ما حدث في الدوحة بين “عباس” و”مشعل” برعاية “حمد”، ذكَّرَني بعبارة شهيرة كان يُرَدِّدُها الفنان الكبير “نهاد قلعي”، وهو يؤدي دور “حسني البرزان” في إحدى حلقات مسلسل “غوار الطوشة”.. لقد كان يقول: “لكي نعرف ما يحدث في البرازيل علينا أن نعرف ما يحدث في إيطاليا”..
من “حسني البورزان” و”غوار الطوشي”، إلى “مشعل” و”عباس”،
يا قلبي لا تحزن!!!
أسامة عكنان
عمان – الأردن
ما حدث في الدوحة بين “عباس” و”مشعل” برعاية “حمد”، ذكَّرَني بعبارة شهيرة كان يُرَدِّدُها الفنان الكبير “نهاد قلعي”، وهو يؤدي دور “حسني البرزان” في إحدى حلقات مسلسل “غوار الطوشة”.. لقد كان يقول: “لكي نعرف ما يحدث في البرازيل علينا أن نعرف ما يحدث في إيطاليا”..
وأنا إذ أتذكر تلك العبارة، فلأنني أوقن بأننا “كي نعرف ما حدث في قَطَر، علينا أن نعرف ما حدث ويحدث في الأردن”..
مع فارق مهم بين الحالتين، هو أن العبارة التي جاءت على لسان الفنان الراحل “نهاد قلعي”، جاءت في سياق “كوميدي”، بينما أنا أورد العبارة التي أوردها يقينا مني بأنني أوردها في سياق “تراجيدي”..
ولكي نفهم ما حدث في قطر وما حدث ويحدث وسيحدث في الأردن، يجب أن ننطلق من النقاط الأساس التالية..
أولا.. الدول لا تقدم تنازلات سياسية بدون ثمن، خاصة إذا كانت تعاني من أزمات جادة وحقيقية تفرض عليها منطقَ المساومة..
ثانيا.. إن الحراك الإصلاحي في الأردن يمثل أزمة حقيقية وجادة للنظام الأردني بتركيبته الطبقية: “كومبرادور، بيروقراط، مخابرات”..
ثالثا.. إن مستقبل الحراك الإصلاحي في الأردن، فشلا أو نجاحا، سلبا أو إيجابا، مرهونٌ ارتهانَ وجودٍ بحسم جدل الهوية في الأردن حسما حقيقيا..
رابعا.. شئنا أم أبينا، اعترفنا أم كابرنا، فإن السلطة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من مشكلة الهوية في الأردن، وحركة حماس جزء لا يتجزأ من مكونات صيرورة الحراك فيه..
خامسا.. حاضر ومستقبل الوضع في سوريا، وقبله في مصر، ذو مردود تكويني ضخم على حاضر ومستقبل الوضع في الأردن..
سادسا.. جماعة “الإخوان المسلمون” في الأردن، هي الأكثر براجماتية من بين كل فصائل الجماعة في كل أنحاء العالم، وهي مرتبطة بالنظام مهما قيل ومهما يقال، بأحبال سريَّة تغتذي منها وتغذيه بها..
وإذا حاولنا الانطلاق من هذه النقاط الست كمرجعيات لتكوين الرؤية، في محاولة منا لفهم ما حدث وما يحدث وما سيحدث في الأردن، نقول ما يلي..
النظام بشكله الذي أشرنا إليه، “كومبرادور، بيروقراط، مخابرات” يعاني – وإن يكن بشكل ما يزال جنينيا – من الحراك الشعبي، لا خشيةً منه بمستواه الحالي، بل بمستواه المفترض والمرتقب، بالنظر لما يمكن للحالتين السورية والمصرية أن تؤولا إليه، وبالاستناد – فضلا عن ذلك – إلى طبيعة مضمون هذا الحراك، على صعيد القضايا الهامة التي تؤسس لمواجهة حقيقية مع النظام بمكوناته التاريخية، التي يحاول النظام أن يحافظ عليها بكل السبل، باعتبارها مرتكزات المصالح والامتيازات الطبقية وغير الطبقية التي صنعت تلك المكونات وحمتها من تقلبات السياسة الخارجية والتطور الداخلي ثقافيا واقتصاديا ومجتمعيا، على مدى أربعين سنت امتدت من عام 1970 حتى الآن..
