www.omferas.com
شبكة فرسان الثقافة

أربكان الذي عرفته/السفير/ محمد والي

0

بدأت عملي في السفارة المصرية بأنقرة في سبتمبر 1977 وكان وقتها نجم الدين أربكان عَلَما بارزا في السياسة التركية إذ كان زعيم حزب: “السلامة الوطني” ذو الاتجاه الإسلامي؛ لكن معرفتي به بدأت في العام التالي 1978. في ذلك العام، وصلت السفارة دعوة لشخصيتين تركيتين لحضور المؤتمر السنوي لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف. هاتان الشخصيتان هما: الشيخ/ علي أرسلان أيدين، والدكتور نجم الدين أربكان أو كما يسميه الأتراك: “أربكان خوجة” أي الشيخ أربكان.

أربكان الذي عرفته
 
السفير/ محمد والي
 
بدأت عملي في السفارة المصرية بأنقرة في سبتمبر 1977 وكان وقتها نجم الدين أربكان عَلَما بارزا في السياسة التركية إذ كان زعيم حزب: “السلامة الوطني” ذو الاتجاه الإسلامي؛ لكن معرفتي به بدأت في العام التالي 1978.
في ذلك العام، وصلت السفارة دعوة لشخصيتين تركيتين لحضور المؤتمر السنوي لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف. هاتان الشخصيتان هما: الشيخ/ علي أرسلان أيدين، والدكتور نجم الدين أربكان أو كما يسميه الأتراك: “أربكان خوجة” أي الشيخ أربكان.
أما الشيخ علي أرسلان؛ فقد عرفته قبل ذلك، وكان من أعز أصقائي في أنقرة، وهو عضو في مديرية الشؤون الدينية التركية، وهي التي تتولى الفتوى والإشراف على المساجد وتكوين الأئمة والخطباء. كان الشيخ علي قد تلقى تعليمه العالي في الأزهر حيث حصل على شهادة “العالمية من درجة أستاذ” (الدكتوراة) في أصول الدين. كان من المعتاد في الاتصالات الدبلوماسية أن توجه الدعوة إلى الخارجية التركية، وهي التي تخطر المدعوين، وقد تم ذلك بالفعل، ولكني أخطرت صديقي الشيخ علي أرسلان بالموضوع؛ فسألني إن كنت تحدثت إلى الدكتور أربكان في الأمر؛ فلما أجبته بالنفي، قال من الأفضل أن تتصل به. كان وقتها الدكتور أربكان نائبا لرئيس مجلس الوزراء، فاتصلت بمكتبه على الفور، وطلبت مقابلته، وفي نفس اليوم اتصل بي مكتبه، وقال إن الدكتور أربكان يدعوك لتناول الشاي معه عصر نفس اليوم في مكتبه بحزب السلامة. استقبلني الدكتور أربكان مرحبا، وأنا كنت أفهم التركية لكن لا أستطيع الحديث بها بطلاقة، وكان الدكتور أربكان لا يعرف من اللغات الأجنبية إلا اللغة الألمانية التي لا أعرفها؛ لكن يبدو أن الدكتور أربكان قد احتاط لهذا الأمر، فقد كان معه عدد من قيادات الحزب منهم أمين الشباب، ومنهم وزير التجارة/ حسن فهمي جونيش؛ الذي كان يجيد اللغة العربية؛ لأنه من مدينة ماردين على الحدود السورية، وهي منطقة عربية، وقد قام بالترجمة بيننا. شرحت للدكتور أربكان موضوع المؤتمر وهو الاقتصاد الإسلامي.
ربما أكون قد أسهبت بعض الشيء في شرح جوانب الموضوع، فاستشف أربكان من حديثي أني متخصص في الدراسات الإسلامية. وهنا بدأ نقاش هام حول موضوع الوحدة النقدية الإسلامية، للخروج من التبعية للتكتلات الاقتصادية الأجنبية، واقترح الدكتور أربكان البدء بإنشاء وحدة نقدية باسم “الدينار الإسلامي” تضم في البداية نواة من الدول الإسلامية المهمة لتشمل بعد ذلك باقي العالم الإسلامي.
