السماء صافية، وأشعة الشمس الأرجوانية تطبع على الرمال الصفراء ظلّها،
وصريرٌ خافتٌ يقضمُ حواف الرخام الأبيض، وحروف الكلمات الموشومة على قناطر الشواهد.
الشهيد الأديب غسان كنفاني، 8 تموز 1972..
قبور مسطّحة، تخوض عليها قوافل النمل، تتعرش على جنباتها مشاريع نباتات ضعيفة، ما إن ترفع رؤوسها حتى يقطفها الموت.
بخطا واجفة دخلتُ المكان، صمتٌ حزين يطفو فوق حفيف أشجار الصنوبر الشامخة، رهبةٌ تدسُّ قشعريرةً تحت جلدي.
اتنفّسُ عبق التراب الأحمر، يدخل إلى صدري محمولاً على رفات رعيلٍ من الشهداء آثروا متعة اللقاء في هذا المكان العابق بالأصالة.
زقزق عصفور، وسقطت ثمرة صنوبر أمامي على صفحة الرمال، تناثرت كؤوسها اليابسة قطعاً صغيرة.. أدركتُ أنها أمّ عقيم.. إن ولدت، تلدُ مسخاً لا يلبث أن يتفتت ويموت..هو تموز يا أخي قادني إليك، مثلما يفعل كلّما زحف فوق سبلِ الحياة على دربٍ طوله أحد عشر فرسخاً، يغلق دورة، ويفتح أخرى، دورة تمضي، وأخرى تبدأ، ليست على قدر من الطول، لكنّها على قدر من الامتلاء.
أنت أمامي، تستنطقني، يحتلُّ طيفُكَ مربّع السور الذي يحتضن الرمال والرخام والصنوبر.
افترشتُ الرمل الأصفر، جلس إلى جانبي.
ابتسمَ تلك الابتسامة المحفورة في ذاكرتي، تقفز أمامي كلما أخذني موقف عصيب، تقول لي كما يقول الآن: لا تحزن.!
الوطن الذي طاشَ على صفحته حجر أرعن، مزّق رسمه المحفور في قلوب أمهات ودعن أبناءهن بالزغاريد، وآباء يعصرون الحزن والفجيعة، ويتقبّلون المباركات بفقدان أحبائهم، عبر مسيرة ستين سنة ونيّف، تنحبس إلى حين في هذه اللحظات أمام صفحة وطن أرادوا له أن يتقزّم ويتقزّم وصار على الورق، نقاطاً، وفتاتاً.. اخترقته والتفّت حوله شوارع لها بوابات وأقفال، وبطاقات ممغنطة، و(فيش) وأضابير، واتسعّت فيه المعتقلات، وحملت جباه المناضلين الأبطال تسميات غريبة عن معجم الكلمات، واستُوردت إليه أرقى ما توصلت إليه أدمغة «المتحضّرين» من وسائل تعذيب وقهر وانتزاع اعترافات.
ثم غزوه بالمواخير وأندية القمار.
قال: ما أرخص أن يبيع الإنسان كرامته مقابل جاهٍ مزيّف ودراهمَ معدودة لا تستطيع في أحسن الأحوال أن تُبعد عن وسادته شبح العار الذي يعيش في قاع نفسه الرخيصة.
كان يبتسم وهو يسترسل في حديث الروح.
صوته الصافي يخوض فوق صفائح القبور، والهتاف يتصاعد من الشقوق.. إنه المخاض.. نعيش الآن ساعات المخاض، هل رأيت انتصار الصمود المقاوم تسطّره هامات الرجال على أرض سورية.؟ إنها الأمثولة التي تشحن إرادة الناس، تُنحّي مقولات اليأس وعدم القدرة وفقدان التوازن، وتعلن موسم القصاص والحساب.
سكت قليلاً ثم أردف: التاريخ هو الركيزة التي تحمل البنيان، هو الجذر الذي يمدّ الفروع بأسباب الحياة، من يشوه التاريخ، قد ينتصر إلى حين، لكنّ البقاء الأزليّ لمن ينتصر أخيراً.. أتساءلُ يا غسّان، كيف يستطيع أحد أن يشوّه تاريخ بلده ولا يشوّه نفسه.؟ أدركتُ أن هذا بالتحديد هو الجوهر الذي يتطلّع إليه الشرفاء، يزيدهم ألقاً كلما غاص بهم الزمن، يعطون الأمثولة، ويكرّسون نبل الهدف والتطلّع..يتجاوزون هلالّي «الأنا» وينطلقون إلى العام، لأنه «هذا العام» هو المعيار وهو النقاء وهو البقاء.
لم يسألني عن حالنا وما ألنا إليه مثلما تعّود أن يفعل في كلّ تموز.
لكنني قبل أن أغادر المقبرة، هبّت ريح غربية حملت إلّي روائح الجميّز والخروب والجوافا.
قلت: أهداني الأمل بالانتصار، وعاد إلى عكا.!
وقبل أن أخطو خارج البواّبة، قفزت على لساني كلمات، واقتحمت صدري أمانٍ، قلت: سيكون تمّوز القادم.. أفضل.