-
باحث في علم الاجتماع
الدولة الإسلامية: علينا احترام خصوصيتنا (قبل الأخيرة)
مصطفى إنشاصي
أوضحنا في الحلقة الماضية أن الغرب اختار النهج الديمقراطي لإقامة مجتمعاته العلمانية وإنشاء منظومته القيمية عن كل شيء معتمداً في ذلك على عقل الإنسان رافضاً أي مرجعية دينية، وأنشأ دوله المدنية معتمداً على الديمقراطية أساساً لاختيار أسلوب الحياة فيها دون أي مرجعية دينية، فالدولة المدنية هي الدولة العلمانية، والديمقراطية هي التطبيق والترجمة العملية للعلمانية نهج حياة وممارسة، أي أنها أيديولوجيا سياسية، وعلمانيو وطننا يُصرون على إقامة (دولة مدنية) على الطريقة الغربية تكون منفصلة انفصالاً تاماً عن الدين مرجعيتها الديمقراطية كمنظومة قيم ومنهج حياة!
حديثنا موصول عن الديمقراطية لأنها هي جوهر الصراع بين المناهج العلمانية والمنهج الإسلامي لأنه لو اتفق العلمانيون والإسلاميون على فهم واحد يتناسب مع خصوصية ديننا وتاريخنا الاجتماعي سنختزل الاختلاف في أضيق الحدود.
وقد أدرك صديقي البروفيسور رئيس المركز وهو علماني للنخاع أبعاد محاضرتي على أفكاره العلمانية ولأنه سبق قبل سبع سنوات (2004) بعد أول محاضرة لي عنده وكانت بعنوان: "الغرب والإسلام: الصراع الموضوعي والتوظيف السياسي"، أن علق:
"أن أسلوبي خطير جداً في توصيل المعلومة"!
فقد شن هذه المرة هجوماً شديداً متهماً إياي بالشوفينية ورفض الديمقراطية وهي مشترك إنساني يجب الأخذ بها، وطمئنني أن الديمقراطية لن تُحل ما حرم الله معتبراً أن البرلمانات العربية التي أحلت ما حرم الله ليست ديمقراطية لكنها كانت تُرضي الحاكم!
ودكتور آخر كان تعليقه أن الحكمة ضالة المؤمن وأن اختيار الناس للحاكم بالطريقة التي يرونها لا خلاف عليه، والدولة المدنية تعني العقلانية في بناء الدولة واحترام المواطنين والحفاظ على حقوقهم لذلك لا نرفض الديمقراطية!
قلت: بداية أنا لم أقل أني أرفض الديمقراطية، وثانياً قلتها مرات هنا وفي مراكز دراسات أخرى ونشرتها أنه من منطلق أن الحكمة ضالة المؤمن كما قال الرسول صلَ الله عليه وعلى آله وسلم وهو أحق بها أنا وجدها، فإن الديمقراطية كأداة ووسيلة لا أيديولوجيا ودين تشرع وتسن القوانين هي الحكمة والمشترك الإنساني يا دكتور والمسلم أحق بها من غيره، وقد ضربت أمثلة في محاضرتي تدلل أن المسلمون مارسوا الديمقراطية بأشكالها المختلفة لكن البعض لا يريد أن يصحح أخطاءه بل يريد تكريسها!
والإسلام لم يحدد طريقة بعينها لاختيار الحاكم وترك ذلك للمسلمين يختاروا الطريقة المناسبة لزمانهم وظروفهم، وأن اختيار أبو بكر خليفة كان ديمقراطية، وفوز عمر بالتزكية بعد اختيار أبو بكر له قبل وفاته وعدم ترشيح أحد من المسلمين نفسه ديمقراطية، وقيام عبد الله بن عمر باستطلاع وفرز أصوات أهل المدينة لمعرفة مَنْ يختارون أميراً من السبعة الذين رشحهم عمر قبل وفاته والاتفاق على تولي عثمان الخلافة وبعده علي لأنهما حصلا على أعلى الأصوات كل ذلك وغيره كان ديمقراطية بمفهوم العصر، فالديمقراطية كأداة مارسها المسلمون وهم يطبقون مبدأ الشورى في الحكم والسياسة واختيار حكامهم!
وكذلك يا دكتور بنوا الدولة التي تحترم حقوق مواطنيها وتساوي بينهم، فقول أبو بكر: وليت عليكم ولست بخيركم .. فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم .. ذلك مدنية ساوى فيها بينه كخليفة وبين أي مواطن.
