لا يمكننا فهم ظاهرة الإغراءات المادية التي كان النظام يُغْدِقها على الجيش بما ينعكس على البدو منهم خاصة بمزايا لم يكونوا متعودين عليها في بيئة حياتهم الصحراوية القاسية، بدون الرجوع قليلا إلى الوراء في عملية تنقيبٍ تكوينيَّة تكشفُ لنا عن حقيقة أن الجيش الأردني لغاية أيلول/سبتمبر 1970،
الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية الأردنية
“دراسة في حلقات”
“جزء من بحث قُدِّمَ لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية”
أسامة عكنان
عمان – الأردن
الأردن وطن وليس مزرعة خراف
والأردنيون شعب وليسوا قطيع ماشية
والأردني مواطن يملك وطنا، وليس عابر سبيل يستجدي كسرة خبز
وحكام الأردن خدم وموظفون عند شعبهم، وليسوا سادة عليه أو مستعبدين له
فمن فهم فليعمل بما فهم، ومن لم يفهم فليذهب إلى الجحيم
قراءةٌ في دور الأردن التاريخي كوطن مُهِمٍّ يلد رجالاً أهم، ورفضُ دورِه الوظيفي كمزرعة تسمِّن الخراف لخلق فضاءٍ آمنٍ لأعداء الأمة
الحلقة العاشرة
تابع تحليل مظاهر التعبئة التي قام النظام الأردني قبل أحداث أيلول
ثانيا.. الإغراءات المادية..
لا يمكننا فهم ظاهرة الإغراءات المادية التي كان النظام يُغْدِقها على الجيش بما ينعكس على البدو منهم خاصة بمزايا لم يكونوا متعودين عليها في بيئة حياتهم الصحراوية القاسية، بدون الرجوع قليلا إلى الوراء في عملية تنقيبٍ تكوينيَّة تكشفُ لنا عن حقيقة أن الجيش الأردني لغاية أيلول/سبتمبر 1970، كان يمثل في معظمه – وتحديدا الشريحة البدوية منه – مجموعة من “المرتزقة” بكل ما لهذه الكلمة من معنى. مرتزقة لا يهمهم وطن ولا تعنيهم هوية، بقدر ما يَهُمُّهم مصدرُ إعالتهم وتمويلهم فقط. “ففي تشرين الثاني/نوفمبر 1930، وصل الكابتن “جون غلوب” وشرع في تكوين “القوة الصحراوية النقالة” لمواجهة ضغط القبائل. فكان ذلك حدثا هاما ترك أثره على التطوّر اللاحق للجيش الأردني. فقد خُطِّطَ لهذه القوة أن تكونَ عنصرا جديدا بدويا محضا في تركيبته، وأن يجريَ التجنيد لها من أبناء العشائر الرَّحالَة وشبه الرحالة. كما أُريدَ لها أن تكون أيضا قوة ضاربة ذات قدرة على العمل في مناطق الصحراء الشاسعة. وقد نجح “غلوب” في السنوات العشر التالية في تجنيد البدو وفرض الهدوء عليهم باتباعه سياسةً اقترنت فيها الحصافة الدبلوماسية باستعمال القوة العسكرية. إن المهمة التي وقعت على عاتق الجيش الأردني منذ البداية كانت تأمين سلطة الأمير “عبد الله” ومن ثم حفيده “حسين” على البلاد، والوقوف في وجه أيِّ محاولةٍ لتحدي هذه السلطة، وحماية العائلة المالكة من أيِّ أخطارٍ داخلية تتهدَّدُها. أيْ أن الجيش الأردني أُنْشِئَ كقوةٍ قمعية”(1).
إن “جون غلوب” خلال فترة عمله على إنشاء هذا الجيش وتكوينه، مُرَكِّزاً على جعل نواته وعموده الفقري من البدو، كان – ونظرا لأسبابٍ موضوعية تتناسبُ وطبيعة المُهِمات التي ستوكَلُ باستمرار إلى هذا الجيش – حريصا على تَجَنُّبِ إحداث أيِّ تغييرات جوهرية في بنية المجتمع البدوي، حتى وهو ينقله إلى حياة الجيش والاستقرار النسبية. لقد حاول “غلوب” استخدام القِيَم القبلية البدوية ذاتها، ولكن بصورة عقلانية لخدمة الغرض البعيد المدى من تجنيد البدو وتجييشهم. “فهو قد استفاد من سيطرة شيوخ القبائل وأبنائهم على أفراد القبائل، فجعل هؤلاء يوطدون الأمن دون المساس بالعرف البدوي، بل طبقا له. وعمد إلى القضاء على الغزو والغارات، بالقضاء على الحاجة الاقتصادية التي تدفعُ لهما، وذلك بتأمين موردٍ مالي دائم للبدو عبر الرواتب التي تُدْفَعُ لمن يخدمون في الجيش منهم، والهبات المالية التي تُدْفَع لشيوخ العشائر. واستغلَّ “غلوب” تَرَسُّخَ قِيَم المحارب في البدوي لخلق الانضباط والطاعة في الجيش بالتدريب الدائم. وجعل تمارين التدريب أساسا للترقية والترفيع. كما أشبع الغطرسة البدوية بإسباغ الامتيازات المالية والمعنوية على الجيش، وبإلباس البدوي ألبسةً مزركشة تُبْهِرُ الأنظارَ خاصة في المجتمع البدوي”(2).
إلا أن هناك قضية هامة جديرة بالتمحيص والتدقيق فيما يخص التركيبة البدوية للجيش الأردني، ألا وهي أن العمودَ الفقري والنواة الفاعلة فيه كانت بدوية في البدايات الأولى من عمر هذا الجيش، ومع ذلك فقد بقيت الصبغة البدوية أيضا هي العمود الفقري والنواة الفاعلة فيه حتى عام 1970. فكيف يمكن لذلك أن يتحقَّقَ على أرض الواقع إذا علمنا أن الزيادةَ في تعداد البدو الأردنيين في تلك الفترة لا يمكنها بأيِّ حالٍ أن تغطي الزيادة الحاصلة في النواة الفاعلة وفي القوة الضاربة في الجيش؟ “فالجيش الأردني زاد عدديا من “6,000” رجل عام 1948، إلى قرابة “62,000” رجل عام 1970″(3).
إن التدقيق في هذه المسألة سيكشف لنا عن حقيقة الأمر. “فمجموع بدو الضفة الشرقية وهم “بدو الألوية + بدو البادية” حتى عام 1961ـ وهو تاريخ إجراء أول تعداد للسكان والمساكن في الأردن، كان قد بلغ “80,487” نسمة”(4). ولكي نعرف عدد البدو عام 1969، فما علينا إلا أن نقومَ بتطبيق الطريقة التي اعتمدتها النشرة الإحصائية العامة الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة بعمان عام 1969 في عددها العشرين، “والتي تقدر عدد السكان في كلِّ محافظة انطلاقا من معيارية معدلات الوفاة والتوالد”(5). وإذا انطلقنا من هذه القاعدة وقمنا بحساب عدد البدو باستخدام معدلات الوفاة والتوالد لمحافظة “معان”، أي باعتماد معدلات الزيادة السكانية لتلك المحافظة، لأمكننا الحصول على نتيجة قريبة جدا من الواقع إن لم تكن مطابقة له، وهذا المنطلق محقٌّ ومنطقي للغاية لسببين، “أولهما ارتفاع نسبة بدو الجنوب حيث محافظة “معان” إلى مجموع عدد البدو، وثانيهما أن هذا المعدل هو أخفض معدل بين المحافظات، ومن الطبيعي أن يُحْسَبَ أخفضُ المعدلات معدلا لنمو حجم البدو في المملكة، وذلك بسبب ارتفاع نسبة وفيات الأطفال بينهم”(6). وباستخدام هذه المعطيات نتوصل إلى أن عدد البدو الأردنيين “قُدِّرَ عام 1969 بـ “96,000 نسمة”(7). ونؤكد على أن هذا الرقم هو أكثر دقة من كلا الرقمين المعتمدين لدى كل من “منظمة الأغذية والزراعة الدولية” والمقدَّر بـ 80,000 نسمة”، و”جامعة الدول العربية” والمُقَدَّر بـ 120,000 نسمة”(8)، حيث أنه يمثل معدلا وسطا للرقمين تقريبا. هذا ولقد بين إحصاء عام 1961 “أن نسبة الذكور من سن 15 إلى سن 50 بما فيهم الذكور الموجودين وقت الإحصاء في ثكنات الجيش تبلغ “21,5%” من مجموع السكان البدو”(9).
