فرنسا رائدة الحرب الصليبية ضد الإسلام ..؟! (1-4)
مصطفى إنشاصي
هذه مقالة كتبت جزء منها منذ بداية التدخل الفرنسي في مالي ولكني لم أكملها
ولكن بعد أن قررت فرنسا تسليم مالي لقوات دولية بعد النجاحات التي حققتها ضد الإسلاميين
رأيت العودة لاستكمالها ونشرها، وبعد أن أكملتها أمس لم يتوفر لدي الوقت لنشرها بسبب انقطاع الكهرباء،
ولكن بعد هذا التقرير المفجع الذي نشره موقع خدمة العصر بعنوان: “ميليشيات” زنجية موالية للفرنسيين تقتل العرب وتحرق مدارس القرآن! ويتحدث عن ارتكاب الميليشيات والجيش المالي جرائم إبادة ضد العرب والطوارق وغيرهم من المسلمين تحت سمع وبصر قوات الاحتلال الفرنسي دون أن تحرك ساكن أصبح مهم نشر على هذه المقالة، خاصة وأن المقالات التي تتحدث عن أسباب التدخل الفرنسي في مالي كالعادة تفصل بين الديني والسياسي والاقتصادي في الموقف الغربي من الإسلام، وتبحث عن مبررات غير منطقية تركز على نزع الطابع الديني عن السياسة الغربية في كل حرب أو معركة ضد جزء من وطننا! وكما أوضحت في مقدمتها أنني لن أناقش فيها أسباب التدخل الحقيقة في مالي أو غيرها من أقطار الوطن حيث كتبت:
أثار التدخل الفرنسي المباشر في مالي ضد حركة أنصار الدين دهشة البعض حول دور فرنسا وسرعة تدخلها في أقطار وطننا قبل غيرها من الدول الغربية، فهي عادة لا تنتظر نضج الظروف أو الأسباب التي تبرر بها تدخلها أو أن يتخذ مجلس الأمن قراراً بذلك بل تكون هي الرائدة والسباقة ثم تتبعها بقية الدول الغربية ويكون قرار مجلس الأمن تحصيل حاصل للتدخل الفرنسي، وعادة ما يبحث المحللين والكتاب عن مبررات سياسية أو اقتصادية وغيرها من الأسباب والمبررات التي قد تكون كلها أو بعضها صحيحاً ولكنها ليست الأسباب الحقيقية!
وبغض النظر عن موقفي مما يحدث في مالي وغيرها من أقطار الوطن إن كنت معه أو ضده في هذه المقالة لن أناقش مبررات التدخل الفرنسي أو الغربي في وطننا؛ فموقفنا ثابت وواضح أننا ضد التدخل الغربي في شئون وطننا الداخلية مهما كانت المبررات أو الأسباب ومهما كان الوضع سيئاً في أقطاره. كما أن موقفنا من الاستعانة بعدو الأمة اليهودي – الغربي واضح وثابت بغض النظر عن وطنية أو عمالة الأنظمة الحاكمة في وطننا فنحن ضد الاستعانة بالأجنبي مهما كانت المبررات ضد أبناء الوطن، ومَنْ أراد الثورة على نظام الحكم في بلده ليثور معتمداً على قدراته الذاتية والعربية والإسلامية المخلصة دون عون من الغرب سواء كان مشروطاً أو غير مشروط. والموقف نفسه تابت من أنظمة الحكم التابعة للغرب والعميلة فنحن ضد تلك الأنظمة التي في البداية والنهاية تعمل حسب الأجندة الغربية ولولا ذلك ما أوصلت الأمور الداخلية إلى حد الانفجار، وسولت للنفوس المريضة في ما يسمى المعارضة التي في نظري هي الوجه الآخر للأنظمة الاستعانة بالعدو المشترك لهما وهم يعلمون أن الغرب هو الذي دعم وجود تلك الأنظمة طوال عقود من عمر الأمة!