إن نظاما وظيفيا بتلك التركيبة، تغذَّت وظيفيته وما تزال تتغذَّى على أيديولوجية “التلاعب بهوية الكتلة الحرجة في المجتمع الأردني” – وهي الكتلة التي تُشَكِّل الأردنيين من أصل فلسطيني – باعتبار تلك الكتلة – وفق أيديولوجية التلاعب التي مارسها على مدى العقود الأربعة الماضية – هي ترياق الحياة لتلك الوظيفية..
نقول.. إن نظاما وظيفيا كهذا، لا يمكنه أن يتنازل عن أسلوبه التاريخي في استخدام تلك “الكتلة البشرية”، لضمان الإبقاء على منظومة المصالح والامتيازات الطبقية قائمة بالشكل ذاته، والمتواصل منذ بدأ التلاعب بهذه الكتلة عام 1968..
وبالتالي، فإن هذا النظام تحكمه في سياساته الراهنة الحريصة على تفريغ الحراك الشعبي من مضمونه الإصلاحي العميق الدافع باتجاه التغيير الجذري في البنية الطبقية للمجتمع وللدولة من ثمَّ، بوصلةٌ واحدة ووحيدة هي:
“مادامت البنية الطبقية الراهنة التي يتحرك الشارع لتحطيمها وإعادة بناء المجتمع والدولة على أنقاضها بشكل أكثر عدلا وحرية وقدرة على تحرير الدولة من الوظيفية والتبعيَّة، هي بُنْيَة طبقية قامت، بكلِّ مردودها السلبي المدَمِّر رهنا وفسادا وتغييبا، على ثقافةِ عصبيةٍ أسَّسَت لها أيديولوجية “التلاعب بالكتلة الحرجة” إياها.. فإن إفشال المشروع الوطني الناشئ، والذي يُعَبِّر عن نفسه في تفاصيل حراكٍ يسعى إلى إنجاز ذلك المشروع، يكمنُ في الحيلولة دون الحالة الأردنية الشعبية الراهنة بكل تفاصيلها ومُكَوِّناتها، ودون القدرة على تحطيم “أيديولوجية التلاعب بالكتلة الحرجة”، والاستفادة من هذا التحطيم بالتالي..
أي وبكلمة أخرى، فإن مربطَ الفرس في سياسات النظام وهو يدافع عن مستقبله، ببنيته الطبقية الراهنة، يتمثل في حماية تلك الأيديولوجية من أن تمسَّها على المستوى الثقافي أولا، وعلى المستوى الحركي ثانيا، مفاعيل الحراك الإصلاحي الشعبي الناشئ والمتصاعد.. ومن هنا فإن “أيديولوجية التلاعب بالكتلة الحرجة” التي نتحدث عنها هذه، وبقدر ما هي بوصلةُ النظام في بناء خطَطِه ورسم سياساته في مواجهة الحراك الشعبي، بقدر ما يجب أن تكون هي بوصلتنا في فهم هذا النظام، وبالتالي في فهم ما يحدث على الساحة الأردنية من تطورات هنا أو هناك!!
النظام الأردني يدرك جيدا مسألتين غاية في الأهمية هما:
1 – لن يتم تجسيد “الهوية الفلسطينية” ولا إقامة “الدولة الفلسطينية” على أيِّ شبر من الضفة الغربية، من خلال النهج التسووي التفاوضي الأبدي الذي قام على مرجعية أوسلو وقبلها مرجعية مدريد، اللتين كان قد مهَّد لهما قرار فك الارتباط عام 1988.. وبالتالي، فلن ينشأ على أرض الضفة أيُّ واقع سياسي حقيقي بإمكانه حل معضلة الهوية التي تعاني منها “الكتلة الحرجة”، بشكل يفقدُ النظامَ القدرة على مواصلة التلاعب الأيديولوجي بها لحماية بنيته الطبقية القائمة..