وقول عمر إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني .. وقوله أصابت امرأة وأخطأ عمر .. وطلبه من ابنه أن يرد على الذي قاطعه في خطبة الجمعة قائلاً: لا طاعة لك يا عمر حتى تخبرنا كيف حصلت على ثوب يكفي كامل جسدك .. وكثير من الأمثلة التي ذكرتها في المحاضرة كل ذلك مدنية ومواطنة وحقوق فردية وعامة أساسها الإسلام وتحذيره من عواقب السكوت عن الحق، فما الذي يمنعنا من الأخذ بالديمقراطية ونحترم في الوقت نفسه خصوصيتنا الدينية؟!
وقد سبق أن قلت في محاضراتي ومداخلاتي هنا وفي مراكز أخرى: أن المسلمون عندما اتصلوا بالأمم الأخرى من خلال حركة الترجمة لم ينقلوا عقائدهم لكن نقلوا علومهم التي هي مشترك إنساني وضالة المؤمن وذلك احتراماً لخصوصيتنا الدينية. وكذلك الغرب عندما اتصل بالمسلمين وتأثر بعلومهم لم يأخذ عقائدهم احتراماً لخصوصيته التاريخية أيضاً، فالغرب يعلم أن تاريخه صناعة بشرية بامتياز ولم يكن يوماً نتاج أي دين سماوي، لذلك لم يأخذ الشورى لأنها مبدأ إسلامي في الحكم والاختيار أساسه ومرجعيته التشريع الإسلامي السماوي، وأخذ بالديمقراطية الإغريقية المعدلة لأنها الأنسب لمجتمعاته ومرجعياته الفكرية والأيديولوجية، أما متغربي وطننا للأسف لم يحترموا خصوصية ديننا وتاريخنا وبدل أن ينقلوا لنا المشترك الإنساني مع الغرب (علومه) كي ننهض ونتقدم نقلوا لنا عقائده (العلمانية والديمقراطية كأيديولوجيا ومنظومة قيم) تسببت في شق صف الأمة وتمزيقها!
وواصلت؛ وأحب أن أطمئنك يا دكتور أني لست قلق لا على الإسلام ولا على مستقبل الأمة ولا خائف من الديمقراطية ولا الدولة المدنية، فالإسلام هو دين الله تعالى وهو حافظه وأنا على يقين من أنه سينتصر ويسود الأرض، ولكننا أضعنا حوالي مئتي عام من الصراع الداخلي بسبب الترجمة الخاطئة لكثير من المفاهيم والمصطلحات الغربية التي شقت وحدة الأمة وشغلتها عن مواجهة عدوها، لماذا نُضيع المزيد من الوقت في الجدل والصراع حول تلك المفاهيم ولا نتفق على فهم واحد لها بدل إضاعة الوقت في تكرار تجارب فاشلة؟!
ثم ما دمت يا دكتور مطمئن إلى أن الديمقراطية لن تُحل ما حرم الله والدولة المدنية لن تنشئ في وطننا مجتمعاً على الطريقة الغربية لماذا ترفضون قبول الإسلاميين الديمقراطية كأداة؟ ولماذا يخاف العلمانيون والليبراليون من القبول بدولة مدنية بمرجعية إسلامية على الأقل سداً للذرائع من أن تأتي لنا الديمقراطية في المستقبل ببرلمانات يمكن أن تُحل ما حرم الله مثلاً؟! إن كنتم فعلاً تدركون خصوصيتنا الدينية والاجتماعية والأخلاقية وحريصين على أن تبقَ هذه الأمة متميزة في قيمها الحضارية بمعاييرها الإنسانية العالمية عليكم أن تصححوا أخطاءكم وأن تحدوا من تبعيتكم المطلقة للغرب وتحسنوا اختيار ما يصلح لنا منه!
أما الدكتور الذي قال: أن التاريخ الإسلامي أعطى نماذج سيئة لمبدأ الشورى في الحكم وضرب مثلاً بمعاوية بن أبي سفيان ومَنْ يعده! مع احترامي لرأيك دكتور، عندما أتحدث عن النموذج الإسلامي المثل والقدوة الملزم لي كمسلم لا أتحدث عن سُنة الرسول صلَ الله عليه وعلى آله وسلم والخلفاء الراشدين الذين أمرنا أن نشد عليها بالنواجذ، لأن ما أتى بعدها كان حكماً جبرياً عطل فيه معاوية العمل بمبدأ الشورى الإسلامي في الحكم والسياسة تحديداً، لذلك تطبيقاته وغيره ليست شورى ملزمة لي إلا ما كان منها صواباً، وما أنتجه الفكر الإسلامي في الحكم والسياسة وغيرها من نماذج هي اجتهاد بشري لي أن آخذ منها ما يصلح لزماني إن وجد، وأجتهد كما اجتهدوا في استنباط أحكاماً أو أساليب جديدة تصلح لي، أو أن آخذ من الأمم الأخرى وتجاربها ما يصلح لي ولا يتعارض مع ديني!
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى