www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

من ابحاث الأديب/محمد معمري

0

جلس رجل عجوز ذو نظارات ذات حافات معدنية بالقرب من جانب الطريق، يرتدي ملابسا متربة جدا. كان هناك جسر عائم يقطع النهر، تعبره قوارب، وعربات، وشاحنات، ورجال، ونساء، وأطفال.

قراءة محمد معمري في ” عجوز عند الجسر” للكاتب الأمريكي “إرنست هيمنجواي”

* القصة

القصة: عجوز عند الجسر
الكاتب: “إرنست هيمنجواي”
ترجمة: محمد معمري

جلس رجل عجوز ذو نظارات ذات حافات معدنية بالقرب من جانب الطريق، يرتدي ملابسا متربة جدا.
كان هناك جسر عائم يقطع النهر، تعبره قوارب، وعربات، وشاحنات، ورجال، ونساء، وأطفال.
فوق الحافة الشديدة الانحدار من الجسر ترنحت العربات التي تجرها الثيران، فراح الجنود للمساعدة بدفع دواليب عجلاتها.

كانت الشاحنات تسير بصعوبة وهي تبتعد عن كل شيء، تاركة من ورائها الفلاحين ضاربين أقدامهم في التراب، مجاهدين في مشيهم؛ إلا أن العجوز جالس هناك دون تحرك. كان يبدو أنه مصاب بداء العي فلم يستطع مواصلة السير أكثر من ذلك.

كانت مهمتي عبور الجسر للقيام بدورة استطلاعية، والتأكد إلى أي مدى وصل إليه العدو. لقد قمت بواجباتي، وعدت فوق الجسر حيث لم أر سوى ملأ قليل من البشر المشاة، وقليل من العربات، لكن العجوز لم يبرح مكانه. فسألته:
– من أين جئت؟
رد مبتسما:
– من “سان كارلوس”.
لأن هذه المدينة كانت مسقط رأسه، وعندما تذكرها غمر السرور نفسه فعبر عنه بالابتسام.

ثم استطرد قائلا:
– كنت أعتني بالحيوانات.
– آه!
تأوهت دون أن أفهم قصده!
– نعم، بقيت كما ترى! لأعتني بالحيوانات؛ لذلك كنت آخر من غادر “سان كارلوس”.

لم تكن تبدو عليه سمات راعي الغنم، ولا حتى صاحب ماشية. نظرت إلى ثيابه السوداء المتربة، وإلى وجهه الأشعت، ونظاراته ذات الحافات المعدنية، ثم سألته:
– أي نوع من الحيوانات؟!
– حيوانات مختلفة.