تعددت اللقاءات بيننا بعد ذلك، وفي إحدى هذه اللقاءات وكان شهر رمضان على الأبواب، اقترح أربكان أن يدعو سفراء الدول الإسلامية على مأدبة إفطار ووجدت فيه اقتراحا مفيدا للغاية، وكان قد طبع بطاقات الدعوة من قبل؛ فأحضر بطاقة وكتب فيها اسمي؛ وكنت وقتها سكرتير أول السفارة؛ فقلت له: أنا لست السفير، ويوجد قبلي في السفارة وزير مفوض ومستشار فسلمني أربع بطاقات خالية لباقي أعضاء السفارة.
وفي يوم الدعوة توجه السفراء إلى مقر الحزب؛ حيث وجدوا أربكان واقفا في الشارع أمام المبنى في انتظارهم، وكل سفير معه سائق، وبعضهم معه حارس بخلاف السائق، فأصر أربكان على صعودهم جميعا لتناول الإفطار. منظمو الحفل أجلسوني بجوار أربكان، وبجواره من الناحية الأخرى سفيرنا في ذلك الوقت/ أحمد كمال علما. اعترض القائم بأعمال الأردن، وقال لي: إن هذا مخالف للبروتوكول الدبلوماسي، فقلت له نعم، لكن لا تنسى أن أربكان زعيم سياسي منتخب، والأحزاب السياسية لها بروتوكولها الخاص. المهم نجحت الفكرة، وانتقلت من حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان إلى حزب الحركة القومية بزعامة ألب أصلان توركيش، وكان هذا الحزب ينادي بالرابطة القومية، لكنه لا يغفل الإسلام كعنصر أساسي للشخصية التركية؛ فالأتراك مثل العرب كانوا قبل الإسلام قبائل متنازعة لا شأن لها فارتبط ظهور الأتراك في العالم بالإسلام، بل إنك لتجد هذا واضحا في الفنون التركية حين يكون الرمز لتركيا هو الجامع والمنارة والمئذنة وصوت المؤذن.
كان شعار حزب السلامة الوطني هو المفتاح، وبالفعل كان أربكان وحزبه مفتاح السياسة التركية في ذلك الوقت؛ فقد كان في المشهد السياسي التركي أربعة أحزاب رئيسية: حزب الشعب الجمهوري برئاسة بلوند أجاويد – وهو الامتداد التاريخي للحزب الوحيد الذي حكم به أتاتورك، وحزب العدالة بزعامة سليمان ديمريل وهو امتداد للحزب الديمقراطي الذي أنشأه عدنان مندريس بعد نهاية عصر أتاتورك، وأعاد به الوجه الإسلامي لتركيا، وحزب السلامة الوطني بزعامة أربكان، وأخيرا حزب الحركة القومية بزعامة ألب أصلان توركيش. كانت نتائج الانتخابات لا تسفر عن فوز حزب واحد من هذه الأحزاب بأغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده، وكان لابد من تشكيل حكومات إئتلافية، ومن هنا كان حزب السلامة هو رمانة الميزان لتشكيل الحكومة بحيث يمكنه الاختيار بين أحد الحزبين الكبيرين: حزب الشعب أو حزب العدالة. وكانت هناك نكتة في تركيا – تعبر في الحقيقة عن هذا الموقف، يحكى أن سليمان ديمريل، وبلوند أجاويد، ونجم الدين أربكان، كانوا زملاء في مدرسة واحدة وفي فصل واحد فسأل المدرس سليمان ديمريل ماذا تحب أن تكون في المستقبل، فقال: أحب أن أكون رئيسا للوزراء، وسأل أجاويد فأجاب بنفس الإجابة أريد أن أكون رئيسا للوزراء ثم سأل أربكان فقال: أحب أن أكون نائبا لرئيس الوزراء، فقال المدرس ولماذا لا تكون رئيسا للوزراء مثل زميليك فقال لأنه سواء أكان هذا أو ذاك رئيسا للوزراء فسأكون على الدوام نائبا لرئيس الوزراء. لا زلت أحتفظ بالمفتاح الذي أعطاه لي أربكان في صورة مدالية كان يضعها أعضاء الحزب في عروة سترتهم؛ فقد كان هذا المفتاح سر منجزات أربكان.