ولكني أرى الآن أهمية أن نناقش مدى صحة ذلك الرأي الذي يجرد السياسة الفرنسية والغربية من البُعد الديني ضد أمتنا ويردها إلى أسباب سياسية أو اقتصادية فقط كمحاربة ما يسمونه (الإرهاب) أو السيطرة على الثروات النفطية أو الغاز أو اليورانيوم أو الذهب وغيرها، واسأل:
البوسنة والهرسك
عندما سارعت فرنسا إلى التدخل فيالبوسنةمن بداية الحرب بين الصرب والمسلمين قبل أن يتخذ مجلس الأمن قراراً بإرسال قوات دولية إليها وساعدت الصرب على ارتكاب أبشع جرائم الإبادة وما صاحبها من اغتصاب وتهجير وغيرها في القرن العشرين؛ أكانت البوسنة غنية بالنفط أو الغاز؟ أو لديها نسبة كبيرة من مخزون العالم من مادة اليورانيوم أو الذهب كما هي مالي؟! الإجابة قطعاً لا! فهي لا تملك احتياطي عالمي من النفط ولا الغاز ولا اليورانيوم ولا الذهب ولا شيء مما يريق الغرب الدماء البريئة من أجله دون شفقة! إذن لماذا سارعت في التدخل قبل غيرها؟!
لمَنْ لم يقرا التاريخ ويسمع عن جرائم فرنسا والغرب وحملات الإبادة ضد المسلمين في كل مكان وطأته أقدام جنودها في وطننا نذكره بأبشع جريمة ارتكبتها هي والعالم الغربي نهاية القرن العشرين ضد أهلنا في البوسنة والهرسك، كثيرون هم الذين لا يعلمون أن السبب في هذه الجريمة البشعة وما صاحبها من عمليات قتل وإبادة جماعية واغتصاب لعشرات الآلاف من أخواتنا البوسنيات هي فرنسا! لأنه لولا دخول القوات الفرنسية منذ الأسابيع الأول للحرب إلى البوسنة قبل تقديم صيغة قرار بخصوص إرسال قوات دولية إليها وسيطرتها على المطار والتلال المحيطة به التي تتحكم في الطريق بينه وبين سراييفو العاصمة، وحرصها على نشر قوات دولية لم يكن لحماية المسلمين من الصرب ولكن كي تحرم المسلمين من الإفلات من المجزرة وحرب الإبادة والاغتصاب التي خطط لها الغرب بالتعاون مع العصابات الصربية!
لقد جاء التحرك الفرنسي السريع بعد أن تأكدت أخبار الهزائم التي ألحقها المسلمون بالصرب وطردهم من التلال ذات الغالبية الصربية المسيطرة على طريق المطار- سراييفو، ووشوك سيطرة المسلمين على المطار الذي كان سيوفر لهم منفذ دولي للاتصال الآمن بالعالم ويؤمن لهم الدعم اللوجستي والإنساني والعسكري وغيره، ما يعني أن المعركة كانت ستُحسم لصالح المسلمين دون قتل وإبادة واغتصاب وتهجير، وفرنسا بسيطرتها على المطار والتلال المحيطة به أمنت للصرب حصار وخنق المسلمين وعزلهم عن العالم وتقطيع أوصال البوسنة عن بعضها وتمكين الصرب من ارتكاب كل جرائمهم تحت سمع وتواطئ من القوات الفرنسية والهولندية وغيرها! وانتهت تلك الجريمة الفرنسية الغربية بإكراه المسلمين على توقيع اتفاق دايتون في فرنسا نفسها وقبولهم بدولة يشاركهم فيها الصرب والكروات وبأقل نصيب من الأرض فيها على الرغم من أنهم يشكلون غالبية السكان والوطن وطنهم!