قال هذا مطأطئا رأسه، ثم أضاف:
– وقد اضطررت لتركها.
كنت أراقب الجسر وريف (إيبرو ديلتا) الذي يبدو كمظهر إفريقي، وأنا أتساءل كم سيمضي من الوقت لنرى العدو؟ وبينما أنا أصغي في تلك الآونة إلى الأصوات الأولى التي قد تشير في أي وقت الى حادث مبهم، أو اشتباك يستدعي الاتصال؛ كان العجوز لا يزال جالسا هناك، فسألنه:
– أي أنواع الحيوانات كانت؟
– كانت هناك ثلاث حيوانات، معزتان، وقطة، وأربعة أزواج من الحمام.
– وكان لزاما عليك تركها؟!
– نعم! لقد أمرني القائد العسكري بالمغادرة بسبب قصف المدفعية.
وأنا أراقب النهاية البعيدة للجسر، عندما كانت العربات القليلة المتبقية تسرع إلى منحدر ضفة النهر سألته:
– أليست لك عائلة؟
– لا! فقط الحيوانات التي ذكرتها. والقطة سوف تكون على أحسن ما يرام؛ لأنها تعتمد على نفسها، لكن لا أستطيع أن أتصور ما يمكن أن يحدث للآخرين.
– ألديك معتقد سياسي؟
– لست سياسيا؛ لقد مضى من عمري ست وسبعون سنة؛ وقد مشيت اثنى عشرة كيلومترا إلى حد الساعة، وأعتقد أنني لا أستطيع مواصلة السير.
– هذا ليس مكانا آمنا لتتوقف فيه، فإن أردت فهناك شاحنات تتجه نحو “تورتوسا”.
– سأنتظر فترة من الوقت، ثم سأتوجه حيث تمضي الشاحنات.
– اتجاه “برشلونة”؟
– لا أعرف أحدا في هذه الناحية، ومع ذلك أشكرك جزيلا، أشكرك جزيلا مرة أخرى.
نظر إلي نظرة المتعب المرهق، وهو يريد اقتسام معاناته مع أي كان، قائلا:
– القطة ستكون على أحسن ما يرام، لا داعي للقلق من ناحيتها؛ ولكن البقية؟ وما تظن بشأنها؟
– حسنا، ربما ستنجو.
– أتظن ذلك؟
– لم لا؟
قلتها وأنا أراقب الضفة الأخرى حيث الطريق قد خلا من العربات.
– لكن، ماذا سيفعلون تحت القصف المدفعي وأنت قد أمرت بالمغادرة بسبب هذا القصف؟ وهل تركت قفص الحمام مقتوحا؟
– نعم!
– إذن سيطير.
– نعم، بكل تأكيد سيطير؛ ولكن البقية؟ ومن الأفضل ألا أفكر فيها.
– إذا كنت قد استرحت فإني أرغب في الانصراف، فحاول أن تنهض لتسير الآن.
– شكرا.
هب واقفا، ترنح من جانب إلى آخر، ثم جلس فوق التراب في الاتجاه المعاكس. وقال بحزن شديد من غير أن يقصدني: “كنت أعتني بالحيوانات، كنت فقط أعتني بالحيوانات”.
كان يوم أحد، وقد صادف “عيد الفصح”، ولم يكن في وسعي ما يمكن فعله من أجله، والفاشيون يتقدمون نحو “إيبرو”؛ وكان يوما سماءه مكفهرة، ملبدة بالغيوم، مما جعل طائراتهم لا تستطيع القيام بالطلعات الجوية.
كانت هذه حقيقة، إلى جانب حقيقة أن القطط تعرف كيف تدبر أمرها، وكان من حسن حظ العجوز كل ما بمقدوره أن يمتلك.
**********************

* السيرة الذاتية
ولد إرنست همينغواي [Ernest Miller Hemingway] يومه 21 يوليوز 1899م. وانتحر يومه 2 يوليوز 1961م. في مدينة “أواك بارك” بولاية “إلينوي” بأمريكا، من أب طبيب هوايته الصيد.. وأم هوايتها الموسيقى…
وفي سنة 1909م. أهداه أبوه بندقية صيد لأنه كان مولعا بالصيد منذ صباه، وقادته الموهبة إلى إفريقيا…
رافقته إلى غاية 2 يوليوز 1961م. حيث كانت الأداة التي أنهى بها حياته…
أراد أن يلج عالم التجنيد لكنه رفض بسبب الفحص الطبي.. لكنه ولجه من باب آخر حيث شارك في الحرب العالمية الأولى والثانية بالعمل في سفينة حربية أمريكية.. وقد حصل أوسمة…
كما عمل صحافيا بجريدة “كنساس ستار”، ثم متطوعا في الصليب الأحمر الإطالي سنة 1918م. أين أصيب بجروح بليغة كلفته عدة عمليات جراحية.. وعلى إثر هذا حصل على رتبة ملازم سنة 1921م. وعمل أيضا مراسلا صحافيا لجريدة “تورنتو ستار” في “شيكاغو”…
هاجر إلى باريس سنة 1922م. وعمل أيضا مراسلا.. وهناك أتيحت له الفرصة للقاء بأدباء كبار أمريكيين، وفرنسيين حيث يُعد هذا العصر بالعصر الذهبي في فرنسا… ومن سنة 1936م. إلى غاية سنة 1938م. عمل أيضا مراسلا حربيا لتغطية الحرب الأهلية الإسبانية…
نال “جائزة بوليتزر” الأمريكية في الصحافة سنة 1953م. ونال “جائزة نوبل” في الأدب عن رواية “العجوز والبحر” سنة 1954م.
وفي أواخر حياته هاجر إلى “كوبا”.. ربما بدافع الاضطرابات العقلية التي دفعت به إلى الانتحار…
وعلى ذكر الانتحار هناك غرابة في أسرة “همنغواي” حيث انتحر أبوه، وأختاه من أبيه، لأن أباه كان متزوجا بثلاث نساء… وحفيدته.. وربما قد تكون هذه الظاهرة وراثبة…
كل هذه التجارب، والرحلات، ونظرته السوداوية للعالم، وشخصه، ومحيطه، وبيئته، وهويته.. انعكست في أدبه.

