www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

معرفة العدو نصف الطريق إلى الانتصار عليه/1/أسامة عكنان

0

بقدر ما يُعتبر “الجيتو” واحدة من أهم الظواهر التي رافقت المسألة اليهودية في سياقاتها الأوربية الحديثة، بقدر ما يُعتبر أحد أهم مكونات النزعة الانعزالية في شخصيةِ اليَهودي.

معرفة العدو نصف الطريق إلى الانتصار عليه

 

 

سلسلة مقالات “مترابطة جدا” في حلقات حول

 

 

“سايكولوجيا الشخصية الإسرائيلية”

 

 

كيف تفكر الصهيونية لتصهينَ اليهود وتُؤَسْرِلَهم؟! وكيف تواجهنا بهم يهودا تصهينوا فتأسرَلوا؟!

 

 

1 من 15

 

 

“الجيتو اليهودي” وأثره في تحديد مُكَوِّنات “الشخصية اليهودية”

 

 

بقدر ما يُعتبر “الجيتو” واحدة من أهم الظواهر التي رافقت المسألة اليهودية في سياقاتها الأوربية الحديثة، بقدر ما يُعتبر أحد أهم مكونات النزعة الانعزالية في شخصيةِ اليَهودي.

 

 

 

ولقد ظلت العزلة الاختيارية من قبل اليهود قائمة إلى أن أصدر البابا “بولس الرابع” (1550 – 1559)، نشرة بابوية في العام (1555)، توصي ولأول مرة بعزل اليهود إجبارياً. أما قبل ذلك، وعلى الرغم من عدم لجوء أحد إلى إجبار اليهود على العزلة، فإن اليهود أنفسهم كانوا يلجأون إليها اختيارياً.

 

 

فقد قال “إسرائيل أبراهامز”:

 

“قبل أن تصبح السُّكْنَى في مكان محدد أو في الجيتو أمراً إجبارياً، كان اليهود أينما وُجِدُوا يجتمعون في أماكن منعزلة في المدن التي كانوا يعيشون فيها”..

 

 

أما الزعيم الصهيوني “ناحوم جولدمان”، رئيس المنظمة الصهيونية السابق، فقد قال في هذا الشأن:

 

“يجب أن نؤكد على أن من الخطأ القول بأن “الجويم” قد أَرْغَموا اليهود على الانفصال عن بقية المجتمع”..

 

 

 

أي وبكلمة أوضح فإنه مع صدور قرار البابا “بولس الرابع” الخاص بإنشاء أحياء اليهود المستقلة “الجيتو”، تحول النظام الاجتماعي الاقتصادي الديني للحياة اليهودية والقائم على العزلة، إلى نظام إجباري.

 

 

وهكذا فمنذ (26) يوليو عام (1555)، اضطر يهود روما إلى نقل محل إقامتهم إلى الحي الجديد على الضفة الشمالية من نهر “التَّيْبِر”، والذي أحيط على الفور بسور يعزله عن المدينة، وبعد فترة قصيرة اتُّبِعَ هذا الأسلوب المُسْتَحدث في سائر المدن الواقعة تحت سلطة البابوية، واعتباراً من عام (1562)، أُطْلِقَ على هذه المؤسسة الجديدة بشكل رسمي اسم حي اليهود في مدينة البندقية “الجيتو”.

 

 

في روسيا القصيرية كان الأمر أكثر عمقاً وشراسة، فقد أصدرت الإمبراطورة “كاترين الثانية”، إمبراطورة روسيا القيصرية، مرسوماً إمبراطورياً عام (1796)، أدى إلى تحديد إقامة اليهود. ولما تولى القيصر “نيقولا الأول” حكم روسيا عام (1825)، أوضح منذ البداية أنه يعتبر اليهود شعباً غريباً، يجب أن يَتَكَيَّف بسرعة مع الأكثرية السلافية اليونانية الأرثوذكسية، أو أنه سوف يعاني من النتائج الوخيمة لحالة اللاَّتَكَيُّف.