إن مجمل هذه النتائج المُسْتَقاة من مصادر إحصائية دقيقة، تكشف لنا عن سِرِّ استمرار التركيبة البَدَوِيَّة في الجيش الأردني حتى مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي، عندما فُرِضَت على الجيش معادلات جديدة قضت بإعادة النظر في هذه التركيبة، ليَتِمَّ البدءُ برفده بكوادر تِقَنِيَّة رفيعة، ما زاد من نسبة غير البدو فيه من سكان القرى والمدن. إن نسبة الـ “21,5%” التي ذكرناها، تقابلُ قُرابةَ العشرين ألفا من إجمالي تعداد البدو لعام 1969 كما تحدَّدَ معنا سابقا. ومعنى ذلك حتى مع افتراض أن كلَّ الرجال البدو الأردنيين الذين كانوا في سِنٍّ يُخَوِّلُهم الالتحاقَ بالجيش، وهو سن “15 – 50″، كانوا ملتحقين به فعليا – مع أن هذا أمرٌ مبالغٌ فيه ومستبعدٌ جدا – لكان عدد البدو الأردنيين في الجيش في أقصى التوقُّعات هو “20,000” جندي. فما هو السر إذن في بَدَوِيَّة الغالبية العظمى من الأربعين ألف جندي المتبقين من مجمل التعداد العام للجيش الأردني عام 1970 كما مرَّ معنا فيما مضى؟
إن الجيش الأردني الذي تجاوز تعداده في عام 1970 الستين ألف جندي، لا يضم في أقصى التوقعات سوى “20,000” جندي من أصل بدوي أردني، ومع ذلك فإن الغالبية العظمي من الأربعين ألفا الباقين هي بدوية قلبا وقالبا، ولا يجادل في ذلك أحدٌ أيا كان. وليس من الصعب إثبات ذلك على ضوء الصدامات المتكررة بين الثورة والنظام على مدى أكثر من ثلاث سنوات، وملاحظة مدى حضور العنصر البدوي في الجيش الأردني خلالها، حتى وهذا الأخير يستنفر كلَّ طاقاته ويحشد كلَّ إمكاناته التي يُفْتَرَض أنها تكشف عن طبيعة تركيبته الحقيقية. فأين يكمن السِّرُّ يا ترى؟!
إن النظام الأردني كان يُجَنِّدُ باستمرار بدوا من “السعودية” و”العراق” و”سوريا”، علاوة على بدوِ الضفة الشرقية لنهر الأردن، وهو الأمر الذي أبقى على الطابع العام للجيش بَدَوِيا رغم قِلَّةِ البَدْوِ الأردنيين فيه. ولما كان البدوي السعودي والعراقي والسوري، وبحكم ترحاله الذي قاده إلى أن يصبحَ جنديا في جيشٍ أردني، خلافا للبدوي الأردني – الذي يمكن فهم أن ارتباطَه بأرضٍ هي الأرض الأردنية قد يكون سببا لخلق بعض الولاءات الحقيقية لديه – يصعب أن يدين بالولاء لأرض أردنية أو لوطن أردني، فلم يكن تجنيد البدو من السعودية والعراق وسوريا بذي أهمية على صعيد ضمان الولاء الوجداني الحقيقي لفكرة الوطن، مادام هذا الولاء قد خُلِقَ لهم بعد تجنيدهم للعمل كقتلة مأجورين لدى نظامٍ أطعمَهم من جوع، وكساهم من عُرْي، وسقاهم من عطش، وأظْعَنَهم من طولِ ترحال.
وهذه النتيجة ذاتُها توصَّلَ إليها البروفيسور “فاتيكيوتس” الأستاذ في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، في دراسة قيِّمَة ومعمَّقة له عن الجيش الأردني بين العامين 1921 و1957. فهو يقول: “إن رجال القبائل من جنوب الأردن وصحارى سوريا والعراق الشمالية الشرقية، والمناطق الواقعة على الحدود الشرقية مع المملكة العربية السعودية، يستمرون في التَّدَفُّقِ على الفيلق للانخراط فيه. إن هؤلاء الجنود يشكلون أساسا مجموعة من المرتزقة”(10).
إذن، فمعظم أفراد الجيش الأردني عَشِيَّةَ مجزرة أيلول – ولأنهم ينحدرون من أصولٍ بدوية مختلفة لا تدين بالولاء لأرضٍ مُحَدَّدَةٍ أو لهوية بعينها – كانوا وبدون تحفظات مجموعةً من المرتزقة بكل ما لهذه الكلمة من معنى. الأمر الذي جعل لربطهم بعجلة النظام اقتصاديا عبر إغداق الإغراءات المادية عليهم، دلالةً خاصةً في حياتهم، أسهمت في زيادة ولائهم للنظام لا بصفته هو، بل بصفته المعيل الاقتصادي بالدرجة الأولى، والذي بدونه سيعودون حفاةً عراةً رُحَّلا يقتاتون بالسلب والنهب، ويتغازَوْن لأجل بئر ماء أو قطيع ماشية، كما كانوا من قبل. وقد تجّلَّت سياسة الإغراءات المادية إبان الأزمات بين الثورة والنظام، في العديد من الإجراءات التي كان يَتَّخِذُها الأخير من حين لآخر، تتَّضِح أكثر كلما كانت حِدَّة الأزمة أكثر وضوحا.
“فقد توالت زيادات رواتب الجيش بتوالي الزمات بين المقاومة والنظام، فارتفع راتب الجندي من “10” دنانير قبل حرب حزيران إلى “18” دينارا قبل احداث أيلول عام 1970. وفي 5/أغسطس/1970، عُدِّلَ قانون التقاعد العسكري بحيث يُمْنَحُ الضباط وضباط الصَّف والأفراد الذين لم يشملهم قانون التقاعد العسكري راتب شهر عن كلِّ سنة خدمة. ويفيد عددٌ من التقارير أن الضباط الذين كانوا يبدون عداءً نشِطا للعمل الفدائي رُفِّعوا إلى رُتَبٍ أعلى في الفترة التي سبقت أحداثَ أيلول. كما أن الجنودَ الذين كانوا يبلون بلاءً حسنا في الاشتباكات مع المقاومة، كانوا يُرَفَّعون ويتلقَّوْن مبالغ من المال. كذلك كانت الأموال تُغْدَقُ على أفراد القوات الخاصة”(11).
ثالثا.. الإجراءات التنظيمية..
انصَبَّت الإجراءات التنظيمية التي كان يتَّبِعها النظام باتجاه الجيش، وقد تَجَلَّى ذلك فيما كان ينتهِجُه داخل صفوفه من عملياتِ تطهيرٍ وإعادةٍ مستمرة لتنظيم وحداته وتشكيلاته الميدانية والمقاتلة، خاصة عَقِبَ الأزمات والصدامات مع المقاومة. ناهيك عن تلك الصدامات والاشتباكات الجزئية التي كان النظام يَفْتَعِلُها من حينٍ لآخر، سعيا نحو كشف كل متعاطفٍ مع الثورة ومع العمل الفدائي لعزله وتطهير الجيش منه. هذا فضلا عن لجوء النظام إلى إحداثِ تشكيلاتٍ عسكرية ذات خصوصية، للقيام بمهام خاصة جدا، إما خلفَ الخطوط، أو لغايات بلبلة الصفوف في اللحظات الحرجة، أو لغايات بثِّ الرعب في أوساط السكان.. إلخ. “فقد جرت عدة حملات من التنقلات والتطهيرات ما بين أزمة 10/2 وأحداث أيلول، كما أن النظام قام بتشكيلِ قواتٍ أطلق عليها اسم “القوات الخاصة” أو “الصاعقة الأردنية”، وقد انْتُقِيَت عناصر هذه القوات من الجيش ومن خارجه بدقة وعناية، وبعد التأكُّدِ من إخلاصها وإمكانية تعبئتها بالحقد ضد المقاومة، ثمَّ دُرِّبَت تدريبا جيدا على أعمال الكوماندوس ومُنِحَت امتيازاتٍ ماديةً متعددة. ولم تُعْطَ هذه القوات واجباتٍ عسكريةً، بل أُنيطَ بها منذ البداية القيام بواجبات “داخلية”، فوُزِّعَت على المدن وأُعْطِيَت مهمة التَّحَرُّش بالفدائيين وافتعال الصدامات معهم وترويع السكان وبثِّ الذُّعر بين المواطنين”.(12).