أي أن تلك الكتلة لن يتم جرُّها إلى منبعها الفلسطيني المتوَهَّم، الذي قد ينهي واقعَها الأردني المتجسِّد، لتبقى كما هي كتلة حرجة تضمن للنظام قدرته على إفقاد الحراك الإصلاحي زخم قوته الذي يبدو قيد التشَكُّل، وهذا الزخم هو بلا أدنى ريب أردنية “الكتلة الحرجة”!!
2 – إن “جماعة الإخوان المسلمين” بذراعيها الاجتماعي والسياسي، هي العمود الفقري للحراك الشعبي الإصلاحي في الأردن، في الوقت الراهن على الأقل، وهي من ثم من يعطي لهذا الحراك حاليا زخمَه وقوَّتَه الفعلية. وبالتالي فإن أي فعل سياسي ينتهجه النظام في الاتجاه الهادف لزعزعة الحراك وتلجيمه ودفعه إلى التراجع والانكفاء، يجب أن يأخذَ في الاعتبار هذه الحقيقة التي يعرفها الجميع..
وهذا هو على وجه التحديد ما تحرك النظام آخذا إياه في الاعتبار، ساعيا إلى إنجاز فعل سياسي يُقَزِّم من خلاله قوة الحراك الذي انطوى على مضمون تقدمي حقيقي راح يَجُرُّ “الكتلة الحرجة” نحو أردنيتها الواقعية، ليسقطَ بتلك الأردنية هيمنة التحالف “الكومبرادوري البيروقراطي المخابراتي” الحاكم!!
فماذا فعل النظام، وكيف تحرك سياسيا، مستفيدا من هاتين المسألتين، ليحقق غايته المتمثلة في تقزيم الفعل الإصلاحي والحراكي المعارض لبنيته الطبقية والمصلحية القائمة؟!!
يجب ألا تموت السلطة الفلسطينية تحت أيِّ ظرف، لأن موتَها يعني فشلَ “مشروع فك الارتباط” برمته، وهو المشروع الذي ما اتُّخِذَ إلا لضمان واقع “الكتلة الحرجة” قائما كما هو منذ أيلول 1970 واقعيا، بعد أن تجسَّد في عام 1968 سياسيا، فلا هو واقع يعطيها صفتها الفلسطينية ليتيح المجال أمام الكتلة المتبقية كي تصفي حساباتها مع النظام الوظيفي الذي امتهنها أربعين عاما، ولا هو واقع قادر على العودة بها إلى صفتها الأردنية، فيتيح المجال أمامها وأمام الشطر الآخر من الكتلة، كي يتجاوزا الشرخ الذي اقتاتَ عليه النظام تلك العقود الأربعة، فتواجهاه معا بصفتهما كتلة واحدة أردنية، لتصفيا معه حساب السنوات الأربعين العجاف..
وكي لا تموتَ السلطة، يجب أن تُحقَنَ بترياق إعادة الحياة، عبر إنهاء سنوات الخلاف بين جناحيها “فتح” و”حماس”، بأيِّ شكل يضمن للسلطة أن تخرج من غرفة الإنعاش، وأن تستمرَ في أداء الدور الوظيفي الذي نشأ النظام الفلسطيني سياسيا عام 1968 وواقعيا عام 1970، وقانونيا عام 1974، ليقوم به ويؤديَه بشكل رسمي بعد عام 1988..
وهذا الأمر من شأنه الدفع باتجاه تمييع واقع “الكتلة الحرجة”، عبر تمييع أردنيتها من خلال الإبقاء على فلسطينيتها معلقة ومحتملة وممكنة، مادامت السلطة ما تزال تتنفس وهم “الهوية الفلسطينية” القابلة للتجسُّد على أرض الضفة الغربية..
