كيف يمارس "التنظيم الطليعي" فعلَه السياسي، في بيئةٍ سياسيةٍ موبوءةٍ بكل الفايروسات المُعَطِّلَة؟!

إن أيَّ تصور سياسي لا يمكنه أن يتجسد على الأرض في حالةٍ حركية تُمارس عملَها على تغيير الواقع وتطويره لإعادة بنائه من جديد، إلا عبر التنظيم الذي يَحمل على كاهله تنفيذَ بنود المسيرة السياسية على جميع الصُّعُد والمستويات..

ولا يمكن خلق الإطار التنظيمي للحراك السياسي بمجرد التجمع الارتجالي واللاواعي، اعتقادا مِمَّن يتجمع بهذه الصورة، بأن بركة التجمُّع وحدها قادرة على كسب النصر والتقدم والنماء للعملية السياسية..

وإذا كان واقعنا الأردني يتطلب نوعا مُتَمَيِّزا من العمل التنظيمي القادر على الخروج بهذا الواقع من قمقم التخلف، فلا يَكْمُن تمَيُّز العمل التنظيمي في إضافة اسمٍ جديدٍ وجذابٍ إلى ركام الأسماء التنظيمية التي أُتْخِمَ بها هذا الوطن ولا يزال. ولا في ركوب موجة العمل ضمن هوامش الديمقراطية الهزيلة الملقاة لنا كفتاةٍ نلهو به وننشغل، بدون التَّسَلُّح بالوعي بكيفية تجيير هذه الهوامش لصالح هذا الوطن ولصالح هذه الأمة..

وإذا كان واقعنا العربي – وواقع الحالة الأردنية جزء هام من هذا الواقع – ينفتح عن معالم مرحلةٍ تاريخية جديدة تختلف عما سبقها من المراحل في كل شيء، فإن دخول هذه المرحلة بالتسلح بالحد الأدنى من القدرة على العطاء لهذه الأمة، يتطلب أكثر من مجرد البكاء على الواقع والحسرة على أمجادِ الماضي التي ولَّت، والتغني ببطولات رجالٍ عرفوا كيف يتعاملون في عهدهم مع واقعٍ تطلب كل عطائهم وطاقتهم وجهدهم لرفعة هذا الوطن وإعلاء شأنه في الأرض..

إن التنظيم السياسي سوف يَجد نفسه بالضرورة يعمل في اتجاه تحقيق إستراتيجياته التي يتبناها ككل، بدءاً من النقطة المُنجزَة، وعلى ضوء معطيات الواقع وما يفرضه من تكتيكات..

إن هذه الضرورة سوف تفرض عليه نوعا من التوازن الحركي، يتطلب منه إتقان فَنِّ التوفيق بين الإستراتيجيا والتكتيك، مدفوعاً دوما إلى اختيار التكتيك المناسب والموقف المناسب في الظرف المناسب..

إن على أيَّ فعل سياسي تُحْدِثُه حركة التنظيم، وعلى أيَّ موقفٍ سياسي تتبناه، سعيا منها إلى دفع الواقع إلى الأمام أو إلى مواكبته على أقل تقدير، ألاَّ يَخرجا عن الإطار الموضوعي للحركة، هذا الإطار الذي عليه بادئ ذي بدء، تحديدَ الممكنِ وربطَه بالهدف، من أجل استغلال هذا الممكن للوصول إلى ذلك الهدف..

من هنا فإن الحركية السياسية التي هي في صورتها النظرية إطارٌ للتصرف إزاء القضايا العارضة والمُلِحَّة، ليست مجرد قوانين مُتَحَجِّرَة أو أُطُر جامدة من السلوك المربوط بفهمٍ حرفي لنصوصٍ فُصِلَت عن واقعها وعن ظرفها الموضوعي، يهدد تجاوزُها أو القفزُ عليها بالضياع. بل هي وعي بحقيقة الواقع وقدرةٌ على التعامل معه ومن خلاله، في ضوء الرؤى الإستراتيجية للتنظيم. إن المزايدة في مجال السياسة تعني بكل وضوح التجاوز الخاطئ لشروط دفع الواقع في حركة صيرورته نحو الهدف الإستراتيجي..

ومع أن التَّزَمُّت في العمل السياسي الذي يقود به التنظيم نفسه والواقع من حوله، نحو أهدافه النهائية أمر مرفوض من وجهة النظر التكتيكية، إلا أن رفض التَّزَمُّت لا يعني الانعتاق والتحرر الكاملين من كلِّ ضوابط كبح اللهاث وراء التكتيك، ليغدو الفعل مجردا من القواعد التي تحكمه..