* السيرة الفنية
ينجلي الليل “ثم تشرق الشمس”، ليبدأ هذا العطاء مع “الرجل العازب”، الذي تزوج ثلاث نسوة أو أكثر..
هذا الرجل الذي ينتمي إلى الجيل الضائع لقد صعد المنبر وألقى خطبته “وداعا للسلاح”، وقد شاهد “وفاة في العشية”، فوق “روابي إفريقيا الخضراء”، وبين أمريكا وفرنسا وإفريقيا أدرك “الذين يملكون والذين لا يملكون”، وعندما كان يبحث عن وسيلة اتصال تحاور مع “عجوز عند الجسر”، ففهم “لمن تقرع الأجراس”، فأرسل رسالته “عبر النهر وخلال الأشجار”، صحبة “العجوز والبحر”، وعندما تناول “وليمة متنقلة”، أدرك أن هناك “رجال بلا نساء”، فلم يستطع صبرا، فانتحر.

ومن بين هذا العطاء أختار قصة “عجوز عند الجسر”، التي تدور أحداثها ما بين سنة 1936م. وسنة 1938م. إبان الحرب الأهلية الإسبانية، حيث عمل مراسلا حربيا لهذه الواقعة.

* نبذة عن هذه المرحلة التاريخية
بسبب الانقلاب على الشرعية الجمهورية الإسبانية في “مدريد” حيث قام به مجموعة من الجنود بقيادة مجموعة من الجينرالات، وعلى رأسهم: “مولا” في الشمال، و”فرانشيسكو فرانكو” في المغرب، و “كييبو دي يانو” في الأندلس… قامت هذه الحرب الأهلية التي أدت إلى انقسام إسبانيا إلى “قومية” بقيادة “الفاشيين” مع “الفلانخي” و”الريكيتيس”، والجمهورية بقيادة الجبهة الشعبية مع نخبة من الاشتراكيين والشيوعيين…
امتدت هذه الحرب من 17 يوليوز 1936م. إلى غاية 1 أبريل 1939م. وقد تلقى القوميون الدعم من إيطاليا وألمانيا، والجمهوريون دعمهم من الاتحاد السوفياتي…
وكان الجمهوريون مذبذبين بين الرأسمالية، والديمقراطية الليبرالية، والشيوعية على هيئة ثائرون لا سلطويون… كما أن قاعدتهم الأساسية تتمحور حول العلمانية والمدنية… وقد استخدمت في هذه الحرب أساليب إرهابية مست بشكل كبير المدنيين…
وفي سنة 1938م. وقعت معركة “إيبرو” أين جَرّتْ القوات المسلحة الإسبانية ذيول الهزيمة…

* عنوان القصة
– “عجوز عند الجسر”
يتألف العنوان من ثلاث كلمات:
1-عجوز: اسم نكرة يخص الإنسان من الدرجة الأولى، والحيوانات.. يدل على كبر السن الذي يؤِدي إلى العجز…
2-عند: ظرف للمكان والزمان، وهو ظرف يلازما دائما الإضافة.
3-الجسر: اسم معرفة للجماد، ويدل على وسيلة العبور من مكان إلى مكان، وفي المعنى التصويري يدل على التواصل والانتقال من مرحلة إلى مرحلة…

– عجوز: كلمة تحتمل أن تكون خبر المبتدأ إذا قيست بــ: “هذا” عجوز.. أو “رجل”، وما شابه ذلك؛ كما تحتمل أن تكون مبتدأ على نحو عجوز “إسباني”، أو عجوز “متعب”… فالإضمار والحذف والاختزال جعلوا من العنوان جملة قصيرة ومفهومة؛ لكنها تضمر الكثير والكثير جدا؛ فالعجوز يمثل المجتمع، ويمثل الإنسان الضعيف مثل الأطفال والنساء والشيوخ، وفي الحرب يمثل بصفة عامة المدنيين…
– عند: رغم أنها هنا جاءت ظرف مكان، ففي صورتها المضمرة الحقيقية هي ظرف للمكان والزمان في آن واحد؛ لأن هناك زمن محدد للعبور إلى الضفة الأخرى وهو زمن الحوار بين الكاتب والعجوز.. والجسر فهو مكان بطبيعة الحال…
– الجسر: هو رمز التواصل، والانتقال من وضعية إلى وضعية أخرى، أو الانتقال من حكم إلى حكم؛ وبصفة عامة يعني التغيير والتحول…
وبالتالي يوحي لنا العنوان عن عجز المجتمع الإسباني من الانتقال أو التحول من مجتمع متشتت إلى مجتمع موحد…