 

 

وفي عام (1840)، طلب القيصر من وزير الدولة “الكونت. ب. د. كيسيلييف”، عقد لجنة تكون قادرة على إصدار مبادئ جديدة وفريدة من نوعها بالنسبة لحل المشكلة اليهودية.

 

 

ولقد قررت اللجنة في تقريرها أن أساس المشكلة إنما يرجع إلى التعصب الديني اليهودي وإلى الروح الانفصالية لدى اليهود.

 

 

ولقد أوضحت اللجنة في ذلك التقرير أن التلمود هو الذي غَذَّى في اليهود مقولات تُكَرِّسُ في أذهانهم أنهم شعب الله المختار، وتزرع في نفوسهم الرغبة في أن يحكموا بقية العالم، وفي أن يَكْرَهوا الشعوب التي تؤمن بديانات أخرى، ولقد تنبه تقرير اللجنة إلى حقيقة هامة، وهي أن تعاليم التلمود لا تَعتبر وجود اليهود في أي مكان في العالم غير فلسطين سوى إقامة مؤقتة وإجبارية في الأسر إلى أن يأذن الرب.

 

 

إن الرغبة اللاواعية في الإحساس بحياة الأسر هي التي دفعت بالكثير من اليهود الذين كانوا يعيشون خارج الجيتو إلى الانضمام إليه بعد فترة، ولعل من أشهر الأمثلة على تسلل هذه النزعة اللاواعية إلى السلوك الواعي الدافع إلى البحث الفعلي عن أَنْساق العزلة، حالة يهود “براغ” الذين كانوا يعيشون خارج نطاق المنطقة المخصصة لليهود، ثم قرروا في القرن السادس عشر الانضمام لإخوانهم الذين يعيشون داخل المنطقة، لا بل إن هذا التوجه الانعزالي غير الطبيعي، استغرق يهود الجيتو إلى درجة اعترافهم بالجوانب الإيجابية له، وإقامة الصلوات في المعابد كل عام في جيتو “فيرونا” وجيتو “منطونا”، احتفاء بالذكرى السنوية لإنشائهما.

 

 

تؤكد هذه النزعة الانعزالية التلقائية لدى اليهود، أنهم عزلوا أنفسهم حتى في البلدان التي لم تكن تنظر إليهم نظرة كتلك التي تحدث عنها البابا “بولس الرابع” أو قياصرة روسيا.

 

 

ومن تلك البلدان، البلدان الشرقية عامة، والعربية منها خاصة، فقد أخذ شكل تواجد اليهود في “مصر” اسم “حارة اليهود”، وفي اليمن اسم “قاعة اليهود” أو “القاع قاع” أو “المَسْبَتة”، نسبة إلى يوم السبت، وفي المغرب اسم “المَلاَّح”، وفي الجزائر اسم “درب اليهود”.. إلخ.

 

 

ومع أن مناطق الانعزال اليهودي في شرق أوروبا قد اتخذت مُسَمَّيات عديدة..

 

 

مثل “الشَّتْتِل”، وهي كلمة “يديشية” تعني المدينة الصغيرة، التي كانت حياة اليهود فيها تدور حول المعبد والمنزل ثم السوق الذي يلتقي فيه اليهود مع الأغيار..

 

 

ومثل “القاهال”، وهي كلمة عبرية تعني جمهوراً أو جماعة كبيرة من الناس في مكان واحد، وهي الخلية الأساسية لتنظيم حياة اليهود في منطقة إقامتهم..

 

والقاهال يُعَدُّ تجسيداً للحكم الذاتي داخل الدولة، فقد مَثَّلَ اليهودَ أمام السلطات في كل شيء، حتى في مسألة جمع الضرائب منهم نيابة عنها لصالح خزينة الدولة، علاوة على تعيين القضاة والحاخامات.