فقد كان بإمكان حزب السلامة لترجيح الكفة أن يشترط حقائب وزارية معينة لتطبيق برامجه، وإن كان فكريا أقرب لحزب العدالة. كان أربكان يحرص على أن تكون معه وزارات التعليم والصناعة والتجارة كما كان حريصا على أن يمتد نفوذه إلى اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وبذلك استطاع أن يحقق منجزات هامة منها: أن عدد مدارس الأئمة والخطباء منذ أنشأها عدنان مندريس في الستينات (وهي مدارس تشبه في مناهجها مدارس الأزهر الشريف) كان عددها 56 مدرسة، زادت في سنوات حزب السلامة الثمانية (1972/1980) إلى 340 مدرسة. وكان مندريس قد أنشأ كلية واحدة لأصول الدين في أنقرة أصبحت مع حزب السلامة 12 كلية في مختلف الجامعات التركية. منذ انقلاب أتاتورك اللاديني كان على الأتراك الراغبين في التعليم الإسلامي أن يتجهوا إلى مصر أو سورية أو العراق حيث كان تعليم الدين ممنوعا، وقد أعاد أربكان تعليم الدين إلى المدارس التركية العادية وحين احتج اللادينيون قال أربكان إن الشعب التركي مسلم ولا بد من أن يتعلم دينه في المدارس ومن لا يريد تعليم الدين لأولاده يطلب ذلك من المدرسة، وهذا أمر لا يحدث عادة وسط شعب متدين. ثم أصبح صوت المؤذن يسمع في الإذاعة والتلفزيون وتذاع الاحتفالات الدينية (يسميها الأتراك قنديل) على الهواء مباشرة.
ليس هذا فحسب بل إن أربكان هو مؤسس النهضة الصناعية الحديثة في تركيا – بالمناسبة أربكان خريج كلية الميكانيكا من أكاديمية الهندسة باستانبول، و مؤسس شركة (المحرك الفضي) وأول رئيس لمجلس إدارتها 1956/1963 وهي لا زالت أكبر شركة لصناعة محركات الديزل في تركيا، بالإضافة إلى قفزات هائلة في مختلف الصناعات. يؤثر عن أربكان قوله: إن صناعة المكرونة أو الشكولاتة ليست هي الصناعة التي نريدها؛ إنما نريد الصناعات الثقيلة، والآن تركيا تصدر المنتجات الصناعية إلى مختلف أنحاء العالم، وفي الصناعات الحربية تصنع سلاحها وتبيع الأسلحة وكافة الذخائر تصنع الطائرة كما تصنع الفرقاطة.
كانت المملكة السعودية تعطي أربكان طائرة خاصة لأداء فريضة الحج كل عام مع أركان حزبه، وفي عام 1979 دعاني أربكان للحج معه؛ فاعتذرت منه، وكان الموقف محرجا، خاصة وأن علاقات أربكان تلبدت مع السادات بعد توقيع معاهدة كامب دافيد وانتقاد أربكان لها.
لقد أسس نجم الدين أربكان أول حزب سياسي إسلامي في تركيا عام 1970 باسم حزب: “النظام القومي” قامت المحكمة الدستورية بحله عام 1971 بدعوى مناقضته للدستور اللاديني، فأنشأ في عام 1972 حزب: “السلامة الوطني”.
اتخذ أربكان قرار غزو قبرص عام 1974 حين كان مشاركا في حكومة إئتلافية مع بلند أجاويد، ففي ذلك العام وقع في الجزيرة انقلاب عسكري وتم طردرئيس قبرص الأسقف مكاريوس، ونشطت العصابات المسلحة لقتل وترويع الأتراك، ومن المعلوم أن جزيرة قبرص تبعد عن الشاطىء التركي بخمسة وسبعين ميلا فقط وكانت تابعة للدولة العثمانية قبل هزيمتها في الحرب الكبرى الأولى، وبها جالية تركية كبيرة أو في الحقيقة سكانها إما أتراك أو يونان، واستيلاء اليونان عليها يجعلها مصدر تهديد خطير لتركيا. المهم هنا هو أن الولايات المتحدة أخذت الجانب اليوناني في النزاع حول قبرص رغم أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، مما جعل تركيا تغلق قاعدة إنجيرليك الأمريكية شرق تركيا. ظلت هذه القاعدة مغلقة لأكثر من عشرين عاما ثم أعيد فتحها بشروط جديدة تجعلها تحت سيطرة تركيا.
في صيف 1980 قاد أربكان مظاهرة مليونية في مدينة قونيا (وسط الأناضول) لنصرة فلسطين و المسجد الأقصى، قال فيها: “إن قضية فلسطين لا تخص الفلسطينيين وحدهم ولا العرب وحدهم؛ وإنما هي قضية المسلمين جميعا”.