من جانبٍ آخر ولغاياتِ عرقلة العمل الفدائي في الأرض المحتلة للتأثير على معنويات الجماهير المرتبطة بالمقاومة من خلال فعلها العسكري ضد العدو، “عمد النظام إلى وضعِ ضباطِ حاقدين على رأس القوات الموجودة على خط النار مباشرة “سرايا الحجاب”، وأعطيت تلك القوات تعليماتٍ صارمةً لعرقلة العمليات الفدائية ضد العدو ومنع الفدائيين من إطلاق القذائف على اختلاف أنواعها من الضفة الشرقية لنهر الأردن، فتتعرقل بذلك ترتيبات حماية الوحدات الفدائية التي تتوغل في أرض العدو. كما حُدِّدَت مناطق معينة لعبور الفدائيين، وأصبحت قوات الجيش في المناطق الأخرى تمنع عبورَهم. وكان المقصود من ذلك كلِّه عرقلة العمل الفدائي عسكريا، وبالتالي إِبْهاتُ صورتِه في أذهان الجماهير، فالعمل الفدائي مرتبط في ذهن الجماهير بالفعالية العسكرية ضد إسرائيل، بل إن العمل الفدائي طرح نفسه للجماهير على هذا الأساس”(13).
رابعا.. المؤتمرات العشائرية..
يمكننا القول أن “المؤتمرات العشائرية” هي استمرار طبيعي لحملة التعبئة المضادة للمقاومة في صفوف “العشائر البدوية الشرق أردنية” بهدف استكمال حلقات التحريض والدعاية ضد الثورة في الأوساط الأردنية البدوية. ولقد استخدم النظام في هذه المؤتمرات الأساليب الدعائية والتحريضية التي اتَّبَعَها في صفوف الجيش نفسِها. “وقد استهدفت هذه المؤتمرات إعداد أفراد القبائل نفسيا ضد العمل الفدائي. وكان يُحَرِّك هذه المؤتمرات ويلعبُ الدورَ القيادي فيها، الضباطُ المتقاعدون وشيوخُ العشائر وضباطُ الجيش وعملاءُ السلطة من كبار الموظفين البدو”(14).
ولعل من أبرز المؤتمرات العشائرية التي رتَّبَ لها النظام وأسهمت في إحداثِ شرخٍ كبير بين أبناء العشائر والثورة وتعبئتهم ضدها، المؤتمر الذي عُقِدَ “في الأيام القليلة التي سبقت أزمة حزيران 1970، في بلدة “سحاب”، وبحثَ حالة الأمن في البلاد”(15). وقد تَجَلَّى الموقف المعادي والمضاد للعمل الفدائي في قرارات هذا المؤتمر ومطالبه، “فقد ذكر أحد شيوخ “سحاب” أن عدد المجتمعين يُقَدَّر بأكثر من 1,000 شخص، وأن المؤتمر قرَّرَ مطالبةَ الحكومة بوضعِ حدٍّ للأعمال التخريبية، وتأييد العمل الفدائي الشريف، ومطالبة المنظمات بوضع حدٍّ للتصرفات السيئة والمسيئة”(16). وفي مبادرةٍ عشائريةٍ تُعْتَبَر سابقةً خطيرة وفريدة من نوعها، “صدرت عن اجتماعٍ عشائري عُقِدَ في صويلح في “2/8/1970” الدعوة إلى مؤتمر أردني عام “مؤتمر عام للعشائر” بقصد وضع الحلول الكفيلة بالتصدي لمؤامرة سيطرة الثورة على الضفتين الشرقية والغربية التي يُعَدُّ لها في الخفاء من قِبَلِ كلِّ المنظمات”(17).
2 – الحملة داخل الريف الأردني..
عندما نتحدث عن الريف الأردني فنحن بصدد الحديث عن الفلاحين الأردنيين، والحديث عن هؤلاء الفلاحين لمعرفة كيف استطاع النظام تعبِئَتَهم ضد الثورة، يتطلبُ الحديثَ ابتداءً عن طبيعة حياة الفلاح في الأردن، وعن طبيعة الأسلوب الذي تَتَكَوَّن به مشاعرُه وتتولد على ضوئه سلوكاتُه وردودُ فعله المختلفة. فالريف الأردني لا يختلف عن البادية من حيث سيادةِ الحياة القبلية والعشائرية فيه، وإن كانت طبيعة هذه السِّيادَة تختلف عند الفلاح عنها عند البدوي، بسبب خضوع الفلاح لحياةٍ مستقرة مرتبطة بالأرض، خلافا للبدوي الذي تقوم حياتُه على التَّنَقُّلِ والتِّرْحالِ المستمرين، ما يجعله يفقد حياةَ الاستقرار التي ينشأ عنها مبدأ الارتباط العميق بالأرض، مع ما ينبثق عن ذلك المبدإ من ولاءاتٍ بشأنها. ويمكننا القول أن حياةَ الفلاح الأردني تَتَّسم بالسِّمَتَين التاليتين:
1 – المحافظةُ والحرصُ على عدم تغيير نمط الحياة بسهولة، ما يُؤَثِّرُ على وتائر التَّغَيُّر الاجتماعي في الوسط الفَلاَّحي، فيجعلها بطيئة للغاية. وهو الأمر الذي يجعل من الفلاح الأردني إنسانا نافرا بطبعه من دخول المُتَغِّيرات السريعة وغير المضبوطة أو غير الضرورية، أو تلك المُفْتَقِرَة إلى التبرير المقنع بمنطقه البسيط ذي النزعة الغيبية بالدرجة الأولى، على حياته. وهذا هو شأن الفلاح في الأردن وفي غير الأردن بوجه عام، مع اختلافات من مكان إلى آخر يُسَبِّبُها نوع الثقافة السائدة، وطبيعة العلاقات الاقتصادية التي تربطُ القرية بالمدينة، ومستوى الاعتماد على التقنية في الزراعة، ومدى هيمنة كلٍّ من النزعة الدينية ومؤسسة الأسرة على الحياة المجتمعية(18).. إلخ.
2 – استتارُ ردِّ الفعل، والتَّحَفُّظُ في إبداء المشاعر، حيث أنه في الوقت الذي تظهرُ ردود فعل البدوي سريعة وفَجَّةً وعمليَّةً وظاهرة، فنراه يجمعُ ممتلكاتِه وحاجاتِه فارا للنجاة بها وبنفسه عند تَعَرُّضِه لأيِّ خطرٍ يتهدَّدُه، بحكم عدم ارتباطه بالأرض، بسبب عدم وجود عنصر الزراعة في حياته، فإننا نرى الفلاح وبسبب ارتباطه بالأرض واستقراره فيها وقيام حياته كلِّها على هذا الاستقرار وذلك الارتباط، يتجنَّبُ التعبيرَ عن نفوره وعدائه للظواهر الدخيلة عليه، والمصحوبة بموجات تَغَيُّر عالية لم تستوعبها قدرته على التعاطي مع المُستجدات والمُتغيرات، كي يَتَجَنَّبَ بالتالي مخاطرَ المواجهة غير المأمونة مع هذا المستجد غير المقدور على استيعابه، فينحني أمامه مُخفيا شعورَه الحقيقي الذي ليس سهلا أن يبديَه، إلا إذا كان في مأمنٍ من النتائج والعواقب السلبية الضارة به. وهذا هو ما فعله الفلاح الأردني على وجه التحديد في علاقته بالثورة(19).
لقد كان دخولُ العنصر الفدائي إلى حياة الفلاح الأردني فجأة وبدون مقدمات، مع ما رافق هذا الدخول من إقامةٍ للقواعد قرب القرى، وما نتج عنها من علاقاتٍ اجتماعية مختلفة، لقد كان ذلك – وبالصورة التي تَمَّت – أمرا فوق الطاقة الاحتمالية لاستيعاب الفلاح الأردني لمعدلات التَّغَيُّر الحاصلة في حياته الاجتماعية عادة. ولكن ولأن هذا الجديد دخلَ حياةَ الفلاح باندفاعٍ أَرْهَبَه وأشعره – من خلال قُوَّتِه وعمومه وسرعة انتشاره – بالخطر على بُنْيَةِ قريته التي يُحِسُّ في قلبها بالأمان على حاضره ومستقبله، فقد جعله ذلك – بحسب طبيعته السايكولوجية التي تحدثنا عنها سابقا – لا يُظْهِر عداءً لهذه الظاهرة الغريبة الجديدة المندفعة نحوه، مُلامسةً أخصَّ خصوصيات تقاليده ومعتقداته.