 

 

إلا أن “الجيتو”، يُعَد أشهر الأشكال الانعزالية اليهودية في العالم، وهو قد عُمِمَ لوصف الحياة اليهودية الانعزالية وسط الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها. وهو عبارة عن حي أو عدد من الشوارع المخصصة لإقامة اليهود. ومن المحتمل أن تكون الكلمة قد استخدمت للمرة الأولى لوصف حي من أحياء البندقية يقع بالقرب من مَسْبَك لصهر المعادن يسمى “جيتو”، كان محاطاً ببوابات وأسوار، وذلك في عام (1516)، بعد أن خُصِّصَ كمكان لإقامة اليهود فيه، وهو يقع في جزيرة منعزلة بين قنوات المدينة، وقد كانت البوابات والجسور المؤدية إلى هذا الحي تطوى خلال الليل.

 

 

ولكن من الضروري أن نشير إلى أن مؤسسة الجيتو التي كانت في جانب منها تعبيراً عن طبيعة الشخصية اليهودية وتَعاَمُلِ الآخرين معها، تحولت مع مرور الزمن بفعل الفرز الطبقي الطبيعي في التجمعات البشرية إلى بُؤَرٍ للظلم والجور تمارسه الطبقات المتنفذة في الجيتو – وهي القلة عادة – في حق الغالبية العظمى التي كانت تعيش حياة بدائية قميئة.

 

 

وقد ظهرت أولى بوادر التمرد على التنظيم “القاهالي” و”الجيتوي” بأكمله، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في “لتوانيا”، حين اشتكى عدد من سكان الجيتو هناك معلنين أنهم يُعَبِّرون في شكواهم عن موقف الأغلبية..

 

 

وقد جاء في الشكوى المقدمة إلى مسئول الإقطاعيات في بلدة “شاول”:

 

“نحن جميعاً سكان شاول من اليهود نعلن بدموع أعيننا أننا لسنا في حاجة إلى حاخام ولا إلى رؤساء، لأنهم يعملون في الابتزاز والمؤامرات ويضطهدوننا تماماً، ونظراً لأنهم يرتبطون فيما بينهم بروابط عائلية، فإنهم ينهبون “بروطاتنا” (اسم عملة) حتى آخرها من أجل أن يزدادوا ثراءً”.

 

 

ولعل شيئاً شبيها بهذا هو ما أشار إليه “يوري إيفانوف”، عندما تحدث عن مرسوم عام (1796) في روسيا قائلاً:

 

“بعد فترة تاريخية قصيرة استطاعت العائلات اليهودية الواسعة الثراء والنفوذ، تخطي أسوار الإقامة في الجيتو، وبناء القصور الفاخرة في موسكو وبطرسبرغ، فيما بقي داخل الأسوار عشرات ثم مئات الألوف من الكادحين اليهود الذين يعانون من الفقر والتعسف”..

 

 

ينطبق على هذه التجمعات اليهودية بالتالي نفس المنطق التاريخي التطوري الذي انطبق على غيرهم من الأوروبيين. بل ربما بأثر أعمق وأشرس، ما سينعكس عليهم عندما تبدأ حركات التحرر الأوروبية بالظهور والانتشار.

 

 

ولكن، ما هو السر في هذا الطابع الانعزالي في موقف الشخصية اليهودية من الحياة مع الآخرين؟!

 

 

في الواقع لا يمكننا فهم هذا الطابع دون إلقاء الضوء على دور الدين بعامة في تكوين هذا النسق من الحياة. فعلى الرغم من أن الدين اليهودي بوصفه دينا سماوي المنبع والأصل، يحتوي من دون شك على الكثير من التعاليم السماوية التي تحض على الخير وتنبذ الشر، إلا أن المحاولات التي تمت على أيدي حاخامات اليهود، بعد أن تم تدوين التراث اليهودي الشفهي “التلمود”، أدخلت إلى هذا الدين مجموعة من الأفكار المحورية، خلقت عند اليهود استعداداً للانعزال عن الأغيار، وعمقت لديهم بعض العقائد الاستعلائية وثيقة الصلة بالانعزال مثل فكرة “الشعب المختار”، و”الشعب المقدس”، و”انتظار المسيح المخلص”، وغيرها من العقائد التي انطوى عليها التلمود الذي يضم بين دفتيه اجتهادات هؤلاء الحاخامات في تفسير الدين اليهودي.