* الشخصيات الرئيسية
1- الكاتب:
الكاتب هو الراوي وفي نفس الوقت بطل رئيسي حاول من خلال حواره مع العجوز أن يبرز تلك القوة التي تتحدى اللانعزال والانطواء؛ كما أبرز من خلال النص البطل الذي يتحمل الشقاء والمتاعب والآلام دون أن يشكو أحاسيسه.. ومن منظور الأبعاد قد تتجسد شخصية الكاتب في البطل الثاني الرئيسي الذي هو “العجوز” كأن الكاتب والعجوز شخص واحد انفصما ليكتبا لنا قصة رائعة المبنى لفظا ومعنى…

2- العجوز:
العجوز هو الشخصية الثانية الرئيسية التي أثرت القصة بالحوار المحكم الذي جسد معاني الحدث القصصي ببراعة…
ويرمز إلى العارف بالأمور نظرا لتجربته الحياتية، وإلى عجزه للتواصل أو الانتقال.. إلا أن عجزه لم يمنعه من حب الوطن حيث لم يبرح المكان.. وعندما حث عليه الكاتب بالانصراف ولى وجهه نحو الاتجاه المعاكس وجلس فوق تراب أرضه مما يوحي لنا بحب الوطن…

* الشخصيات الثانوية
تنقسم الشخصيات الثانوية إلى قسمين: بشرية، وحيوانية:
** البشرية:
1- الفلاحون
الفلاح رمز الإصلاح والأمل، الناس الذين يخدمون وطنهم بكد وحسن النوايا ويرفعون البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا… وبين القادة والفلاح علاقة من الأعلى إلى الأسفل غير قابلة للتغيير…

2- الجنود
الجنود يرمزون إلى القوة التي تحرك عجلات الوطن إذا ما توقفت، أو استعصى عليها السير…

3- البشر
وهو الشريحة من البشر التي عبرت الجسر إلى الضفة الأخرى…
ونجده هذه الشخصيات قد لعبت دورا في أحداث القصة…

** الحيوانية:
4- القطة
ترمز القطة إلى الجهاد لأن لها مخالب وأنياب حادة التي هي بمثابة السلاح، ثم درايتها وقدرتها على الانقضاض على عدوها الفأر بسهولة ويسر؛
5- المعزة
المعزة رمز اللامبالاة لأنها لا تهتم بما يجري حولها، وتحب الحرية، ومع ذلك فهي تفيد بلبنها، وبذلك تكون أيضا رمزا للعطاء…

6- الحمام
الحمام بمثابة السلام، أما العدد أربعة فهو يشير إلى عدد انقسام المجتمع الإسباني…
نجد هذه الشخصات الحيوانية قد أكثر العجوز من الحديث عنها نظرا لأهميتها وقدسيتها…
عنزة ترمز