وهذا ما ظَنَّتْه الثورة مساندةً، جاهلةً طبيعةَ الفلاح أو متجاهلة إياها، بسبب عدم انتهاجها لمنهج البحث “السوسيولوجي العلمي” في إقامة العلاقات المجتمعية، وفي اختراق التَّجمعات السكانية، وفي محاولات الحضور في صفوف مختلف الشرائح والفئات الشعبية. فانعكسَ ذلك في أرض الواقع على شكلِ ضحالةٍ في مستوى خططِ الانتشار والتَّمَدُّد الثوريين في ساحةٍ حركيةٍ معقَّدة وحساسةٍ ومتوجِّسَةٍ ومتربِّصَةٍ، كساحةِ الريف الأردني التي كان يُفْتَرَض تحويلُها جذريا إلى قاعدةٍ خلفية آمنة لحماية ظهر المقاومة، ولتموين الثورة بالطاقات البشرية المخلصة، وبالإمدادات اللوجيستية على أنواعها، فضلا عن الإبقاء عليها مخزنا إستراتيجيا لكل ذلك، بعيدا عن أن تطالَه أيدي النظام.
ولكن ليس بالضرورة أن يكون الفلاح معاديا لهذا الوافد الجديد المفاجئ الذي يَفْرِض عليه وعلى حياته وعلى مجتمعه وعلى تفكيره بالتالي متغيِّراتِ سريعةً ونوعيةً، بل إن ذلك رهنٌ بأسلوب هذا الجديد في التعاطي والتعامل مع ذلك الفلاح، ومع كلٍّ من عقله وطرائق تفكيره من جهة، ومع عاداته ومنشإ سلوكاته من جهة أخرى، وذلك وفقَ منطقٍ ثوري علمي يعرف كيف يُنْشِئُ منظوماتِ تعاملِه وتعاطيه مع الآخر الذي هو في هذه الحالة “الفلاح الأردني” بما يتناسب وطبيعتَه ومُكَوِّناتِه السايكولوجية والذهنية، وبما لا يتعارض بشكلٍ فجٍّ مع مرجعياته الدينية والمجتمعية.
فالفلاحون لم يتخلَّفوا في بلدانٍ كثيرة عن أن يكونوا الشرارة والوقود في ثوراتٍ اندلعت ضد أنظمة متخلفة وإقطاعية، وحتى في ثورات تَحَرُّرِيَّةٍ وطنية، عندما وجدوا الطليعة الواعية والواعدة التي عرفت كيف تسوسهم وتقودهم دون أيِّ استفزاز لمُكَوِّناتِهم الثقافية الراسخة والمقدسة. وتُعتبر ثورة الصين أوضح دليل على ذلك، رغم أن الفكرَ الذي قاد الثورة هناك هو الفكر الشيوعي، بكل ما ينطوي عليه هذا الفكر من نزوع إلى التناقض مع المحافظة التي كانت بكل تأكيد طابعا ملازما للفلاح الصيني الذي كان ولا يزال فلاحا مرتبطا بمفاهيم دينية لاهوتية تنزع به إلى المحافظة وإلى الغيبية. ولا يفوتنا أن نُذَكِّرَ في هذا المقام بأن ثورة “عز الدين القسام” في عام 1936، وتلك التي قادها “عبد القادر الحسيني” تحت راية تنظيم “الجهاد المقدس” في الأعوام “1935 – 1939″، هما ثورتان كانت قواعدهما الواسعة من الفلاحين الفلسطينيين.
إن الذي جعل الثورة تفقدُ ارتباطَها بالقاعدة الجماهيرية في “الريف الأردني” رغم عدم اتساع هذه القاعدة كاتساع قاعدتي المدن والمخيمات، إنما هو عدم حُسْنِ إدارتها لميكانيزمات العلاقة التي كان يُفترض أن تربطَ الفلاح الأردني بكل بساطته وطيبته وسجِيَّتِه، وبكل محافظته ونزعته الدينية الغيبية – التي ربما كانت تَتَّسِم بالسلبية أحيانا – بالثورة وبالفكر الثوري، كفكرٍ جماهيري طليعي، كان عليه كي يُعَبِّرَ عن كفاءة في المبادرة، أن يتمكن من إذابة كل الفئات الجماهيرية ضد عدوٍّ مشتركٍ واحد هو النظام بصفته سلطة رجعية وظيفِيَّة قُطْرِيَّة تعمل على استخدام الأردن أرضا وهوية وشعبا لتمرير العلاقات الإمبريالية والصهيونية في الإقليم العربي المشرقي.
وهو ما فشلت فيه الثورة فشلا ذريعا، مُدَشِّنَةً مسيرةَ فشلها بذلك الانحدار الأيديولوجي الذي انزلقت إليه، عندما أعجبتها فكرةُ الانسلاخ عن أردنيتها، والالتفاف حول “هوية فلسطينية” رُسِمَت لها بذكاء كافةُ مُكَوِّنات قداستِها، وأُسِّسَت لها بدهاء مختلفُ مساراتِ ومعابرِ الانزلاق المدمِّر إليها، كي تكونَ الجسرَ الذي تعبرُ من فوقِه “الهوية القطرية الأردنية” راجعةً لدنياها من برزخها بأسوأ ما فيها، بعد أن كان الشعب الأردني قد نحرها بتفجير ثورته الكبيرة في منتصف الستينيات من القرن الماضي، مُحَوِّلا هويتَه الأردنية التي أُريدَ لها أن تكون وظيفِيَّة قُطْرِيَّة تخدم كل مشاريع التجزئة والتَّبَعِيَّة، إلى هوية مُوَحِّدَةٍ وثائرة تعمل في الاتجاه المضاد كلِّيَّة لمشروع “سايكس بيكو” الوظيفي في المنطقة. الأمر الذي جعل النظامَ ينجح في سحبِ البُسُطِ من تحت أقدام الثورة، عندما استطاع وبفاعلية كبيرة تعبئةَ الفلاحين الأردنيين ضدها وضدَّ مشروعِها، ممارسا في أوساطهم عديدَ الإجراءات التي جعلت منهم بالفعل قوةً ضاربة وفاعلة بالشكل المرسوم لها عندما تطلبتهم المواجهة الحاسمة في أيلول.
إضافة إلى ذلك أن بعض المنظمات الفدائية “لم تحاول إقامة علاقاتٍ سياسية مع سكان القرى، بل اقتصرت علاقاتُها بها في معظم الأحيان على الاستعلاء المُنَفِّرِ والتَّباهي بالقوة، أما البعض الآخر من منظمات المقاومة فقد حاول تسييس القرى، لكنَّ محاولاتِه كانت فجَّة لم تعتمد على معرفة دقيقة بالمجتمع الفَلاَّحي ولا بمشكلاتِه، سواءٌ منها الاقتصادية أو الاجتماعية، كما أنها تَحَدَّت مباشرةً المشاعر الدينية للفلاحين، تلك المشاعر الراسخة التي يعود ثباتُها إلى اعتماد الاقتصاد الفَلاَّحي على عاملٍ ليس خاضعا للسيطرة الإنسانية “المطر”، بل هو في يد الله”(20).
خلاصة القول إذن أن مواقف منظمات المقاومة إزاء المجتمع الفَلاَّحي الأردني، والمنبثقة عن عدم تبلور رؤية ثورية علمية خاصة قادرة على وضعِ الأسُسِ الملائمة لدمجهم في الحركة الثورية تكون متناسبةً مع واقعهم ومنطلقة من بيئتهم، كان وراء انفراد النظام بهم، ما مَكَّنَه في وقت قصير من تعبئتهم فيما سُمِّيَ بالجيش الشعبي، “وهو قوة شبه نظامية أفرادها من سكان القرى المسلحين بالبنادق وبالبنادق نصف الآلية وبالمدافع الرشاشة المتوسطة والصغيرة وبالقنابل اليدوية. وقد وردت أوَّل إشارة إلى تكوين الجيش الشعبي بعد أزمة شباط/فبراير 1968 بين المقاومة والنظام الأردني. فقد أعلن “بهجت التلهوني” رئيس الوزراء في “20/02/1968” عن عزم الحكومة على إنشاء مقاومة شعبية، ولكنها ظلت ذات وجود شكلي حتى بُدِئَ بتنظيمها وتدريبها وإعدادها وتسليحها في منتصف آب/أغسطس 1969″(21).
