحدى “انه غير قلق من نشوب حرب باردة جديدة مع الغرب”. ما يعني ان روسيا “غير آبهة” او “غير مهتمة” إن عادت الحرب الباردة. اندفاع كإندفاع المانيا القيصرية!
قرار اردوغان اليوم بالتوجه نحو روسيا والتحالف معها، والتخلي عن الغرب، إن تم ذلك، يشبه قرار السلطان عبد الحميد بالتحالف مع المانيا القيصرية. فهل يشهد العالم نشوب حرب عالمية ثالثة كبرى نتيجة خسارة الغرب لتركيا؟ خاصة أن سوريا تشهد حاليا حربا عالمية مصغرة بالوكالة، تشبه الحرب الأهلية الاسبانية، التي سبقت بقليل الحرب العالمية الثانية؟ تساؤل تجيب عليه الأيام والسنين القادمة.
داود عمر داود / اعلامي