وحي المكان وأثره في نمط السلوك

لو فكر أحد مربي النحل بنقل إحدى الخلايا لمسافة مترين فقط، دون أن يتخذ الاحتياطات الواجبة، فإن أفراد الخلية التي خرجت من الخلية لن تستطيع العودة إليها مطلقاً.


ولو تعودت مجموعة من الأبقار الحلوب أن تقف أمام مدخل حظيرتها أو محلبها الأوتوماتيكي في ساعة محددة، فإن مربيها يستطيع أن يضبط ساعته على انضباط الأبقار، ولكنه لو بنا ذلك المدخل بالطوب وألغى الدخول منه، لبقيت الأبقار مدة طويلة تلتزم بالوقوف بذلك المكان حتى لو كان مغلق.

فالمكان ليس مجرد مساحة أو حيز يتواجد ضمن أبعاد معينة وإحداثيات مرسومة، بل هو محكوم بمجموعة من العوامل التي تتدخل في تشكيل الذاكرة المرتبطة به والموجهة للسلوك ضمنه.

يستطيع شخصٌ ما أن يتناول غذاءه بالطريقة التي تعود عليها في بيته، فهو قد يمزق قطعة اللحم بيديه كالوحش ويصدر صوتاً في المضغ، دون أن يبالي بما سيقوله أفراد أسرته، هذا إن قالوا! فهم قد يشاركونه في شكل وطريقة تناول الغذاء. لكنه هو أو أحد أفراد أسرته إذا ما تمت دعوتهم لوليمة عند آخرين، أو أنهم ذهبوا لتناول طعامهم في أحد المطاعم، فإن سلوكهم سيتغير في الغالب، ويصبح قائدهم في السلوك هو من ينتقد أخطائهم ويوجههم هامساً أن يهذبوا طريقتهم في تناول الطعام.

قد يخرق أحد وجهاء قرية أو مدينة صغيرة نظام (الطابور) المصطف أمام (فرن) لبيع الخبز، باعتبار أن الموجودين لن يعترضوا (علناً) على عدم التزامه، كونه شخصية معروفة، يجب تكريمها! ولكنه إن انتقل الى مدينة أخرى أو بلدٍ آخر سيتجنب مثل ذلك الخرق، أو حتى لا يفكر فيه.

نبرة الصوت وموضوع الحديث، لا تشذ عن تلك القاعدة، فالمكان الذي يجمع (صُحبة) تعودوا الحديث بحرية كاملة عن مختلف المواضيع، وبصوت عالٍ، خصوصا تلك التي تتناول أخطاء الموظفين في أجهزة الحكومة بتفاصيل كثيرة، سيتغير نمط حديثهم وعلو صوتهم تغيراً كبيراً، ويصبح المرتشي الذي كانوا يتناولونه بحديثهم، شخصاً خدوماً و(معشرانياً) وصاحب نكتة لطيفة!

الغناء المنفرد على ظهر بعير في بادية، وكسل العينين في مراقبة فضاء الصحراء، لا يكونان ذاتهما في مركبة عند إشارة ضوئية في شارع من ثمانية مسارب، ولنفس الشخص، فليس هناك وقت (للعتابة) ولن يكون ذلك البؤبؤ الذي كان في راحة كاملة في الصحراء، هو نفسه الذي يراقب السيارات من على الجانبين والتي أمام السيارة أو خلفها.

إن للمكان سلطة ووحي، يتعرف عليه الكائن الحي والإنسان، دون أن يدخل دورات متعددة لمعرفة أثره.