ليسمح لي القارىء أن أتوقف هنا لأتحدث قليلا عن مدينة قونيا – والتي تشبه كثيرا مدينة طنطا وسط الدلتا، إذ كما ترتبط طنطا بالسيد البدوي، ترتبط قونيا بالشيخ جلال الدين الرومي، مع ملاحظة أن أربكان كان نائبا عن مدينة قونيا. مولانا جلال الدين الرومي هو محمد بن محمد بن حسين البلخي (نسبة إلى بلخ من بلاد ما وراء النهر/ أفغانستان حاليا) ولد في بلخ ولم يكد يبلغ الثالثة حتى غادرها مع أبيه إلى بغداد حيث نزل أبوه بالمدرسة المستنصرية ثم قام برحلة واسعة زار خلالها دمشق ومكة وملطية إلى أن استقر بقونيا وعمل فيها بالتدريس حتى وفاته عام 628 هـ، فخلفه في التدريس ابنه جلال الدين الذي عرف بالشيخ الرومي. من أشهر أعمال الشيخ الرومي أو مولانا جلال الدين “المثنوى” الذي يعتبر أضخم ديوان شعر في العالم إذ يضم عشرة آلاف بيت كل اثنين على قافية واحدة، وهذا هو سر تسمية الديوان بالمثنوي. ترجم المثنوي إلى اللغة العربية المرحوم الدكتور/ إبراهيم الدسوقي شتا، وصدر عن مكتبة مدبولي بالقاهرة.
الطرق الصوفية منتشرة في تركيا ولعبت أدوارا هامة في التاريخ العثماني، وكانت الطريقة البكتاشية أكثر هذه الطرق التصاقا بالعسكرية العثمانية، وفي عصور الازدهار كان يقيم إقامة دائمة بكل معسكر للانكشارية وكيل للطريقة البكتاشية مع عدد من المنتسبين لها (المريدون) يلعبون دورا هاما في التعبئة الروحية للقوات المسلحة، وفي الحملات الحربية يتقدم الشيخ (بالتعبير التركي بابا) وهو يصيح بأعلى صوته: “كريم الله” فيردد المريدون: هو هو. ومن ثم بدأت الحرب عليها مبكرا مع نمو حملات التغريب في عهد السلطان محمود الثالث، ولم تستقر هذه الحملات إلا بعد صراع دامي مع الانكشارية إنتهى بإبطال فرق الانكشارية وإبطال الطريقة البكتاشية معها. وبعد انقلاب أتاتورك ومحاولة فرض التغريب وإسدال الستار على ألف سنة من تاريخ الترك مع الإسلام أو تاريخ الإسلام مع الترك قضي أتاتورك بإبطال الطرق الصوفية جميعا.
الطريقة الوحيدة التي استعصت على الإبطال هي الطريقة المولوية (نسبة إلى مولانا الرومي) في قونيا ومن هنا تبرز قونيا باعتبارها المعقل الأخير للحضارة العثمانية، والشرارة الأولى التي انطلقت منها تلك الحضارة في ثوبها الجديد. في كل مدينة تركية يوجد تمثال لأتاتورك إلا قونيا، في تركيا هيئة حكومية تشرف على تماثيل أتاتورك؛ لكن قونيا استعصت عليها ما أن يوضع التمثال حتى يختفي.
من المعروف أن إسرائيل تستخدم حزب العمال الكردستاني كورقة ضغط على تركيا، ومن المعلوم تاريخيا أن المشكلة الكردية لم تظهر إلا بعد انهيار الدولة العثمانية التي لم تكن دولة قومية بحال ومن المعروف كذلك أن منطقة كردستان كانت معقل المقاومة لأتاتورك ومشروعه اللاديني ودارت معارك حامية في كردستان بين أتاتورك والحركة الإسلامية الكردية بزعامة الشيخ سعيد النورسي، والتي استمرت بعد النورسي في صورة طلاب رسائل النور، وهي رسائل في التوحيد ألفها الشيخ، وقد تحولت من حركة كردية إلى حركة تركية عامة لا يقتصر دورها السياسي على منطقة كردستان. أدرك أربكان جيدا أن المشكلة الكردية لا يمكن أن تحل إلا في إطار إسلامي جامع يتجاوز المفهوم القومي الضيق.