 

 

وربما كان هذا هو ما يفسر لنا وجود كتاب مثل “شولحان عاروخ”، الذي يُعتبر بمثابة دليل للحياة اليهودية بكل تفاصيلها وجزئياتها، والذي يحتوي على نظام صارم للسلوك اليهودي في الحياة اليومية، على كل يهودي متدين أن يلتزم بالمحافظة عليه.

 

 

لقد غدا واضحاً ومؤكداً أن القوانين الدينية اليهودية المختلفة ومجموعة المحظورات التي لاقت استهزاء الآخرين، والتي فرضها حاخامات اليهود بتشدد لا يَسْمح بأي قدر من التجاوز، هي التي عمقت من طابع العزلة اليهودية، خالقة لدى اليهودي بالتالي حالة تمركز، جعلته يعيش بذهنية الانفصال والتميز والتفرد.

 

 

وعندما نحاول توصيف الديانة كما عبرت عن نفسها في موروثات الدين اليهودي وأدبياته، فإننا نجد بوضوح أن اليهودية ما برحت منذ ظهورها وحتى الآن تمثل عبادة قبلية لجماعة خاصة متفردة، قاد تَشَبُّثُها بنزعتها القَبَلِيَّة إلى تَحَجُّر الديانة اليهودية ذاتها..

 

وفي ذلك يقول المؤرخ “أرنولد توينبي”:

 

“إن اليهودية هي أقبح الأمثلة على عبادة الذات الفانية صيتا”.

 

 

وإذا كانت للديانة اليهودية تأثيراتها على هذه النزعة الانعزالية، فإن لهذه النزعة بدورها تأثيراتها على واقع اليهود وعلى سيكولوجيتهم وعلى موقف العالم منهم. فقد قَلَّلَت العزلة الجيتَوِيَّة من اختلاط اليهود بالمسيحيين يوما بعد يوم، وبالتالي فقد زادت الشبهات حولهم وتبلورت المواقف المعادية لهم والمتوجسة منهم في الذهن المسيحي، ما انعكس مجددا على واقع حياتهم ليغدو مريرا بكل المقاييس.

 

 

إن القيود التي كانت مفروضة على التوسع في مساحة الأحياء اليهودية، والاضطرار إلى التوسع الرأسي بدل الأفقي بإضافة طوابق جديدة على المباني، جعل الكثافة السكانية تزداد بشكل مخيف في أحياء اليهود عما سواها، ما أدى إلى انحطاط وتدهور المستوى الاجتماعي للحياة، وإلى تفشي الأمراض وتراكم القاذورات، ما ترك أثراً عميقاً على وجدان اليهود القاطنين في “الجيتو” وعَمَّقَ بالتالي من انفصالهم عن العالم الخارجي، وأدى كل ذلك في نهاية المطاف إلى انعدام الإحساس بالأمن لدى اليهودي عندما يكون خارج أسوار الجيتو التي كان يقف عليها حراس من المسيحيين، يُلْزَم اليهود بدفع أجورهم. وقد كانت هذه الأسوار تُغلق أثناء الليل وفي أيام الأعياد المسيحية الهامة، ما راح يعمق فكرة العزلة التي تخيم على تلك الأحياء عن محيطها المسيحي.

 

 

وهكذا فقد أصبح اليهودي يشعر بوجود عالم غريب وشرير خارج الجيتو، أما داخل الأسوار فقد كان يجد الأمن والطمأنينة والثقة، وكان يعتريه بسبب هذه العزلة إيمان عميق بأنه ينتسب إلى الأمة المقدسة وإلى الشعب المختار.

 

 

لقد عمقت حياة العزلة إحساساً خاصاً لدى اليهودي بأن الجيتو هو درع الأمان للحفاظ على الجماعة اليهودية وعلى طريقتها، إلى أن يحين الوقت الذي يشاء فيه الرب إعادته إلى أرض الميعاد مع حلول الخلاص المسيحي.

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.