مصطفى إنشاصي
لقد أصبحنا في حاجة لإعادة النظر في الترجمة الخاطئة لكثير من المصطلحات الغربية التي تُرجمت ترجمات تتناسب مع بيئتها الغربية تاريخاً وحضارة وتتعارض في معانيها ومدلولاتها مع بيئتنا العربية الإسلامية تاريخاً وحضارة وتسببت ومازال في الاختلاف والصراع حولها بين أبناء الأمة، من أجل استكمال التحرر من التبعية للغرب ووقف الصراع حول نوع الدولة التي نريد إن كانت مدنية بمرجعية إسلامية أو مدنية بمرجعية غربية!


وبدأ كلٌ يكيل الاتهام للآخر بالتبعية للغرب في الوقت الذي يُقر فيه العلمانيون والقوميون أن علاقة بعض الإسلاميين بالغرب وقبولهم بـ(الدولة المدنية ) وبالديمقراطية هو تكتيك للوصول إلى السلطة ثم ينقلبوا عليها (الديمقراطية)، في الوقت الذي هم فيه تبعيتهم للغرب تبعية منهج وفكر وسلوك فصلهم عن الأمة تاريخ وحضارة وواقع!


وطوال حلقات الموضوع حاولت أن أوضح أن الفارق بين الدولة المدنية والدولة الإسلامية هو فارق بين تاريخين وثقافتين (حضارتين)، حرصاً مني على مستقبل الأمة والوطن من أن يتطور الاختلاف بين أبناء الوطن الواحد إلى الاقتتال الذي يفتح أبواب الوطن للغرب ليدخل من أوسعها ويهيمن على قرارنا السياسي وعلى مقدراتنا المادية، ويعيد احتلالنا بأيدينا وبدل الحديث عن التبعية نعود للحديث عن التحرر من الاحتلال …!


واسمحوا لي أن أعيد القول: أن لكل مصطلح في لغته الأم معناه، ودلالته، ورمزيته، ويكون محصله عوامل ثقافية ونفسيه وتاريخية وحضارية عند ذكره يستحضر السامع له كل تلك العوامل جملة واحدة، ومصطلح (الدولة المدنية) هو مصطلح نشأ في المجتمعات الغربية وكان ثمرة صراع طويل لقرون بين الكنيسة والمفكرين الغربيين وعند ذكره فهو يُذكر سامعه بكل المصائب والمآسي والمعاناة والدماء والمشانق والحرق والصراع و… و… التي مارستها الكنيسة ورجال الدين في أوروبا لكل مَنْ اعترض على حكمها أو اكتشف ما يخالف ما ورد في ما يسمونه (الكتاب المقدس)، في الوقت الذي كانت ممارسة الإسلام والدول الإسلامية عكس ذلك مع العلماء ورواد الفكر … وقد استقر الحال في الغرب على خيار العلمانية.


وقد أوضحنا في محاضرة سابقة أن العلمانية في دوائر المعارف والموسوعات والقواميس الغربية ليست كما زعم مَنْ ترجموها ودعوا لها في وطننا طوال قرنين من الزمن أنها مشتقة من العلم أو العالم بمعنى العالمية، لكنها هي اللا دينية وأنها مضادة للدين وتهدف إلى إقامة نظام حياة لا علاقة للدين فيه، فصل الدين عن السياسة وشؤون الحياة في الغرب. وذلك لا يترتب عليه ثواب أو عقاب في الآخرة في الدين النصراني، لأنه ليس مثل الإسلام منهج حياة شامل للدنيا والآخرة، وهذا هو الفارق الجوهري بين النصرانية والإسلام الذي يرفض أن يدركه أشقائنا في الوطن من العلمانيين! وإن كان ذلك لا يعني عدم الأخذ بما في العلمانية من مشتركات إنسانية تدخل ضمن الحكمة التي هي ضالة المؤمن وأنه أحق بها أنا وجدها!


وقد اختار الغرب النهج الديمقراطي لإقامة مجتمعاته العلمانية وتطبيق أفكاره وآرائه البشرية (العلمانية) عن المنهج الأمثل من وجهة نظره لحكم الناس وتنظيم شؤون حياتهم، ولإنشاء منظومته القيمية الخاصة به عن العدالة والحرية والحقوق الفردية والعامة وغيرها. فالديمقراطية في الغرب ليست أداة اختيار لمعرفة الرأي العام حول مسألة ما أو رأي الأغلبية فقط لكنها منهج حياة تشرع وتسن القوانين التي تنظم حياة الناس، وتلك الشرائع والقوانين مرجعيتها ليست دينية ولكن عقل الإنسان وما تعارف عليه الناس (العلمانية)!


وكذلك فالديمقراطية في الغرب أيديولوجيا وليست وسيلة أو أداة، هي التطبيق والترجمة العملية للعلمانية نهج حياة وممارسة، ولو لم يفهمها أشقائنا في الوطن من العلمانيين كذلك لَما وجدت الأنظمة العلمانية في وطننا قرنت اسم جمهورياتها بالديمقراطية، وكذلك بعض الأحزاب أيضاً قرنت أسمائها بالديمقراطية!


كما أنهم لو لم يفهموها كذلك لما وجدتهم يثورون هذه الثورة في هذا الوقت ويعترضون على أن يفهمها الإسلاميين الذين قبلوا بها أخيراً على أنها أداة أو وسيله لمعرفة الرأي العام ورأي الأكثرية حول مسألة ما لا تتعارض مع التشريع الإسلامي والغايات العامة للإسلام، وأنهم يرون فيها وسيلة لتحقيق أعلى درجات التطبيق لمبدأ الشورى الإسلامي في الحكم والسياسة!


ويصرون على إقامة (دولة مدنية) على الطريقة الغربية تكون منفصلة انفصال تام عن الدين مرجعيتها الديمقراطية ليس كأداة لكن كمنظومة قيم ومنهج حياة مطلق، وتلك هي الدولة العلمانية يا صديقي الذي فرق بين الدولة العلمانية والدولة المدنية، معتبراً العلمانية فكر وإيديولوجيا والدولة المدنية أسلوب حياة، لأن أسلوب الحياة في الدولة المدنية أساسه العلمانية …!