كل هذه النذر كانت كافية لتدفع الصهيونية العالمية بورقة الانقلاب العسكري، الذي قام به رئيس الأركان الجنرال/ كنعان إفرين في 12 سبتمبر 1980. هذا الانقلاب الدموي أدى إلى اعتقال أربكان وعدد من رجاله، كما أدى إلى مقتل واختفاء عدة آلاف؛ وبالرغم من ذلك فإن المكاسب التي تحققت على يد أربكان كان لا يمكن إلغاؤها، فبعد أيام حل موعد الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، وكان الاحتفال يذاع مباشرة من مسجد السلطان محمد الفاتح باستانبول، وبعد التواشيح والأناشيد، قام إمام الجامع لإلقاء خطبته، وفي نهايتها دعى للإسلام والمسلمين، ثم لصاحب الجامع الساطان محمد الفاتح، ثم لمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، وهنا قذفه المصلون بأحذيتهم وقطع الإرسال، ولما سألت الشيخ علي أرسلان عن رأيه فيما حدث كان تعليقه: “إنه شيخ أرتيست”.
خرج أربكان من المعتقل – بعد ثلاث سنوات – ليواجه حكما بحظر مشاركته في أي نشاط سياسي لمدة عشرة أعوام، عاد بعدها ليؤسس حزب: “الرفاه”. دخل حزب الرفاه الانتخابات البرلمانية عام 1996 حيث حصل على أكبر عدد من المقاعد بالقياس للأحزاب الأخري، لكنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة بمفرده. فتكونت حكومة ائتلافية برئاسة أربكان وبالاشتراك مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيللر. لم يكمل أربكان عاما واحدا (تسع شهور بالتحديد) في رئاسة الحكومة حتى أنذره الجيش، وقام بانقلاب صامت عليه في 28 فبراير 1997. في هذه الشهور القليلة التي بقي فيها أربكان رئيسا للوزراء بدأ في المجال الخارجي تحقيق برنامجه في الانفتاح على العالم الإسلامي، فأعلن عن تكوين مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجريا وبنجلاديش وماليزيا. وقد اقترح أربكان أن تكون هذه المجموعة نواة تحقيق مشروع الوحدة النقدية الإسلامية (الدينار الإسلامي)، وهو المشروع الذي سبق أن ناقشه معي منذ ثلاثين عاما.
لم تكتف القوى اللادينية في تركيا بإفشال حكومة أربكان بل أقدمت على حظر حزب الرفاه عام 1998وتقديم أربكان إلى المحاكمة بتهمة مناهضة اللادينية، ومنعه من مزاولة النشاط السياسي لمدة خمس سنوات. لكن أربكان تمكن من إنشاء حزب آخر باسم: “حزب الفضيلة” بزعامة أحد معاونيه وهو محمد رجائي قوطان. وكما هي العادة تربص الملاحدة بحزب الفضيلة فقضت المحكمة الدستورية بحله في عام 2001.
بعد حل حزب الفضيلة نشأ حزبان إسلاميان في تركيا حزب السعادة برئاسة رجائي قوطان، وحزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، وبعد المؤتمر الدولي الثالث لحزب السعادة عام 2008 انتخب البروفسور/ نعمان كورتلموش رئيسا للحزب. نشأ حزب العدالة عام 2002 من المنشقين على حزب الفضيلة والذين يعتبرون أنفسهم تيار التجديد، وهم لا يعتبرون أنفسهم حزبا إسلاميا مثل أحزاب أربكان ويسمون أنفسهم “العثمانيون الجدد”.
كان رجب طيب أردوغان قد انضم إلى حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان وبعد الانقلاب العسكري عام 1980 انضم إلى حزب الرفاه وانتخب عمدة لاستانبول على قوائم الحزب عام 1994 وفي عام 1998 اتهُم أردوغان بالتحريض على الكراهية الدينية مما تسبب في سجنه ومنعه من العمل في الوظائف الحكومية ومنها الترشيح للانتخابات العامة بسبب اقتباسه أبياتاً من شعر تركي أثناء خطاب جماهيري يقول فيه:
 
