من محطات مؤلمة في تاريخ الكتاب عبر العصور
الجزء الخامس
——————– ————ـ
– -3-الكتاب ضحية الإرهاب الفكري.
ألغى البعضُ كُتَبَ البعض الآخر، غيرةً وحسداً،
وتعصباً وجهلاً، وما فعلوا ذلك إلا ليُلغوا فِكْرَ مَن يحسدونَه،
أو يتعصبون ضده، ومن أمثلة ذلك، ما حدث مع بعض كتب أبي العلاء المعري…
كتاب الفصول والغايات للمعري = يمحى تعصباً وجهلاً
شخصية المعري شخصية إشكالية في تاريخنا الأدبي، مثله مثل ابن حزم الأندلسي، وابن رشد الحفيد، والسهروردي وأمثالهم…
فمجرد ذكر اسمه أمام البعض، يرتعدون لذلك، وكأن أفعى قد لسعتهم…
لنذكر قصة مكتبة كان فيها أحدُ مؤلفاته المهمة التي شغلت العرب، كما شغلت كبار المستشرقين أمثال أوجبت فيشر… جاء في معجم الأدباء وغيره:
أن رباط المأمونية يقع في إحدى محلات بغداد القديمة، وكان فيه مكتبة، يقول ياقوت الحموي في ترجمته لابن الدهان النحوي الضرير الواسطي المعروف بالوجيه، توفي سنة 612هـ/1215م. أنه حضر مرة بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذٍ أبو المعالي أحمد بن هبة الله…. فجرى حديث المعري… فذمه الخازن، وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيفه فغسلته، فقال له ابن الدهان: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كتاب (نقض القرآن)، يُريد به كتاب الفصول والغايات، الذي طُبع بعضه في القاهرة، فقال له: أخطأت في غسله، فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه، واستشاط ابن هبة الله، وقال له: مثلك ينهى عن مثل هذا، قال: نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه، فإن كان مثله أو خيراً منه، وحاشى لله أن يكون ذلك، فلا يجب أن يفرط في مثله، وإن كان دونه، وذلك ما لا شك فيه، فتركه معجزة للقرآن، فلا يجب التفريط فيه، فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه الخازن ابن هبة الله على الحق وسكت، ولكن الكتاب كان قد ذهب بالغسيل، فما أشطرَنا بإلغاء الآخرين!
خامساً = التعصب المسيحي يحرق مكتبات كثيرة…
1 ـ إحراق المسيحيين اللوثريين مكتبات غيرهم وبالعكس = تعصباً وإلغاء للآخر
ظهر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، على يد (مارتن لوثر) (1483 ـ 1546م) المولود بإيسلبن بمنطقة ساكسونيا بألمانيا، وعلى أتباعه، فانشقت الكنيسة على نفسها، وظهرت الحركات البروتستانتية التي دعت إلى إصلاح الكنيسة، واعتمدت على نشر الكلمة المطبوعة بين الجماهير، مما أدى إلى ازدهار اللغات الوطنية، لأن هذه الحركة دعت إلى استعمال اللغة الوطنية في العبادة بدلاً من اللاتينية.
ونتج عن هذه الحركة الإصلاحية حروب كثيرة جداً، مما أدى إلى إحراق الكتب وتدمير الأديرة والمكتبات، وكان مسرحها في الغالب ألمانيا…
استغل لوثر وأنصاره الكلمة المطبوعة باللغة الوطنية اعتباراً من سنة 1517م فما بعد، حيث انهالت سيول المطبوعات على ألمانيا والبلاد المجاورة، ووجدت بها الحركة الدينية الجديدة سلاحاً من أمضى أسلحتها، مما أدى إلى ازدهارها، خاصة أنهم اعتمدوا على الطباعة الشعبية.
ترجم لوثر العهد الجديد إلى الألمانية، وطبع منها ستة 1522 خمسة آلاف نسخة، وخلال ثلاثة أشهر نفدت الطبعة الأولى، ثم أعيد طبع هذه الترجمة بكميات هائلة وصلت إلى مئة ألف نسخة.