* التشويق
يتخلل القصة عنصر التشويق الذي يتجلى في الحركة والدراما، ونستطيع رصده من خلال تتبع الكاتب انطلاقا من:
– [جلس رجل عجوز ذو نظارات ذات حافات معدنية بالقرب من جانب الطريق، يرتدي ملابسا متربة جدا.]، فهو وصف لنا عجوزا أشعتا جلس بالقرب من جانب الطريق، فحال العجوز غير المعروف مزرية، وجلس في مكان غير آمن، والناس تعبر الجسر دون أن يهتم به أحد في ظرف حرب واشتباكات وانقسام المجتمع.. لعل هذه الحالة وإن جاءت بوصف بسيط في جمل قصيرة فهي حالة مرثية جدا… وكان هذا التصوير للمجتمع الإسباني…
ثم يصور لنا الكاتب تصعيد الحدث من خلال:
– [فوق الحافة الشديدة الانحدار من الجسر ترنحت العربات التي تجرها الثيران، فراح الجنود للمساعدة بدفع دواليب عجلاتها.]، هنا نقف أما مشهد حيث نفهم من الجسر العائم، أنه جسر عتيق يحتوي على منحدر خطير أين مالت العربات فأسرع الجنود لتحريك دواليب عجلاتها… وكان هذا الرمز قويا جدا بحيث يمثل رمز الجنود أي القوة التي تحرك عجلات الوطن عند الخطر صارت تبعية لعربات تقودها ثيران، أي القيادة صارت بيد الحيوانات، ويقصد الكاتب بها الفاشية والنازية، أي القوميون…
وينتقل بنا الكاتب إلى مشهد رائع ومحزن من خلال:
– [كانت الشاحنات تسير بصعوبة وهي تبتعد عن كل شيء، تاركة من ورائها الفلاحين ضاربين أقدامهم في التراب، مجاهدين في مشيهم؛ إلا أن العجوز جالس هناك دون تحرك.]، هذه القيادة ابتعدت كل البعد عن الفلاحين، رمز الإصلاح والأمل، الذين هم في حالة تعب وإرهاق.. مما يدل على تفكك المجتمع…
والعجوز:
– [كان يبدو أنه مصاب بداء العي فلم يستطع أن يواصل السير أكثر من ذلك.]، هذا انزياح فقط، فعجزه حكمة بالغة؛ فهل يتبع أملا متوغلا في التراب، بعيدا عن القيادة؟ أم يتجه نحو المجهول؟ فكان قراره الجلوس بين نقطة المجهول ونقطة عبور يرى فيها الأمل والإصلاح بعيدين كل البعد عن القيادة، والجنود صاروا تابعين للحيونات…

– [كانت مهمتي عبور الجسر للقيام بدورة استطلاعية، والتأكد إلى أي مدى وصل إليه العدو.
لقد قمت بواجباتي، وعدت فوق الجسر حيث لم أر سوى ملأ قليل من البشر المشاة، وقليل من العربات، لكن العجوز لم يبرح مكانه.
]، كان الكاتب يقوم بتغطية الحرب الأهلية الإسبانية، لأنه كان مراسلا حربيا.. أما العدو فيقصد به الفاشية والنازية من جهة، ومن جهة أخرى “القوميون” لأنهم كانوا مدعمين من طرف هؤلاء… وكان الكاتب يكره الفاشية والنازية كرها شديدا…
وعند انتهاء مهمته لاحظ أن حركة السير بدأت تقل، إلا أن العجوز لم يبرح مكانه.. مما أتاح له الفرصة لاستفساره؛ فأخبره أنه من “سان كارلوس”، مسقط رأسه الذي ذكره بالمفارقة الزمنية بين الماضي والحاضر وجلوسه لانتظار المستقبل، والأوضاع الاجتماعية كذلك بين الماضي والحاضر والمستقبل.. ومن خلال الابتسامة أن الماضي كان أفضل من الحاضر وجلوسه..