وكي يموت الحراك الشعبي الإصلاحي الأردني، أو على الأقل كي يدخل غرفةَ الإنعاش لمدة طويلة تتيح مرونةً كافية للنظام كي يتلاعب من جديد بـالكتلة الحرجة، بما يحافظ على توازناته الطبقية قائمة على النحو المطلوب، يجب أن ينفصل عن الحراكِ عمودُه الفقري..
ولأن العمود الفقري هذا براجماتي جدا، فقد كان من اللازم البحث عن الأمور التي تسَيِّلُ لعاب البراجماتية الإخوانية..
وفي ظل تداعيات الوضع السوري على حركة “حماس” التي وجدت نفسها في مهب الريح تبحث عن قشة تتعلق بها من الغرق، قفز النظام الأردني على الجسر القائم بين فصيلين إخوانيين جدُّ مترابطين، كي يجيّر ملابسات الوضع القائم لمصلحته..
التقط إخوان الأردن الرسالة وتجاوبوا معها، وقدَّم كل من الطرفين، “النظام” و”الإخوان”، استحقاقات فاتورة الصفقة التي دُبِّرَت بليل..
تفاصيل الصفقة ليست أكثر أهمية من نتائجها..
التفاصيل، شيء لي، وشيء لك.. شيء للإخوان، وشيء للنظام..
والنتيجة المهمة هي الإبقاء على “الكتلة الحرجة” خاضعة لأيديولوجية “التلاعب” الضامنة لتماسك خندق النظام أطول مدة ممكنة في مواجهة حراكٍ ستفقده الصفقة زخمَه البشري، بسبب انفصال الإخوان، وزخمَه الأيديولوجي، بسبب بث الحياة من جديد في سلطة عباس التي كانت تحتضر..
الصفقة في بعدها المتعلق بـ “حماس” و”السلطة الفلسطينية”، أبقت على الكتلة الحرجة، عن طريق الإبقاء على وهم تجسيد فلسطينيتها قائما..
أما في بعدها المتعلق بـ “الإخوان” و”النظام”، فقد أبقت الصفقة على الكتلة الحرجة، من حيث عدم إتاحة الفرصة لحسم أردنيتها القائمة بإضعاف زخم الحراك المنادي بها والداعي إليها..
والمستفيد الأول هو نظام كومبرادوري بيروقراطي مخابراتي حاكم، موغِلٌ في الفساد ويأبى الإصلاح..
قد يكون تحليلنا للصفقة في جانبها الذي تصورناه بين الإخوان والنظام، مجرد تحليل ومحصلة استنتاجية نتمنى عدم صحتها، لكن الصفقة في جانبها الآخر قائمة فعلا..
وهي إن لم تقم في جانبها الأول “الإخوان” و”النظام” كما يهيأ لنا، فذلك يرجع إلى حرص الإخوان على إحداث التغيير في الأردن بعيدا عن البراجماتية التنظيمية الصرف..
ولكنها قامت في جانبها الثاني “حماس” و”السلطة الفلسطينية” فعلا، لأن حماس كانت تبحث عن خيارِ البقاء جزءا من لعبةٍ كادت تموت، معبرةً بقبول الصفقة مع “سلطة عباس” عن حقيقةٍ غاية في الأهمية، كانت تحاول إخفاءَها على مدى سنوات، ألا وهي أنها – أي حماس ذاتها – جزءٌ من مشكلةِ “الوظيفية الفلسطينية”، وليست حلا يؤدي إلى التحرر منها..
ترى من يميل إلى هذا الافتراض، ومن يميل إلى الاستنتاج الذي أشرنا إليه حين تحدثناعن صفقة داخلية بين الطرفين؟!
دعونا نتناقش ونتحاور، لنتوصل إلى أدق المقاربات..
فالحقيقة ليست حكرا على أحد..