مازلنا لم نجيب عن السؤال والإجابة أنقلها من رسالة تهنئة بعيد الأضحى أرسلتها لصديق بتاريخ 4/4/1999 وكانت كلها عن جرائم الصرب في كوسوفو وقبلها البوسنة والهرسك وعن صمت الغرب والعالم عنها وأوجه التشابه بينها وبين فلسطين، أقتطف بعضاً منها:
… وهناك أجزاء من الوطن وبعضاً من الأمة لم يعرف معنى للعيد ولا البهجة أو السعادة، وقد لا يكون تذكر أن هناك عيد هذا العام، أو أضحية، وهم يُضحى بهم في موسم الحج والتضحية والفداء، يُضحى بهم بأبشع الصور على مذابح السياسة والصراعات السياسية والعرقية والدينية والمصالح والمكاسب الاقتصادية، كل ذلك يتم والأمة الإسلامية لا تحرك ساكناً ضد ما يجري لإخوانهم وكأنهم ليسوا مسلمين ولا يذبحون ويطردون لأنهم مسلمون! لقد قضينا العيد ولازلنا في رحاب الشهر الحرام نتابع طوال الليل والنهار مناظر إخواننا المشردين وهم يقضون ايامهم ولياليهم في العراء وعلى الحدود وفي الجبال ووسط الوديان، ونتابع أخبار تهجيرهم وجوعهم وإبادتهم … ومع تلك الصور والمناظر والأحداث كأننا نعيش أحداث النكبة والهجرة والشتات التي حدثت في وطننا عام 1948 ولم نشاهدها ولكننا نراها في أبشع صورها في (كوسوفو) وذلك لكثرة أوجه الشبه بين الحالتين.
ففلسطين (أرض الميعاد) ووطن الأجداد عند اليهود دينياً وتاريخياً، وكوسوفو هي موطن الصرب الأصلي وأرض أجدادهم، وموطن أساطيرهم وملاحمهم التاريخية ولا يمكن لهم التفريط فيها، وهؤلاء المسلمين الألبان دخلاء يجب طردهم وتطهيرها منهم! وفلسطين ابتليت بعدو ماكر غادر يعيش على إثارة الفتن وسفك الدماء معتبراً ذلك عبادة وطاعة وقربة للرب، وكوسوفو ابتليت بعدو هو مصدر الحروب والفتن في تلك المنطقة فضلاً عن تعصبه الديني الأعمى وكراهيته لغير الأرثوذكس! فلسطين ابتليت باليهود الذين يريدون تصفية حسابات ألاف السنين من التشرد والعذاب المزعوم في الأرض مع شعوب المنطقة والعالم، والصرب يريدون تصفية حسابات هزائم وذل وصراعات وثأرات قديمة بينهم وبين المسلمين منذ قرون مضت.
فلسطين تكمن أهميتها في موقعها الإستراتيجي والجغرافي الوسط الذي يتحكم في طرق الاتصال والمنافذ البحرية والبرية التي تربط أطراف العلم الأربعة ببعضها، فضلاً عن أنها تشكل الجسر الأرضي الذي يربط شرق الوطن الإسلامي بغربه، وكوسوفو إلى جانب البوسنة والهرسك تتحكم في الطريق الدولي الذي يربط بين شرق أوروبا وغربها، كما أنها تتوسط التجمع الإسلامي في تلك المنطقة التي يخشى الغرب في المستقبل من ترابط أجزائه وتشكيل وحدة جغرافية وسياسية في قلب وشرق أوروبا قد تؤثر على شكل الخريطة الجغرافية والسياسية في تلك المنطقة! انتهى النقل.
فالخطورة في البوسنة والهرسك وكوسوفو لم تكن على ضياع السيطرة على الثروة النفطية أو الغاز أو اليورانيوم والذهب ولكن تكمن في شعب مسلم وموقع إستراتيجي وجغرافي يجعلان الغرب يخشى من قيام أي دولة إسلامية قد تقوى في المستقبل وتشكل خطراً على استقراره وتعيد أمجاد الإسلام في وسط أوروبا، فعداء الغرب العلماني لم يكن دافعه الثروة ولكن الدين فهو عداء للإسلام بغض النظر عن مدى تدين الغرب أو علمانيته! والمتأمل لِما حدث بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1990 سيجد أنه كل الجماعات الاثنية والطائفية مهما قل عددها من غير المسلمين ورغبت في الاستقلال حصلت على دول لها، إلا المسلمون هم الوحيدون الذين اجتمعت دول الغرب على تناقضاتها السياسية والدينية والمصلحية على حرمانهم من الحصول على دول لهم! ترى هل ذلك أمر عفوي أو عبثي يا مَنْ ترفضون صليبية الهجمة الغربية؟!
ونفس الأمر في التدخل الفرنسي السريع ..