وأخبره أنه كان يعتني بحيوانات، إلا أن الكاتب أصيب بالدهشة لأن علامات الراعي أو صاحب ماشية لا تبدو من سمات هذا العجوز الأشعت..
ولم يهدأ للكاتب بال حتى سأل عن أنواع الحيوانات؛ وكانت الإجابة: “حيوانات مختلفة”، مما زاد في عنصر التشويق نكهة…
ثم يحلق بنا الكاتب إلى حدث آخر ليترك عنصر التشويق نارا متأججة في ذاكرة القارئ:
– [كنت أراقب الجسر وريف (إيبرو ديلتا) الذي يبدو كمظهر إفريقي، وأنا أتساءل كم سيمضي من الوقت لنرى العدو؟ وبينما أنا أصغي في تلك الآونة إلى الأصوات الأولى التي قد تشير في أي وقت الى حادث مبهم، أو اشتباك يستدعي الاتصال؛ كان العجوز لا يزال جالسا هناك، فسألنه:]، ينتقل بنا الكاتب إلى ذكر “إيبرو” لذكرنا ويلفت انتباه القارئ إلى معركة “إيبرو” أن انهزمت القوات المسلحة الإسبانية.. وقد شبه معركة “إيبرو” بمظهر إفريقي؛ ففي هذه الفترة بالذات حصل تمرد جيش إفريقيا ضد الجمهورية يومه 18 يوليوز 1936م. كما ساهم في الانتفاضة حيث أصبح الجنرال “فرانسيسكو فرانكو” القائد الأعلى لهذه القوة… وبذلك انتشر الحكم النازي… وفي نفس الفترة كان غزو إيطاليا لإثيوبيا بين سنة 1935م. و1936م. كما غزت ليبيا وانتشر بذلك الحكم الفاشي…
هذه الأشياء كانت تروج في ذاكرة الكاتب حبث كان يتساءل عن زمن الانتظار ليرى فيه هذا العدو إما منتصرا، أو مهزوما.. وكان جد مهتما بكامل الإصغاء ليسمع أي حادث… وكل هذه الفتن كان العجوز لايزال في مكانه كمن يرى العدو أمامه وليس له سلاح، والبحر من ورائه وليس له زورق.. فسأله مرة أخرى عن أنواع الحيونات، فأجابه:
– [كانت هناك ثلاث حيوانات، معزتان، وقطة، وأربعة أزواج من الحمام.]، والمعزة هي رمز الإنسان الذي لا يهتم بما يجري حوله، وقد يعني بهما الذكر والأنثى من المدنيين المحايدين، والمحايد من طبعه يحب الحرية، وهو إنسان معطاء… والقطة تعرف بحسن تدبيرها، وحسن انقضاضها على الفأر.. وبذلك هي ترمز للفئة من الشعب المتمرد أو الثائر في وجه الظلم… والحمام هو رمز السلام، أما العدد أربعة فقد يرمز إلى عدد انقسام المجتمع الإسباني…
وقد ترك كل هذا أي المحايدة، والجهاد، والسلام بأمر من القائد العسكري… والتمس عذر قصف المدفعية؛ علما أن في هذه الآونة كانت المدفعية قليلة ولا تخيف مثل القصف الجوي…
والكاتب لايزال مثل العجوز عند الجسر يراقب النهاية التي ستؤول إليها المعركة.. فيستغل هذا الظرف ليستفسر صاحبه هل لديه عائلة، فيجيبه لا! لأن المجتمع الإسباني تشتت ولم يبق عائلة واحدة.. وكل ما يحمل في ذاكرته هم المحايد الذي غالبا ما يكون أنثى وأطفال وشيوخ ومرضى وضعفاء، والمناضل المجاهد القوي الذي يحسن التدبير، ومصير السلام.. ثم يستثني القطة لقدرتها، وينشغل تفكيره وتصوراته لمصير المحايد والسلام…
ثم يسأله الكاتب عن انتمائه السياسي فينفي أي انتماء نظرا لسنه وقد مشى كثيرا في حياته حتى وصل إلى الجسر الذي رفض أن يعبره، ولا أن يتخذ سبيلا مجهولا..
فيجري حوار بينهما اين يحث الكاتب صاحبه على الانصراف نظرا لخطورة المكان.. وكان العجوز هادئا حكيما حيث صرفه بطريقة ذكية، طمأنه في البداية بالانتظار مهلة لكي ينصرف، ثم لفت تظره على أنه لا يعرف أحدا في “برشلونة”.. ثم صرفه عن حثه ونصيحته بالانصراف عندما نظر إليه نظرة المتعب المرهق ورد له النصيحة ب هذا السؤال البعيد:[- القطة ستكون على أحسن ما يرام، لا داعي للقلق من ناحيتها؛ ولكن البقية؟ وما تظن بشأنها؟]. وهذا قد نسميه بــ [الأسلوب الحكيم]، الذي غالبا ما يكون رد السؤال بسؤال آخر…
ومن هذه الزاوية أدخله في حوار آخر مفاده هل سوف تنجو تلك الحيوانات أم لا في نظر الكاتب؛ فكانت النجاة في محتمل ظنه دون أن يهمل مهته وقد بدى له أن طريق العبور قد خلا تماما من العربات.. ثم سأله عن قفص الحمام هل تركه مفتوحا حتى يستطيع الحمام أن يطير متى سمع دوي المدافع؛ أي أن الحرية ليست مقيدة، ولكنها تنعدم عند الاشتباك والقنابل والرصاص… إلا أن العجوز فضل أن لا يفكر في البقية إذا ما طارت الحرية…
– [- إذا كنت قد استرحت فإني أرغب في الانصراف، فحاول أن تنهض لتسير الآن.]، هنا يريد الكاتب أن ينصرف لأن مهمته قد انتهت.. فيحاول مرة أخرى عبثا على حث العجوز على الانصراف…
– [هب واقفا، ترنح من جانب إلى آخر، ثم جلس فوق التراب في الاتجاه المعاكس. وقال بحزن شديد من غير أن يقصدني: ” كنت أعتني بالحيوانات، كنت فقط أعتني بالحيوانات.]، لكن العجوز موه الكاتب بوقوفه، ثم جلس في الاتجاه المعاكس فوق التراب الذي هو رمز الوطن، وهو يردد كلمة اعتنائه بالحيونات…
– [كان يوم أحد، وقد صادف “عيد الفصح”، ولم يكن في وسعي ما يمكن فعله من أجله، والفاشيون يتقدمون نحو “إيبرو”؛ وكان يوما سماءه مكفهرة، ملبدة بالغيوم، مما جعل طائراتهم لا تستطيع القيام بالطلعات الجوية.]، ويصف لنا الكاتب هذا اليوم بالقيامة في جملة بسيطة وقصيرة “عيد الفصح”، الذي يعتبر عند المسيحيين عيد القيامة ويكون يومه الأحد من 22 مارس إلى 25 أبريل، ويوم الاثنين الموالي له يكون يوم عطلة، وحسب الكنيسة الشرقية يكون بين 4 أبريل و8 ماي من سنة 1900م. إلى سنة 2100م. ويبدأ من أحد القيامة حتى عيد حلول الروح القدس… وكان هذا رمزا قويا حيث تنطلق المعركة التي شبهها بالقيامة، والتي يكون انتهاءها يوم حلول الروح القدس، أي يوم الانتصار الذي هو بمثابة حياة جديدة لها قدسيتها ومناراتها… كما وصف السماء بالمكفهرة، أي حتى السماء كانت غاضبة على هؤلاء القوميين فمنعت طائراتهم من الصعود لقتل الأبرياء… كان هذا سببا التمسه الكاتب لعدم مساعدة العجوز…
– [كانت هذه حقيقة، إلى جانب حقيقة أن القطط تعرف كيف تدبر أمرها، وكان من حسن حظ العجوز كل ما بمقدوره أن يمتلك.]، وينهي الكاتب قصته بأن ما وصفه لنا كان حقيقة لأنه كان شاهد عيان، إلى جانب حقيقة العجوز وما يحمله في حقيبة ذاكرته…