مساجدنا ثكناتنا قبابنا خوذاتنا
مآذننا حرابنا والمصلون جنودنا
هذا الجيش المقدس يحرس ديننا
 
عودة إلى أربكان، فبعد انتهاء الحظر المفروض عليه عام 2003 تربص به ملاحدة أنقرة ليقدموه للمحاكمة بتهمة التحريض على الكراهية ومناهضة اللادينية حيث حكم عليه بالسجن لمدة عامين، إلا أن وصول حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان إلى السلطة – في نفس العام – مكنه من إلغاء عقوبة الحبس واستبدالها بتحديد إقامته في منزله، وبوصول عبد الله جول إلى سدة الرئاسة تمكن حزب العدالة والتنمية من استصدار عفو رئاسي عام عن أربكان وذلك في 18أغسطس عام 2008؛ لكن أربكان كان قد دخل مرحلة الشيخوخة (من مواليد 1926) وأصبح على كل حال طريح الفراش حيث دخل في صراع طويل مع المرض انتهى بوفاته في 27 فبراير 2011 في أحد مستشفيات أنقرة.
وهكذا رحل الفارس النبيل بعد حياة مليئة بالكفاح، نذر نفسه لخدمة الإسلام ولقي فيها حربا شعواء من ملاحدة تركيا، ومن الصهيونية العالمية التي حارب نفوذها في تركيا وحاول أثناء رئاسته للحكومة إغلاق محافلها من أندية الروتاري والليونز، وهو الذي سبق له أن قدم مشروع قانون إلى الجمعية الوطنية التركية عام 1980 يأمر الحكومة التركية بقطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، كما قدم في نفس العام مشروع قانون بحظر المحافل الماسونية في تركيا؛ ولعل هذا من أسباب الانقلاب العسكري عليه في نفس العام.
كان حصيلة الكر والفر بين أربكان وخصومه خمسة أحزاب إسلامية هي على التوالي: حزب النظام القومي، حزب السلامة الوطني، حزب الرفاه، حزب الفضيلة، وأخيرا حزب السعادة، هذا بالإضافة إلى انقلابين عسكريين أولهما في سبتمبر 1980 والثاني في فبراير 1997. بالرغم من كل الضغوط التي تعرض لها أربكان، فإن توجهاته الإسلامية واضحة لا لبس فيها، وأذكر أنه بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، وأثناء أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران، سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات اقتصادية على إيران. كان وزير خارجية تركيا وقتها خير الدين إركمان، ولم يكن قد صدر قرار بعد بشأن إيران، إلا أن وزير الخارجية التركي صرح بأن تركيا سوف تلتزم بهذا القرار فور صدوره. بطبيعة الحال لم يكن هذا في مصلحة تركيا حيث أن أكبر تعاملات اقتصادية خارجية لتركيا كانت مع إيران (كانت في ذلك الوقت ٣٧٪ من حجم التجارة الخارجية التركية) هذا بالإضافة إلى أن تركيا تستفيد من عبور البضائع عبر أراضيها وموانيها من وإلى إيران، هذا إذا نحينا اعتبارات التضامن الإسلامي جانبا. هنا انبرى له أربكان وحزبه، ولما رفض الوزير تقديم استقالته، طرح أمره على الجمعية الوطنية التي أقالته من الحكومة (عام 1979).
بالنسبة لي أنا على الأقل، فإن أربكان شخصية لا تنسى، تشعر معه بألفة غريبة وكأنك تعرفه من سنين، بل وكأنك تعرفه من قبل أن تراه. وليس هذا غريبا ففي الحديث: “الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف” (البخاري من حديث عائشة، ومسلم من حديث أبي هريرة واللفظ له). وبالنسبة لملايين الناس في تركيا وخارجها سيظل أربكان رمزا لنضال مستمر وأملا في مستقبل أفضل “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ” )١٧/الرعد-١٣(.
 
 
 
 
 
 
 
١٤٣٢/٠٣/٢٠٣/٢٨/٢٨٢٨
 
 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.