نتج عن هذه الحروب بين اللوثريين والكاثوليك تدمير مكتبات كثيرة، فكل فريق يحرق ويبيد كتب الفريق الآخر، وتقول بعض الروايات أنه أحرقت مكتبات أكثر من ثلاثين ألف دير.
ولكن وإن أحرق اللوثريون كتب الكاثوليك، إلا أنهم لم يغفلوا عن قيمة مخطوطات العصر الوسيط عقب فورة نضالها الأول، فأصدرت الكنيسة البروتستانتية سنة 1577 قراراً ينص على أن كتب الكنيسة القديمة، مثل كتب القداس والمزامير وكتب التوراة المدونة على الورق أو الرق، لا ينبغي التخلص منها، أو استعمالها للتجليد.
طبعاً هذا بعد أن أحرقوا الآلاف الكثيرة مما يريدون الحفاظ عليه، فقد كانت المكتبات الكاثوليكية مليئة بالمخطوطات القديمة.
الكاثوليك الفرنسيين يحرقون كتب مخالفيهم في ساحات باريس
اشتهر في القرون الوسطى في فرنسا تعنت الكاثوليكيين إزاء غيرهم، خاصة اليهود والبروتستانت، خاصة بعد ظهور دعوة مارتن لوثر وانتشارها في معظم البلاد، وكنوع من إلغاء الآخر، أصدر الكاثوليكيون الفرنسيون حكما بإحراق كتبهم وكتب اليهود معاً، ومن هذه الحرائق، ما شاهدته ساحات باريس، حيث حشدوا جميع النسخ المخطوطة للتلمود وغير التلمود ونقلوها على أربع وعشرين عجلة إلى ساحات مدينة باريس، وهناك أضرموا فيها النيران على مرأى من سكان العاصمة فالتهمتها بأجمعها.
ويذكر التاريخ أن القرن السادس عشر شهد كثيراً من حفلات إعدام كتب البروتستانت في فرنسا.
إحراق مكتبة أوكسفورد بإنكلترا….
ومن جملة الحرائق التي أدت إلى خسارة فادحة من الكتب المطبوعة والمخطوطة، والتي سطرها التاريخ بأسف شديد.
الحريق الذي حصل بإنكلترا في القرن السادس عشر، بعد الانقلاب الديني انقلاب (مارتن لوثر)، فإن مكتبات كثيرة أحرقت في ذلك العصر، أهمها مكتبة أوكسفورد الثمينة بمخطوطاتها النادرة، فإن كرمويل (1599 ـ 1658) أبادها في أواخر حياته.
المسيحون يحرقون كتب بعضهم
في الديانة المسيحية طوائف مختلفة، مثل باقي الأديان، وتبارت هذه الطوائف في إلغاء أحدها للآخر…. وكالعادة إن أول ما ينتقم منه هو الكتاب، أياً كان نوعه.
النساطرة واليعاقبة يحرقون كتب بعضهم
فقد حملت الغيرة الدينية فئة من النساطرة واليعاقبة على أن يحرق الفريق منهم كتب الفريق الآخر، لأنه يخالفه في المعتقد أو المذهب أو الرأي، فكل منهم يريد إلغاء الآخر.
(كذلك فعل حفدتهم الكلدان والسريان الكاثوليك في العصور المتأخرة، فإنهم بعد اتحادهم مع كنيسة روما، ألقوا كتبهم القديمة للنار في العراق وسورية وما بين النهرين والملبار وغيرها… لاحتوائها تعاليم مخالفة لتعاليم الكثلكة).
إحراق نسخ كتاب /ذياطسرون/ في الرها وقورش
كان (ربولا ت 435م) علاّمة شهيراً، لكن ساقته الحماسة الدينية، إلى أن يجمع نسخ كتاب العهد الجديد المعروف بعنوان (ذيا طسرون) وأحرقها بأسرها، كذلك نهج نهجه (ثيودريط) أسقف قورش العلامة الكبير، فأتلف من هذا الكتاب مئتي نسخة ونيفاً.