* الصراع
– الصراع الداخلي:
يصور لنا الكاتب هنا الصراع الداخلي في نفسية:
– “العجوز” في جلوسه لوحده، عندما كان يتساءل عن مصير حيوناته، عندما أرغم على الانصراف وتركها، عندما طلب منه الكاتب الانصراف…

– “الكاتب” حين لفت نظره جلوس عجوز على حافة الطريق، مهمته الصعبة، انشغاله باستفسار العجوز وفي نفس الوقت يقوم بمهمته، حيرته في أنواع الحيونات، حيرته في هندام وهيئة العجوز وبعدها عن الرعي وحتى عن امتلاك الغنم، اضطراباته النفسية لمعرفة من سيفوز في المعركة، كرهه الشديد للفاشية والنازية، حالته النفسية عند انتصار القوميين..

– “الفلاحون” الحالة المزرية التي كانوا عليها والقيادة تبتعد عنهم شيئا فشيئا…

– “الجنود” يحاولون دفع عجلات الوطن، لكن القيادة كانت تبتعد عنهم شيئا فشيئا…

– الصراع الخارجي
يصور لنا الكاتب الصراع الخارجي في العربات التي تجرها الثيران وترنحها عند الحافة ومبادرة العساكر في دفع دواليب العجلات، والفلاحين في ضرب أرجلهم في التراب جد مرهقين، وحواره مع العجوز…

* الدافع
يصور لنا الكاتب الدافع من حادثة واحدة انطلقت من الانقلاب العسكري على الشرعية الجمهورية الإسبانية والتي أدت إلى حرب أهلية كان الكاتب مراسلا حربيا فيها.. كما أدت إلى انقسام المجتمع الإسباني وشتاته.. وأعرب عن عدائه الشديد للفاشية والنازية، وبلغ رسالته للشعب الإسباني على لسان العجوز وتصرفاته بطريقة انزياحية رائعة المبنى والمعنى… كل هذا استطاع الكاتب أن يسرده لنا في جمل قصيرة وبسيطة ومكثفة إلا أنها تستدعي من القارئ الإلمام بتاريخ هذه الحقبة…