وبعبارة أخرى، إذا كان الجمود في التعامل مع الواقع وقطع الصلات به ومحاولة القفز عليه خطأً حركيا، فإن الصواب لا يكمن دوما في تبرير الطبيعة التَّعَرُّجِيَّة لأيِّ عمل سياسي حركي يمارسه التنظيم..

إن العمل السياسي الفاعل، علاوة على كونه يَخضعُ لقوانين حَيَّة، وتصوراتٍ واعية ومدركة، وتصرفات جريئة تتسم بالإقدام. فهو ناتج مع كل ذلك عن إرادةٍ تفهم ما تريد وتُخَطِّط بدقة وتؤدة لهذا الذي تريد..

إن العمل السياسي إذن ليس مجموعة من الأمنيات والآمال الطوباوية، بل هو عبارة عن وقائع وأرقام مقرونة باستقراءٍ وتحليل، ناتجة عن قرار وتصميم..

ومع ذلك فمن الضروري الإشارة إلى أن هذا العمل السياسي ليس مجردَ حاصلِ جمعٍ رياضي لتلك المفردات، بل هو المُحَصِّلَة التفاعلية في ساحة الحركة والصيرورة لكل ذلك..

إن أيَّ محاولة منا لفهم العمل السياسي على نقيض هذا، سوف تحوٍّلُه إلى مجرد مزاج ثنائي المظهر، يتجلى أحد مظهريه في السكون، ويتجلى المظهر الثاني في الطَّيْش، ليفقدَ هذا العمل بالتالي قدرتَه على التصرف الجدير بالانتقال بالمسيرة الحركية للتنظيم نحو الأهداف المَرْجُوَّة بخطىً ثابتة ومتّـزِنة..

إذا كانت بديهيات العمل السياسي تؤكد على حساسية اتخاذ القرار والتزام الموقف المناسبين في الوقت المناسب، من غير إغفال المعطيات الموضوعية التي يتم استنتاجها وتحليلها في سياق الحركة، فإن أيَّ قرار أو موقف سياسي يجب كي يتمتع بمستوى صوابيةٍ عالٍ، أن يكون قرارا أو موقفاً متوازنا مع المرحلة التي يُفْرِزُها وينكشف عنها الواقع الموضوعي، ومع متطلبات هذه المرحلة، وأن يكون قرارا أو موقفا صادرا عن قيادةٍ سياسية تملك وعيا كافيا بحركة المجتمع وبواقع السياسة الدولية، وأن تكون هذه القيادة على قسطٍ كبير من فهم فنون العمل السياسي، ومكانة كلٍّ من الإستراتيجيا والتكتيك في هذا العمل..

إن المشاعر الوطنية بكل أشكالها، بل وحتى الأعمال الوطنية أياًّ كانت، إذا اتَّسَمَت بالارتجالية، لن تكون كافية أبدا لكسب الانتصارات للتنظيم، أو لدفع الواقع خطوة إلى الأمام باتجاه أهدافه..

إن المشاعر الوطنية كي تكون في خدمة المسيرة الحركية للتنظيم وليس عبئا عليها، بحاجة إلى تفكير علمي هادئ وموضوعي يُسَدّْد خطاها في ضوء القوى التي تسود الواقع. وهي بحاجة أيضا إلى العقل الواعي الذي يستطيع أن يَتَلَمَّس لها بوضوحٍ حركةَ الواقع الموضوعي..

إن استخدام أكثر الشعارات إثارةً وأكثر الحناجر حِدَّةً، وأكثر المواقف جذريةً، كل ذلك لا يمكنه أن يؤدي إلى النتائج أو المقاصد التي تطمح إليها فئة ثورية ماَّ. كما أن كل ذلك يقف أمام الواقع المعقَّد والمترابط والمتشابك، عاجزا عن إفراز أعمالٍ قد تحتاجها المسيرة السياسية في مُختلف مراحلها..

إن ما يؤدي إلى إفراز تلك الأعمال التي ستؤدي بالتالي إلى الوصول إلى المقاصد التي ينادي بها التنظيم، هو الوعي الدقيق بأشكال التصادم اللازمة، لتحقيق درجة عليا من التقدم، في ظل القوى والاتجاهات التي تسود مرحلة معينة من مراحل صيرورة الحركة..