حريق المكتبة الملكية في القسطنطينية تعصباً
ـ في عام (477م) التهمت النار خزانة الكتب التي شادها قسطنس الثاني (531 ـ 361م) ابن قسطنطين الكبير في عاصمة مملكته وكانت تشتمل على (120 ألف مجلد) من المخطوطات الثمينة، فاحترقت كلها، ثم أنشئ على أنقاضها مكتبة ملكية ضمّت (33500) مخطوطاً.
ولما تولى لاون الثالث الأيسوري (717 ـ 741م) عرش القسطنطينية، وكان عدواً للاقليرس، ومُضطِهداً للأيقونات، وجد في عمّال المكتبة خصماً شديداً لدوداً، فانتقاماً منهم أحرق المكتبة عام (726م)، بما فيها، ومَن فيها من الخُزَّان والنُّسَاخ والخُدَّام.
الأريوسيون والنساطرة يحرقون كتب خصومهم
روى عبد يشوع الصوباوي قصيدته التي أحصى فيها مشاهير الكتبة ومؤلفاتهم، أن الأريوسيين أحرقوا ستين كتاباً من تصانيف ديودروس الطرسوسي. وفعل مثل ذلك خصوم نسطور، فأتلفوا مؤلفاته، وجميع الكتب التي تحوي شيئاً من تعاليمه وأحرق برصوما النسطوري سنة 496م طائفة كبيرة من مخطوطات دير الشيخ متى في جبل القاف قرب الموصل بالعراق، لأنها كانت تحتوي على تعاليم مخالفة للنساطرة.
إحراق مخطوطات السريان والأرمن في القسطنطينية
في عام (1061م)، أمر قسطنطين العاشر دوق قيصر الروم (1059 ـ 1067م) أن ينفى من عاصمته كل مَن فيها من السريان والأرمن، أو يخضعوا لتعليم المجمع الخلقيدوني المسكوني، فرفض هؤلاء أمره، وبقوا مصّرين على البقاء في معتقدهم، فأمر الملك بإحضار مخطوطات السريان والأرمن وأنية بيعتهم، وأحرقها بأجمعها في وقت واحد.
ولم يكتف بهذا… إنما أحرق البيعتين التابعتين لهما، ورحَّل عن العاصمة قسوس السريان والأرمن، وعلى إثر ذلك نزع أغلب أبناء الملتين إلى عقيدة القيصر المشار إليه.
مطران غوا البرتغالي يحرق كتب النساطرة الملباريين
في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، اشتهر (الكسيس منش) رئيس غوا البرتغالي، وغوا هي جزيرة في الهند استعمرها البرتغاليون، وفي سنة (1599م)، عقد المطران الكسيس مجمعاً في ديامبر، حضره (813) شخصاً من كهنة النساطرة وأعيانهم الذين انضموا في ذلك العهد إلى الكنيسة الكاثوليكية، وأحدث ذلك المجمع قوانين جديدة لنساطرة الملبار المتكثلكين، أدخلت في مؤلفاتهم الدينية القديمة، ولم يكتف المطران الكسيس بذلك… بل أمر أن تحرق جميع الكتب الطقسية التي كان يستعملها النساطرة في تلك الأمصار، ثم قرر في المواد (14 ـ 15 ـ 16) من أحكام مجمع ديامبر، ما ملخصه…. فلنحرق كتب فروض المجيء والميلاد التي مزّقناها قطعاً قطعاً، ومن حوى مثل هذه الكتب، ولم يرسلها إلى المطران خلال شهرين منذ اطّلاعه على هذا الحكم… فإنه يسقط في الحرم.
يتبع ———————————-
لمتابعة بقية الحلقات الرجاء دخول الرابط:
https://omferas.com/vb/t54797/#post214497