* التكثيف
نجد الكاتب قد استعمل التكثيف البنائي حيث اعتمد على الحذف والإضمار، والاختزال، والإيجاز حتى أصبحت كل جملة في النص تستدعي التوقف والتأمل كثيرا…

* الأسلوب
استخدم الكاتب لغة بسيطة بأسلوب سلس، حيث اعتمد على تبسيط الجملة، حذف كل ما يراه ليس ضروريا، كما اعتمد على الأشياء والأحداث الملموسة؛ ونراه يروي لنا الأحدات بالاقتصار على الجمل القصيرة، والأفعال القوية، كما نجده يكثر من حروف العطف، خاصة منها “الواو” [and]، وبالتالي فأسلوبه خالي تماما من الزخرفة والنعوت، والكلمات المجلجلة.. مما جعل القراء آنذاك ينكبون على قراءة قصصه.. وكان العامل الأساسي في هذا الأسلوب كونه صحفيا يتمبز باختزال الكلمات وإيصال المعلومة للمتلقي في أقصر تعبير ممكن وواضح جدا، لا يلبسه الغموض من أي جانب.. كما أن التقاءه في فرنسا بنخبة من الأدباء الأمريكيين والفرنسيين.. إلا أنه لم ينج من الانتقادات فيما يخص أسلوبه الذي خرج عن المألوف آنذاك… كما نجده يصف أبطاله بالقوة والهدوء، ويتحملون المصائب دون شكوى…

* المفارقة
نلاحظ أنه قد استخدم المفارقة التركيبية حيث وظف المبلاغة المعكوسة في شخص العجوز الذي أبى أن يبرح المكان، اي لم يرد أن يتبع قيادة لقبها بالثيران، أي الحيونات، كما أبى أن يتجه نحو مصير مجهول، ففضل المكوث في مكانه إلى حين ينجلي الليل..
ثم نجده وظف مفارقة الحدث بحيث جعل الجسر زمكنة الأحداث، ثم مفارقة الشخصية التي وصف بها العجوز، والفلاحين والجنود والعربات التي ابتعدت عنهما… وكانت هذه المفارقات من أجل التعدد الدلالي والتناص…
وكانت المفارقة في النهاية بين الكاتب والعجوز، وبين الفلاحين والجنود والعربات، وبين بداية الحرب ونهاية الحرب…

* التلميح
نجد الكاتب قد لمح إلى “إيبرو”، ليلتجأ القارئ إلى التناص ويفهم منه معركة “إيبرو”.. وشبه هذه المدينة بمظهر إفريقي كذلك ليلتجأ القارئ إلى التناص فيدرك استعمار النازية والفاشية للدول الإفريقية كالمغرب، وليبيا، وإثيوبيا… كما لمح إلى “أحد الفصح”، ليبحث القارئ عن مدلول هذا اليوم…

* الرمزية
نجد الكاتب قد وظف الرمزية العالمية مثل المعزة رمز اللامبالاة، القطة رمز لحسن التدبير، الحمام رمز السلام، الفلاح رمز الإصلاح والأمل، الجنود رمز القوة والدفاع عن الوطن، العربات رمز القيادة، التراب رمز الوطن، الجسر رمز التواصل والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، العجوز رمز المعرفة والثبات والهدوء والحكمة، وكذلك هو رمز للعجز…

* الخيال
نلاحظ كيف استطاع الكاتب أن يطور واقعا تاريخيا إلى آليات بسيطة جدا وحاك نسيجه الخيالي ببراعة الرمزية والتلميح والوصف…

* الوصف
نجد الكاتب قد وظف الوصف الدقيق عندما وصف هيئة العجوز، والوصف المكثف مثل وصف للجسر: “جسر عائم”.. ما جعل حبكة الأحداث تنسج بطريقة رائعة…

* السخرية
نلاحظ أن السخرية في النص تتجلى في المفارقة وازدواجية المعنى فيما يخص العجوز.. وكذلك ما هو فوق النص…

ويتجلى الإيجاز والحذف والإضمار والاخنزال بصورة واضحة في مجمل النص…

بقلم: محمد معمري

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.