فمن السهل جدا الإعلان عن المقاصد والأهداف، والمناداة بها حتى تُبَحَّ الحناجر، لكن صُنْعَ هذه المقاصد في الواقع، أو صُنْعُ الطريق التي تؤدي إليها وإلى تحقيقها، شيء آخر بالغ التعقيد، يتطلب أكثر من الأقلام والحناجر. إنه يتطلب عقلا علميا يستطيع بإدراكه الواعي للواقع الموضوعي أن يُدَجِّن المشاعر ويَضْبُطَ الحناجر في سيادة الواقع..

إن مقياس تقييم الأعمال الذي يُفْتَرَض في التنظيم اعتماده في مُمارساته السياسية، وهو بصدد تغيير وتطويع الواقع لإيصاله إلى الأهداف التي يتبناها، هو مقياس الكفاءة والنجاح في العمل..

وهنا يجب التَّفْريق بين نوعين من الكفاءة والنجاح. نوع مؤقت، لأنه نجاح وصولي انتهازي يَعتمِد في إرساء دعائمه على الدعاية والمزايدة وعلى أخطاء الآخرين، أكثر من اعتماده على مقوِّماتِ نجاحٍ خاصةٍ به. ونوع دائم يُعَبِّرُ عن كفاءة أصيلة وخلاقة، لأنه يدل على المبادرة وعلى الأثر الإيجابي للمبادرة. إنه يدل على تَفَوُق صاحبه في التعبير عن حركة التاريخ أو عن إدراك منعطفاته. والتنظيم الناضج يركز على هذا النوع من النجاحات والكفاءات..

التنظيم تُفْتَرَض فيه إذن قدرتُه على التمييز بين الفكر العلمي الموضوعي الذي يَخدم قضيته، وقضية التغيير والتحرير اللذين يطمح إليهما، وبين الفكر الارتجالي الذي يُقَدِّم مفاهيمَ اعتباطية بإمكانها أن تكسب قبولا آنيا عابرا بسبب عاطفي جذَّاب..

ويلتزم هو بالأول رغم ما قد ينطوي عليه من حقائق وما قد يفرضه من مُمارسات لا تُرْضي الرَّغبات الآنية والمشاعر العابرة لهؤلاء الذين لا يريدون الأمور إلاَّ مُنْجَزَة. الأمر الذي يجعله يُمارس حركية ديناميكية فعاَّلة ومرنة وواقعية، ليست صورةً من صُوَرِ المذهبية المتزمِّتَة التي لا ترى في الأحداث أو تقبل منها إلاَّ ما يتصل بها أو ما ينسجم مع منظورها العقائدي أو تصورها النهائي بصورة مباشرة، بل ترى في الأحداث واقعا تَجبُ مناورته بُغيةَ توجيهه مرحلة مرحلة وخطوة خطوة نحو مقصدها الأخير..

إن الجماعات والأحزاب والاتجاهات والقوى السياسية، حين تجد نفسها مهزومة نضاليا إزاء تجمعات سياسية أخرى تشاركها ساحة الفعل السياسي، تزداد جذرية في أيديولوجيتها وفي مواقفها، لتغطية الهزيمة المسلكية التي مُنِيَت بها على صعيد الممارسة أو على صعيد الأيديولوجيا..

إن المطلب الأيديولوجي يزداد قوَّةً وإلحاحاً وصداميةً بالنسبة للمهزوم عمليا وحركيا. وليس المقصود بالهزيمة في هذا السياق، الهزيمة أمام العدو، بل الهزيمة التنافسية أمام الشركاء الذين يصارعون العدو نفسه. لذلك فإن هذا المهزوم كي يتمكن من البقاء والاستمرار والمحافظة على ثقته بنفسه وبالمستقبل، يحتاج إلى مواقف أيديولوجية ذات طابع ممارساتي أكثر جذرية، يُبَسِّطُ فيها الوضع العام، ويُحَوِّلُه بالتالي إلى ثنائية بسيطة وساذجة مُكَوَّنَة من خير وشر. وهكذا تخسر الأيديولوجيا أو الإستراتيجيا علاقتَها بالواقع المتحرك، وتظهر وكأنها تعمل منفردةً معلقةً في فراغٍ لعالمٍ غير عالم البشر..