لقد بدا واضحا أن النظامَ يُطَوِّق الثورةَ ويخترقُها بخطةٍ محكمةٍ، أيديولوجيا وعسكريا وجماهيريا، في البادية والريف، بل وفي الأيديولوجية الثوريةِ ذاتِها، بالإشاعة والدعاية والتحريض، وبالمجابهات الاختبارية والتطهيرية، وبالتجسيد التدريجي المدروس للهوية الفلسطينية قبل أيِّ شيءٍ آخر، بل ولكي يصبح أيُّ شيءٍ آخر مفيدا ونافعا، وقادرا على استعادة شرعية النظام وشرعية إحياء هويةٍ دفنتها ثورة الشعب الأردني. والأهم من ذلك كلِّه أنه طوَّقَها بإدراكه العملي لعمقِ التناقض بينه وبينها، وبمبادراته المتتابعة المرتكزة إلى هذه الحقيقة.
لقد كان اهتمام النظام بالجيش الشعبي متميِّزا بالنظر إلى ما كان مُقَرَّرا له أنه يلعبَه من دور فعال في ضرب القواعد الخلفية للمقاومة، وفي حماية ظهر النظام من هجماتها عند اللقاء الحاسم والنهائي. ولقد تبَدَّى الاهتمام بهذا الجيش في أكثر من موقف، “ففي أزمة شباط/فبراير 1970 وردت إشاراتٌ لوجود المقاومة الشعبية. فقد ورد في البيان الذي أصدرته الحكومة في “10/02/1970” والذي فجَّرَ الأزمة، بندٌ يحظرُ حملَ السلاح، ويستثني من ذلك تنظيماتٍ المقاومة الشعبية. كما أن بندا آخر قال: إن السيارات المصادَرَة لمخالفتها القوانين التي نصَّ عليها البيان سوف تُسْتَخْدَم لأغراض المقاومة الشعبية”(22).
وفي أسلوب تنظيمه للجيش الشعبي كان النظام ذكيا، بحيث تَجَنَّبَ الاصطدامَ بالبُنْيَة الاجتماعية القائمة، أو بالقِيَمِ العشائرية والقَبَلِيَّة السائدة – خلافا لما انتهجته المقاومة – لا بل هو سَخَّرَها لخُطَّتِه وجَيَّرَها لأيديولوجيته، جاعلا منها ومن بُنْيَتِها تلك، جزءا من هذه الأيديولوجية التي تجَّنَب جعلَها وصِيَّةً على تلك البُنْيَة خشيةَ أن تصطدمَ بها، فيحدثَ على صعيد العلاقة المُتَوَخاةِ مع الفلاحين ما حدث بينهم وبين المقاومة. والنظام إذ فعل ذلك فبغرضِ حقنِ الجيش الشعبي بجرعاتٍ من الفعالية، باعتبار “القبلية والعشائرية” بمثابة بُنْيَة مجتمعية تنطوي على منظومة قِيَمٍ تُكَرِّسُ الانضباطَ والتَّبَعِيَّة لرأس العائلة التي أصبحت هي “الأردن الجديد”، والذي أصبح النظامُ نفسُه هو رأسها الذي يدين له أفرادها بالطاعة والولاء والتبعية، بعد أن انتزع شرعيةَ تمثيلهم من “الهوية الأردنية الثائرة” التي تضعضعت مكانتها التمثيلية لهؤلاء بعد أن تحولت الثورة من ثورة أردنية إلى ثورة فلسطينية.
وإن من مظاهر إنشاء النظام للجيش الشعبي على أساس البُنية المجتمعية للريف الأردني قروي الطابع، أنه نظمه على أساس “القرية”. “ففي القرية الواحدة وحدةُ من وحداتِ هذا الجيش تديرُها هيئة من الجنود النظاميين ويشرف عليها “مخاتير” القرية أو الضباط المتقاعدون من سكانها. ومن الواضح أن اختيار النظام لهذا النمط من التنظيم بالذات ليس إلا استجابةً لبُنْيَة المجتمع الفَلاَّحي ذاتِها. فهذا المجتمع يقوم على العائلة الكبيرة “الحمولة” التي تحتل المكانة الأولى فيه، بينما يستمد الفرد مكانتَه وقوَّتَه من مكانة وقوَّة عائلته وليس العكس. والمكانة الاجتماعية غالبا ما تكون موروثة، ولا يمكن تحقيقُها بالجهد الفردي، والفرد يعرف ذلك ويتجنب مخالفة عائلته وإغضابها لئلا تنبذَه فتتحطم مكانته الشخصية. ومن هنا لجأ النظام كما كان يفعل دائما، إلى استمالة شيوخ وزعماء العشائر الذين غالبا ما يكونون مخاتير، وتنصيبهم على رأس وحدات الجيش الشعبي في القرى. أي أن النظام عامل الفلاحين كوحداتٍ عائلية مُسْتَقْطِبا إياهم على هذا الأساس”(23).
وأخيرا فإن النظام الأردني في مواجهته لمتطلبات الاستعداد لتصفية وجود الثورة في الأردن، كان يدرك أنه سيواجه ثورةً منظمة لها قاعدة جماهيرية واسعة وذات تحرُّك أمني دقيق، الأمر الذي جعله لا يكتفي بحملات التعبئة داخل الجيش وفي صفوف البدو والفلاحين، بل ذهب إلى تشكيل ما سُمِّيَ آنذاك بـ “الشعبة الخاصة”، وهي تشكيل أمني مخابراتي صرف عمل من خلاله على مواجهة المقاومة استخباراتيا. “فقد واجه النظام حقيقتين لم يكن أمامه مفرٌّ من الاعتراف بواقعيتهما، أولاهما: اختراق حركة المقاومة لأجهزة الاستخبارات والأمن العسكرية العامة، ما جعل هذه الأجهزة غير موثوقة في نظره. وثانيتهما: افتقار النظام إلى جسم تنظيمي ذي صبغة شعبية يستطيع أن يشَوِّش من خلاله على المقاومة ويقارعها به على الصعيد الجماهيري، وخاصة في المدن. فحاول ابتداء من منتصف عام 1969 إنشاء جهاز متكامل يحل هاتين المشكلتين في آنٍ معا، فيقوم في الوقت ذاته بجملةِ واجباتٍ تختلط وتتقاطع وتتكامل فيها مهام الاستخبارات بمهام إنشاء وقيادة قاعدة شعبية مسلحة”(24).
وقد قُسِّمَت “الشعبة الخاصة” إلى عدة أقسام متخصصة، “هي “قسم المعلومات” و”قسم الإنذار” و”قسم الحرب النفسية” و”قسم التنفيذ”. كما أُلْحِقَت بها عدة منظمات فرعية تابعة لها إداريا وتنظيميا، وتقوم بتغطية مهامها على صعيد المملكة كلِّها. ومن هذه المنظمات، “المنظمة الهاشمية”، وحُدِّدَت منطقة عملها في “معان”، و”المنظمة الشعبية الأردنية لمساندة الجيش”، و”الاتحاد الوطني الأردني”(25). ولقد كانت مجمل مهام هذه المنظمات تتمثل في التشهير وبثِّ الإشاعات وما شابه ذلك من الأعمال التمهيدية والمكمِّلَة للمعارك الفاصلة.