في مالي الذي لم يكن حرصاً على حقوق الإنسان وأمن وحياة سكان مالي ولكن حرصاً على ثروة مالي من اليورانيوم والذهب التي هي سبب غنى الشركات الفرنسية والغربية على حساب جوع أصحاب الثروة أنفسهم، وخوفاً من أن تقع تلك الثروة في أيدي إسلاميين في المفهوم الغربي المنحرف أنهم (متطرفون وإرهابيون) وليسوا معتدلين كحكام إمارات النفط التي تسخر كل ثروة الأمة لخدمة مشاريع الغرب وتنفيذ مخططاته ضد الأمة والوطن وتوفير أرقى حد من الرفاه لسكانه على حساب جوع ومعاناة وحروب أصحاب الثروة أنفسهم من المسلمين!
فالغرب يخشى في مالي الثروة والموقع الجغرافي الذي يتوسط بحر من الشعوب الإسلامية وسط الصحراء الإفريقية، وطبعاً ذلك موجود منذ عقود طويلة لم يقلق فيها الغرب على مصالحه لأن حكام مالي وغيرها من الأقطار الإسلامية في إفريقية ضعفاء وموالين له وليس لديهم طموحات يمكن أن تشكل خطراً أو تهديداً لسيطرته على ثروات أوطانهم، أما جماعة أنصار الدين فهي ليست معتدلة ولكنها في المفهوم الغربي أصولية راديكالية ولديها طموحات يمكنها أن تشكل خطر كبير على مستقبل الهيمنة الغربية في إفريقيا، إن نجحت في إقامة دولة إسلامية قوية واستثمرت تلك الثروة في توحيد شعوب محيطها الإفريقي في دولة تعيد أمجاد دولة مالي الإسلامية وتشكل عمقاُ ودعماً لكل الإسلاميين في العالم المناهضين للغرب والداعين إلى نهضة إسلامية جديدة وإلى وحدة الأمة التي مزقها الغرب!
نعم فالوحدة والدولة القوية هي التي أرهبت الغرب ودفعت طليعته فرنسا إلى سرعة التدخل في مالي؛ فهم ظنوا أن جماعة انصار الدين بعد سيطرتها على شمال مالي بداية العام الماضي أنها جزء من تنظيم القاعدة وستكتفي بإمارة إسلامية في الشمال وينفصلوا عن الجنوب ولم يأخذوا مأخذ الجد ما أعلنته وقتها من أنها ستبقى جزء من مالي ولن تنفصل عنها، ولكنهم عندما تحركت باتجاه الجنوب لتحافظ على الوحدة الجغرافي لمالي كدولة واحدة أدركوا خطأ تقديراتهم وخطر وحدة مالي في دولة قوية معادية للغرب ومصالحه في مالي ومحيطها الإفريقي خاصة وأنها جماعة لا تفكر ولا تنتهج أسلوب تنظيم القاعدة في العمل!
لذلك تحرك الحقد الغربي الصليبي على الإسلام والخوف من قوته بغض النظر إن كان الغرب علماني ملحد أو يحمل الصليب وحرك رأس الحربة الغربية (فرنسا) لتسارع إلى التدخل في مالي قبل أن يتمكن المسلمين فيها من توحيد شمالها وجنوبها وحرمان شركاتها والشركات الغربية من نهب ثرواتها وترك أهلها للموت جوعاً، ولم يتوانى الغرب في دعمها وفي تحريك مجلس الأمن والدول العميلة له في القارة للقضاء على تلك المحاولة للاستقلال الحقيقي عنه، وللأسف أن القوى العلمانية في مالي ومن الطوارق أنفسهم اصطفت إلى جانب أعداء مالي والأمة وذلك نتيجة ما زرعته فرنسا والغرب من أفكار مزقت الأمة منذ قرنين من الزمن وهي التي كانت جوهر المقالة قبل أن نقرر مناقشة هذا الرأي الذي يجرد سياسة الغرب ضد الأمة والوطن من بُعدها الديني، والذي أيضاً سيجعلنا نُتبع هذه المقالة بعدة مقالات عن خطأ القراءة العلمانية لكثير من جولات الغرب ضد الأمة والوطن وتفسيرها تفسيرات تخرجها عن حقيقتها!
… يُتبع
التاريخ: 5/2/2013