إن عجزَ بعض الاتجاهات السياسية عن إدراك طبيعة الواقع الموضوعي المستقل، يُذَكِّرُنا بمرحلة الطفولة أو المراهقة، وينطبق عليهما. فالمراهقة مرحلة يصبو فيها الفرد المراهق إلى مُثلٍ عليا، ولكن دونَما وعيٍ بصلتها بالواقع وبالتاريخ. والطفولة تعني نزوعَ الطفل إلى تحقيق رغباته رأسا ومباشرة ودفعة واحدة. وعندما يتعذر عليه ذلك يبدأ بالبكاء والصراخ. وربما يذهب إلى تكسير كل ما تصل إليه يده. هذا يعني بوضوح أن الطفولة مرحلة لا يستطيع فيها الطفل أن يعيَ مبدأ الواقع الموضوعي..

فالطفولة وهي في مرحلة منها التعبير عن واقع الطفل وهو لا يزال عاجزا عن الحركة، تعني شعورا بقدرةٍ كَلِّيَّةٍ يؤمن معها الطفل بأن العالمَ امتدادٌ لذاته، يتجاوب مع هدفه لأجل الغذاء والدفء والنوم والحرارة الإنسانية. ولكن فيما بعد عندما يبدأ الطفل بالاعتراف بوجودِ عالمٍ خارجي مستقلٍّ عن مشاعره وإرادته، فإنه يجد نفسَه دون سُلطةٍ تقريبا، ويعتمد كَلِّياًّ في حياته نفسها على عناية الكبار الذين لا يُمارس عليهم أيَّ سلطةٍ أبدا. وفي مرحلةٍ لاحقة يحاول الطفل سيادة طاقته النفسية والعضوية، ويتعلم أن يتَّخِذَ من الكبار نماذجَ يقلدها في سلوكه. هذه السِّمات التي تُمَيِّز الطفولة، تكشف كما يتضح عن قرابةٍ كبيرة مع السِّمات التي تُمَيِّز العديد من الفئات والتجمعات والحركات السياسية المعاصرة في الوطن العربي، لذلك لم يكن غريبا الإشارة إليها كفئاتٍ طفولية..

إن الموقف الوطني المتشوِّق إلى بناء مجتمع جديد أو إلى التَّحَرُّر من عدو محتل، إذا لم تحكمه عقلانية متميزة، يرى نفسه مدفوعا بشكل آلي وعفوي إلى تخطي المراحل والأطوار المترابطة. هذا بدوره يجعل الفئة السياسية التي تندفع على هذا النحو، نافذةَ الصبر أمام الحواجز الموضوعية، ضيِّقة الصَّدر بكل ما يعترض طريقها، قليلة الاحتمال لكل منطق يذكِّرُها بموضوعية الواقع وباتجاهاته المستقلة التي يجب العمل فيها ومعها وعدم تخطيها..

إن الانضباط الموضوعي يصبح أمرا لا يُطاق عند هكذا فئات، لأنه يعني الانتظار الطويل في الانتصار على النظام القائم أو حتى في تسجيل انتصارات مهمة ضدَّه، فتتعامل مع الواقع بصورةٍ تُفْقِدُها الانضباط لتنزلق بالتالي إلى عالمٍ من التصورات الذاتية التي لا تلبث أن تقطع علاقتها بِمُكَوِّنات الواقع الموضوعي وبظروفه الطبيعية التي لا يمكن تخطيها في سياق الفعل الحركي إذا أُريدَ لهذا الفعل أن يُحققَ نتائج ملموسة في ساحة الصراع السياسي..

إن ما أسهبنا في شرحه وتوضيحه فيما مضى من مواصفاتٍ للتنظيم السياسي الذي يُخطط للنجاح ولتحقيق أهدافه في المجتمع الذي يتحرك به ولأجله، تجعلنا نكتشف السر الحقيقي الكامن وراء عدم وجود تنظيم طليعي حقيقي في الأردن حتى الآن، والسبب بالتالي، وراء بَحْث الناس عن بطولات فردية أصبحت عندهم أكثر قدرة على مناغشة أطراف آمالهم المستحيلة، من قدرة هياكل تنظيمية بائسة وميتة على فعل ذلك..

لقد فشلت كافة التنظيمات السياسية والقوى الوطنية العاملة في الأردن في أن تُجَسِّدَ المواصفات الحقيقية للتنظيم الطليعي الفاعل والناجح والقادر على تحريك الناس وإقناعهم بأن مصيرَهم مرهونٌ بالاصطفاف وراءه كطليعة..