دلت كلُّ المؤشِّرات إذن على أن هناك ساعة حاسمة آتية لا ريب فيها، ولقد بدا واضحا بعد أحداث حزيران 1970 أنها على الأبواب.. وفي فجر يوم “16/06/1970” وبعد سلسلة من الصدامات التمهيدية امتدت على مدى قرابة شهر من العمل على استنزاف الثورة ودك مواقعها، دَقَّتْ ساعة الصفر إيذانا ببدء المعركة الفاصلة، وانفجر الوضع في كل مكان.. في الشمال.. في الجنوب.. في الوسط.. في الأغوار.. في المدن والقرى.. وفي المخيمات.. في عمان والزرقاء وإربد والسلط والكرك والطفيلة.. ونُفِّذَت المجزرة بإحكامٍ وعناية شديدتين.. ولقد قال المحرر الرئيسي في مجلة النيوزويك: “خلال ربع قرن من كتابة التقارير عما يجري في الخارج، لا أستطيع أن أتذكر أيَّ شيءٍ يشبه ما رأيته في الأردن.. شاهدت المجازر الداخلية بين القبائل الإفريقية، ونزيفَ الدَّمِ البطيء المُطْرَدِ في فيتنام، ولكن لم يكن هناك شيء يشبه التدمير المديني – من الأرواح والممتلكات – الذي قاست منه عمان”(26). وكيف لا يحصل ذلك، وكيف لا تُحْرَقُ عمان وتُدَمَّرُ على رؤوس ساكنيها، والملك حسين نفسه قد قال يوما للفدائيين بلهجة ملؤها التهديد والوعيد: “حين جاء الهاشميون إلى عمان، كانت قرية صغيرة، وعندما أجد نفسي مرغما على مغادرة عمان، فسوف أتركها كما وجدها أجدادي.. ولقد كاد أن يحَقِّقَ ذلك”(27).
وعندما بدأت المجزرة بعد كل التَّحَوُّلات التي شهدتها الساحة الأردنية والإقليمية على مدى أكثر من ثلاث سنوات، امتدت من حزيران 1967 إلى أيلول 1970، كشفت يوميات أحداثها عن أنها تُمَثِّلُ معركةَ وجودٍ بين النظام والمقاومة، بميزان قدراتٍ مختلٍّ لصالح النظام، أيديولوجيا وقانونيا بالدرجة الأولى، بعد أن فقدت البندقية أهميتَها وفاعليتَها في الحسم النهائي للمعركة، لتغدوَ الأهمية والفاعلية في هذا الشأن لمن امتلك شرعيةَ الدفاع عن “الهوية الأردنية” وشرعيةَ تمثيلِها.
إنه صراع من نوع غريب ذلك الذي دارت رحاهُ فوق الجغرافية الأردنية ذات الأهمية الجيوسياسية الفريدة، في مواجهة المشروع “الإمبريالي الصهيوني السايكسبيكوي” في تلك الحقبة من الزمن. صراعٌ كان الطرف القوي فيه دائما هو من يستحوذُ على شرعية تمثيلِه للهوية الأردنية تحديدا، والطرف الضعيف هو الذي يخوض معركته وهو متدثِّرٌ بعباءة هويَّةٍ غيرِها حتى لو كانت هذه الهوية “الغير” هي “الهوية الفلسطينية”!!
النظام والمقاومة تصارعا وتواجها منذ اللحظة الأولى لانطلاق العمل الفدائي، نظاما وظيفِياًّ قُطْرِيا يعاني من التَّرَنُّح والهشاشة وهو يبحث عن هويَّةٍ يمثلها كي يُشَرْعن وجودهَ وبقاءَه واستمرارَه، بعد أن فقد شرعية تمثيلِه لـ “الهوية الأردنية” بوظيفِيَّتِها وقُطْرِيَّتِها التي كانت عليها منذ نشأتها ولغاية ما قبل الثورة، لسببٍ بسيط هو أنها لم تعد بموجب تلك الثورة لا وظيفِيَّة ولا قُطْرِيَّة، بل أصبحت هوية موَحِّدَةً وثائرة لا تستطيع إلا أن تناجِزَه العداءَ، ومقاومةً أردنية نظَّفَت الهوية الأردنية من وظيفِيَّتِها وقُطْرِيَّتِها وطهَّرَتْها منهما بعد أن تَرَحَّمَت بمنتهى الخشوع والتَّبَتُّلِ والقبول والرضا على “الهوية الفلسطينية” الراحلة منذ مؤتمر أريحا.
أدرك النظام ما لم تدركه الثورة منذ البداية، وهو أنها أقوى منه بأردنيتها، مادامت مضطرةً للتحرك على الأرض الأردنية والانطلاق منها، وأن عليه كي يصبح أقوى منها في الساحة نفسِها، أن يسرق منها هذه “الأردنية” لتصبحَ له وحدَه. ولأنه لا يستطيع أن يفعلَ ذلك إذا لم يكن لديه البديل الذي بإمكانه إغراءَها به كي تقبلَه وتنسلخَ عن أردنيتها لأجله، فكان عليه أن يحاولَ كلَّ ما يستطيعه لإعادة بعث “الهوية الفلسطينية” لتكون هي هذا البديل.
ثلاث سنوات من العمل الدؤوب والتنافس المستميت قضاها النظام الأردني وهو يمارس لعبة “لوغو الهويات” مستخدما التنظير الأيديولوجي، والتزييف الإعلامي، والوعظ الديني، والمسخ الثقافي، والعمل العسكري، والاختراق الأمني والاستخباري، بمنتهى الحذر والدقة، إلى أن استعاد شرعيةَ تمثيله للهوية الأردنية، بعد أن جَرَّدَها من ثوريتها التي أصبحت هي رداء “الهوية الفلسطينية” التي لا تستطيع أن تمتلكَ الأرض والجغرافيا الأردنيتين والسيادة عليهما، بما هي هوية فلسطينية. ومنذ أن تحقَّق للنظام هذا الوضع الجديد أصبح له مبررٌ يكافح من أجله مدافعا عن شرعية هوية تتعرض للاعتداء من تغَوُّل هويَّةٍ أخرى، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الزوال.
لم توجدْ على ما نعلم، ثورةٌ أصرت على البقاء والاستمرار، وهي تعاندُ قوانينَ الطبيعةِ والحياةِ، وتناجزُ المنطقَ، وتُصِرُّ على تقديس ما لا يُقَدَس، وعلى نشر ديانةِ وثنية غير مسبوقة، هي ديانة “الطوطم الوطني”، ممثلا في الركوع أمام ما افترضت رمزيَّتَه الوطنية ولاهوتيَّتَه السياسية، وعلى فرضِ رؤاها القاصرة وطموحاتِها الضَّيِّقَة، في المكان الخطإ وبالشكل الخطإ وفي الوقت الخطإ، كما فعلت ثورة “الشعب الأردني” منذ قرَّر قادتُها أن يُحَوِّلوا مسارَ حركتِها، وأن يغيِّروا لونَ هويتِها، لتغدوَ “ثورة الشعب الفلسطيني”، دون أن يقتنعوا ولو للحظة، أن ما يفعلونه على الأرض لن يحقَّقَ مثقالَ ذرة من أهداف ثورتهم المعلنة في أدبياتهم.
ولأن الثورة منذ أن أصبحت “فلسطينية”، اعتنقت دينا وطنيا وثنيا قائما على اعتبار “الهوية الفلسطينية” هويةً مقدسةً ومعياريةً تدين لها بالعبادة، وتُمَثِّلُ بوصلةَ الفصل بين الحق والباطل الوطنيَّيْن بشكلٍ مطلق ودائم بصرف النظر عن المتغيرات على الأرض، فقد عجزت عن إحراز أيِّ إنجاز يذكر، بل هي فرضت على الإقليم مجموعة من التراجعات القاتلة بالمنظور القومي والوحدوي والنهضوي والتحَرُّري. وهي حتى الآن تمعن في غيِّها وترفض الاعتراف بأنها منذ شاركت عن وعي أن عن غير وعي في تكريس “فلسطينية المقاومة”، إنما فتحت صنبورَ التراجعات السياسية الذي ما فتئت غزارة الانهيارات المتدفقة منه تزداد يوما بعد يوم. ومنذ ذلك الوقت، ما من راغبٍ في انتقادٍ أو تراجعٍ أو تصحيحِ مسار. علما بأن “تجريد الحركة الثورية من قُدْسِيَّتِها المزعومة، والنظر إليها كعملٍ من أعمال البشر، أمر على غاية من الأهمية بالنسبة لكل من يريد تقييم مرحلة من مراحلها، والوقوف أمامها وقفةً نقديةً جادة”(28).
لقد عانت الثورة من ضبابية في الرؤية منذ انطلاقتها، جعلتها لا تتعامل مع النظام الأردني آنذاك بما تقتضيه طبيعة التناقض معه بصفته نظاما وظيفِيا قُطْرِيا مُمَرِّرا للعلاقات الصهيونية الإمبريالية في الإقليم. وهو الأمر الذي جعلها تتصور إمكان التعايش معه بصفته تلك. ولأن النظام كان مدركا لاستحالة ذلك، فقد كان هو المبادر على الدوام لتجسيد تناقضه مع المقاومة على شكل سياسات وممارسات ومواقف. إن هذه الضبابية كانت “عيبا أصاب أغلب القياديين، وجعلهم عاجزين عن تحديد ماهية العدو، وتشابك المصالح الإسرائيلية – الإمبريالية – الرجعية العربية، وتبَدُّل هذا التشابك وتَعَقُّدِه مع تطورات الأزمة وزيادة تشابك عواملها. صحيح أن النشرات والكراسات والمجلات كانت تتحدث عن “العدو المثلث”، ولكن التصرفات كانت لا تتلاءم مع الأقوال ولا تتطور مع تطور الموقف. فلقد بقيت غالبية القايادات وحتى اللحظة الأخيرة خاضعة لوهم إمكانية التعاون مع النظام في الأردن رغم تصفيته لمعظم العناصر الوطنية الفعالة في الجيش وأجهزة الأمن”(29).
إن هذه الضبابية أفرزت أيديولوجيا ثورية عقيمة، غير واقعية ولا موضوعية، وأبعد ما تكون عن امتلاك رؤيةٍ سياسية ناضجة نابعة من ظروف الواقع ومُكَوِّنات المنطقة وبيئاتها المُجْتَمعية، ومُعَلَّقَة في الفراغ، عجزت معها كلُّ قيادات الثورة عن تَصَوُّر أن المقاومة في الأردن لن تنجحَ إلا إذا كان النظام في الأردن نظاما وحدويا ثوريا، وليس نظاما قُطْرِيا وظيفِيا، يَتِمُّ البحث عن آلياتٍ مستحيلةٍ للتعايش المستحيلِ معه!! وأن النظامَ الوظيفي لن يسقطَ إلا إذا كانت الثورة “أردنية” وليس “فلسطينية”!! لأن الثورة الفلسطينية على أرضٍ أردنية لا يحق لها أن تُسْقِطَ نظاما أردنيا يُفْتَرَض أنه يمثِّلُ شعبا آخر هو الشعب الأردني، وإلا ظهرت ثورةً معتدية على ذلك الشعب، قبل أن تكون معتدية على النظام نفسِه!!
إن ممارسة الثورة الفلسطينية بفعلها المقاوم من على الأرض الأردنية لا يمكنه أن يتِمَّ إلا بممارسة “السيادة وإن تكن جزئية على تلك الأرض!! ولكن هذه الثورة لا يحق لها ممارسة هذه السيادة إلا بإرادة الشعب الأردني!! والشعب الأردني لا يمكنه منحَ “الثورة الفلسطينية” هذا الحق إذا لم يكن في حالة وئامٍ تامٍّ معها!! في حين أن الثورة أصرت على أن هذا حقُّها في كل الأحوال، وأنه غير قابل للمناقشة، فظهرت مُعتدية على حقِّ شعبٍ أردني في هويتِه وسيادته على أرضه، مانحةً النظام القُطْري الوظيفي الهَشَّ والمُترنحَ، كل الأدوات الأيديولوجية والقانونية والسياسية والشعبية، التي مَكَّنَتْه من استعادة شرعيته التي كانت في مهبِّ الريح، فانتصر عليها في معركة “الهوية الأردنية” التي تخلَّت عنها ثم أصرت على فرض طموحاتِها الفلسطينية عليها، لتَخْتَلَّ المعادلة وتنتهي إلى انتصار النظام على الثورة التي كانت قبل وقت قصير تُهَدِّدُ وجودَه من جذوره.
في الوقت الذي كان يجب العمل على تكريس “أردنية الثورة” حتى لو لم تكن هذه “الأردنية” هي صفتها منذ البداية، من باب تهيِئَةِ الظرف الموضوعي في الجغرافيا والديموغرافيا الأردنيتين لاحتضان القاعدة الآمنة للثورة العربية الكبرى الحقيقية، على اعتبار أن تكريس “الأردنية” هو وحدَه القادرُ على إسقاط النظام القُطْري الوظيفي في الأردن لخلق تلك القاعدة ذات الدلالات القومية التَّحَرُّرِيَّة العميقة.. نقول.. في الوقت الذي كان يجب أن يحدثَ ذلك، رأينا الثورة تعاندُ المنطق وتعترض على القَدَر الرائعِ الذي أراحها من مَغَبَّة “أردنة ثورة فلسطينية” – بأن جعلَ الثورةَ تنشأُ منذ البداية “أردنية” قلبا وقالبا بالمعنى القانوني للأردنة على الأقل – وترسلُ كلَّ الرسائل التي تشير إلى أنها “سمكة غبية” يمكنها ابتلاع أيَّ طعم يُذَكِّرُها بجذورها الفلسطينية، وأنها ستضربُ بأردنيتها عرضَ الحائط إذا وجدت من يدغدغ فيها هذا الشعور الوجداني الرابض في غيابات لاوعي قيادات الثورة، والعاري عن أيِّ قيمة سياسية ذات دلالة موضوعية، كما أثبت التاريخ اللاحق مباشرة لتجسُّد الهوية الفلسطينية، ولا يزال يثبت حتى الآن.
فلنقارن في هذا السياق بين مدياتِ الوعي بأهمية الامتداد القومي لحسم الصراع ضد تداعيات المشروع “السايكسبيكوي” في الإقليم، لدى ثوار فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، ومدياته لدى قادة ثورة ستينيات ذلك القرن. ففي الوقت الذي كان ثوارُ الثلاثينيات ما يزالون فلسطينيين تحت الانتداب البريطاني، ولم ينضموا بعد لا إلى الأردن ولا إلى غيره، لا باختيارهم ولا قسرا، ما يجعل مقاومتَهم وثورتَهم فلسطينية القلب والقالب والمُسَمّى المنطقي، نراهم يعزِفون عن هذا التقزيم الذي يُرادُ لمشروعهم الثوري أن يزَجَّ به إلى فضاءاته الضَّيِّقَة، ويُصِرون على أن تصدرَ بياناتِهم الثورية مُرَوَّسَةٍ باسم “ثورة جنوب سوريا”، باعتبار فلسطين ليست أكثر من مُنْتَج “سايكسبيكوي” مُصْطَنَع، وما هي في حقيقة الأمر إلا امتداد طبيعي لسوريا الطبيعية، التي عَبَّروا بهذا الوعي النادر عن رفضهم للانفصال عنها، مع أنها كانت تحت الانتداب الفرنسي، وتُعَدُّ لتكونَ دولةً قُطْرِيَّةً وظيفِيَّةً أيضا. أي أنهم نسبوا أنفسهم إلى هويِّة أكبر وأرحب تعاني جغرافيتُها ويعاني شعبُها من الاحتلال، ويُتَوَقَّعُ لها أن تستقل بنظامٍ قُطْري وظيفي قد لا يقل بشاعة وتبَعِيَّةً عن النظام الأردني، ومع ذلك فقد رأوا في الرَّحابة التي تمثلها هذه العباءة – وإن تكن رحابة غير متجسِّدَة إلا على الصعيد النظري الصرف – قوة داعمة لمشروعهم التَّحَرُّري الذي كان هو ما اكتسى لديهم صفة القداسة، وليست “الهوية الفلسطينية” التي أوجدتها خريطة “سايكس بيكو” هي التي اكتست تلك الصفة. لذلك تم تجيير مكانة الهويات بحسب ما يؤدي إلى خدمة مشروع التحرر، وليس العكس.
بينما يفاجئنا ثوار الستينيات بأنهم فجَّروا ثورتَهم في إطارِ هويةٍ أشملَ وأرحبَ وأكثرَ قدرةً على تأمين عوامل النصر ومقومات الدعم اللوجيستي ذي الامتدادات القومية لتلك الثورة، هي “الهوية الأردنية”، التي كانت رحابتُها مُتَجَسِّدَة عمليا في دولةٍ وجغرافيا وديموغرافيا، ولم تكن مجَرَّد تصَوُّرٍ نظري كما كان الحال في “الهوية السورية” بالنسبة لثوار الثلاثينيات. والتي كان الاندماج فيها أيضا قد تجسَّد على الأرض عمليا بعد مؤتمر أريحا خلافا للحالة الثلاثينية التي أصرت على ربط نفسها بالهوية السورية الأرحب في الذهن الوطني حتى في السياق النظري المجرد للربط، مادامت تلك الهوية لم تكن قد تجسَّدت بعد على أرض الواقع. ومع ذلك فبدل أن يعتبر هؤلاء الثوار – أي ثوار الستينيات – الحالةَ إنجازا متقدما، فيحافظوا على ثورتهم في إطار أردنيتها، ويتمسكوا بها ويحاربوا كلَّ من يعمل على سلخهم عنها وتجريدهم من حضانتها وبالتالي من حصانتها، نراهم يَنْجَروُّن وراء أيِّ طُعْمٍ يُلْقَى أمامَهم في طريق تذكيرهم بأنهم ليسوا أردنيين وإنما هو فلسطينيون، ويعتنقون عقيدةَ أن هويتهم الفلسطينية هي أهم ما يمكنهم أن ينجزوه في نضالهم لأنها هوية مقدسة، فينساقون وراء هذه الأيديولوجية الحمقاء كالنعجة التي تساق إلى مذبحها، لتغدوَ الأولوية الإستراتيجية في أيديولوجية الثورة المعاصرة هي للحفاظ على هذه الهوية، وإن يكن في مستويات تَجَسُّدِها الشكلية التي لا قيمة سياسية أو قانونية لها، على حساب موضوع التحرير الذي لا يمكنه أن يتجسَّد في حده الأدنى إلا في قوالب هويات ذات دلالات وامتدادات قومية!!
خلاصة القول إذن أن ثوار فلسطين في الثلاثينيات جعلوا من التحرير إستراتيجيتَهم الأولى ومقدسَهم الأوحد الذي لا مجال لاستبداله على صعيد “إستراتيجيته وقداسته” بأيِّ شيء آخر، ثم راحوا يتلونون على صعيد “الهوية” بما يساعدهم على رفد مشروع التحرير هذا بعناصر القوة وعوامل النجاح. ولما وجدوا أن تعبيرَهم عن ارتباطهم بهويتهم “السورية” الأم التي كانت تعاني مثلَهم من الاحتلال، يعمل في هذا الاتجاه، أعلنوا عن هذا الارتباط بلا تَرَدُّد، فعبَّروا عن حالةِ وعيٍ فريدةٍ ومتميزةٍ منذ وقت مبكر، ولم يروا في فلسطينيتهم غنيمةً تُذْكَر أو تستحق التضحية لأجلها بعباءتهم القومية الأرحب.
بينما ثوار فلسطين في الستينيات جعلوا من تجسيد الهوية – وإن يكن في الأوهام – إستراتيجيتَهم الأولى ومقدسَهم الأوحد، ثم راحوا بعد ذلك يتلونون على صعيد السياسة والقانون والأيديولوجيا بما يعتقدون أنه يساعدهم على تجسيد هذه الهوية. لذلك فبدل أن يُفَعِّلوا عمليةً التحرير في إطار “الأردنية” التي كان من الممكن أن تكون مقدمة لـ “العروبية الكاملة” لو أن النظام القطري الوظيفي سقط، راحوا يناجزون “الأردنية” كلما بدا أنها – بفعلِ حنكةِ النظام الأردني ودهائه – ستكون حاضنةَ حرمانِهم من الإبقاء على هويتهم مُتَجَسِّدَة حتى لو كان هذا التَّجَسُّد فكرةً في الأذهان أو حبرا على ورق أو مشروعا سياسيا في دُرْجٍ!!
وبكلمةٍ خاتمةٍ محددةِ الدلالةِ، قام نظام “الملك حسين” بمحاربة “الهوية الأردنية الثائرة” التي كانت تهدِّدُ وجودَه كنظام وظيفي قُطْري، من خلال استحضار “الهوية الفلسطينية” المَيِّتَة، فانتصر عليها – أي على الهوية الأردنية الثائرة – وأماتَها ليحيي بدلا منها “الهوية الأردنية الوظيفِيَّة القُطْرِيَّة” التي كانت الثورة الأردنية قد أماتتها. ثم عاد ليحاربَ “الهوية الفلسطينية” المُسْتَحْضَرَة من الموات، بـ “الهوية الأردنية القُطْرية” التي أحياها بعد موات. فانتصر على الهويتين معا وحوَّلَهما إلى أداتين وظيفِيَّتَين لا قيمة لأيٍّ منهما في مشروع التحرير، منذ ذلك الوقت وحتى الآن. ليتأكد لنا بالتالي ألا مجال لعودة قطار التحرير ليسير على سكَّتِه الصحيحة إلا إذا عادت “الهوية الأردنية” إلى ثوريَّتِها من جديد، حتى وإن يكن على أنقاضِ “الهوية الفلسطينية” التي ستبقى مشروعا على الورق وفي الأذهان، لا دورَ له في مخططات ما بعد أيلول 1970 إلا عرقلة مشروع التحرير الحقيقي.
… يتبع في الحلقة التالية
الهوامش..
1 – (History & Trubes of Jordan, by Frederick Gerard, Publisher “Peake” Miami – Florida, 1958, p 61), (See also, Politics & The military in Jordan, by PJ. Vatikiotis, Publisher “Frank Cass Co. Ltd, 1967, as well as see, The story of The Arab Legion, By G.B. Glubb, London. 1948, as well as see, Glubb,s legion, By Godfrey Lias, Publisher “Evans Brothers Ltd, 1956)
2 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 112).
3 – (للإطلاع على تعداد الجيش الأردني لعام 1970، أنظر (The Military Balance 1970 – 1971, The institute for strategic studies, London. P 41)
4 – (عن أول تعداد عام للسكان والمساكن في الأردن، بتاريخ 18/11/1961، التقرير الأولي رقم 10، دائرة الإحصاءات العامة، عمان).
5 – (عن النشرة الإحصائية العامة، الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة، العدد العشرون، العام 1969، عمان).
6 – (عن أول تعداد عام للسكان والمساكن في الأردن، بتاريخ 18/11/1961، التقرير الأولي رقم 10، دائرة الإحصاءات العامة، عمان).
7 – (عن النشرة الإحصائية العامة، الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة، العدد العشرون، العام 1969، عمان).
8 – (UNESOB, Sedentarisation & Settlement of Nomadic population in selected countries of the M.E, Escond draft, February 1970, p 5))،
9 – (عن أول تعداد عام للسكان والمساكن في الأردن، بتاريخ 18/11/1961، التقرير الأولي رقم 10، دائرة الإحصاءات العامة، عمان).
10 – (Politics & The military in Jordan, by PJ. Vatikiotis, Publisher “Frank Cass Co. Ltd, 1967, p 137
11 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 145).
12 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 128).
13 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 129).
14 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 130).
15 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 131).
16 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 132).
17 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 132).
18 – (بتصرُّف عنUNESOB, Sedentarisation & Settlement of Nomadic population in selected countries of the M.E, Escond draft, February 1970, p 7))،
19 – (بتصرُّف عنUNESOB, Sedentarisation & Settlement of Nomadic population in selected countries of the M.E, Escond draft, February 1970, p 8))،
20 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 136).
21 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 136).
22 – (عن صحيفة النهار اللبنانية، العدد الصادر بتاريخ 12/02/1970).
23 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 137).
24 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 138).
25 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 138).
25 – (عن جريدة النهار اللبنانية، العدد الصادر بتاريخ 24/9/1970).
27 – (عن جريدة النهار اللبنانية، العدد الصادر بتاريخ 24/9/1970).
28 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 280، نقلا عن مقال للمقدم “هيثم الأيوبي”، بعنوان “وقفة نقدية أمام المقاومة قبل أحداث أيلول وخلالها وبعدها”، نشرته له “دار الطليعة” في كتاب خاص حول أحداث أيلول، صادر عن مجلة “دراسات عربية” في تموز/يوليو 1971).
29 – (كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، إعداد مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، أيلول 1971، اشترك في الإعداد كل من “خليل هندي” و”فؤاد بوراشي” و”شحادة موسى”، بإشراف د.نبيل شعث، سلسلة كتب فلسطينية، رقم 36، ص 283، نقلا عن مقال للمقدم “هيثم الأيوبي”، بعنوان “وقفة نقدية أمام المقاومة قبل أحداث أيلول وخلالها وبعدها”، نشرته له “دار الطليعة” في كتاب خاص حول أحداث أيلول، صادر عن مجلة “دراسات عربية” في تموز/يوليو 1971).