صاحب عمود المرمر في آجيا صوفيا...بقلم آرا سوفاليان
عندما استقلت اليونان في العام 1828 وبدأت روسيا القيصرية زحفها بإتجاه الأراضي العثمانية رأت السلطنة العثمانية أن هناك خطراً جدياً قادماً يهدد بتفكك الدولة وخاصة من الغرب حيث ان الدول البلقانية بدأت تتحرر، ومن الشرق حيث بدأ الأرمن بالتطلع الى الحرية ولكنهم لم يتحدثوا عن الاستقلال بل كان مطلبهم هو الإصلاح وتحسين ظروفهم.
وعد الأتراك الاتحاديون الارمن والعرب واليونان بقيام دولة ديمقراطية تحفظ حقوق الأقليات ولكنها لم ينفذوا، وجاءت خسارة الحرب في ليبيا عام 1911 وفي البلقان عام 1912 لتعقّد المسألة أكثر، فعقد الاتحاديون مؤتمراً قرروا فيه انشاء دولة صافية عرقياً، وهذا الحل هو حلّ طائش وسريع سببه ايواء 900 ألف نازح تركي هربوا من البلقان بإتجاه تركيا ولا يمكن توطين هؤلاء بدون ابادة الارمن واليونانيين وسلبهم اراضيهم وقراهم وبيوتهم وحقولهم وارزاقهم ومنحها للوافدين الجدد وتوطينهم فيها ومنحهم سبل العيش.
في تموز من العام 1914 كان حزب الاتحاد والترقي يعقد مؤتمره العام الثامن في أرضروم، وحضر أنور باشا وزير الحرب في الدولة العثمانية هذا المؤتمر ليقول إن تركيا ستدخل الحرب الى جانب المانيا، وطالب الأرمن وحزب الطاشناق الذي كان العمود الفقري للأرمن بأن يقوموا بحثّ الأرمن القاطنين في روسيا على الانتفاضة ضد القيصر الروسي وعلى المساهمة في تغلغل الجيش التركي إلى داخل المناطق القوقازية الجنوبية لتأمين تواصل الدولة العثمانية مع الشعوب التركية القاطنة إلى الشرق من هذه المناطق.
الشخص العادي يدرك بالطبع ان هذا الطلب يتفوق على امكانات الارمن وقدرتهم فهم لا يستطيعون تأليب ارمن روسيا على قيصرهم، وليست لهم فرق تساعد على تغلغل الاتراك الى خلف الخطوط الروسية لأن شبابهم أصلاً يخدمون في صفوف الجيش العثماني، فتحدثوا عن انفسهم فقط وليس عن أرمن روسيا فقالوا: اننا سنقوم بواجباتنا كمواطنين صالحين تجاه الدولة العثمانية وجيشها، وبالطبع فإن هذا التعهد سيجعل من ارمن تركيا في مواجهة ارمن روسيا وفي الخطوط الاولى، فيقتل الأرمني أخاه الأرمني على الطرف الآخر من الحدود، ولم يعجب هذا التعهد الاتراك الذين كانوا يصرّون على ما لا طاقة للأرمن به ويريدون ان ينجح أرمن تركيا في تأليب ارمن روسيا على قيصرهم، وضمان انشاء كتائب من المتطوعين يتولجون ايصال الكتائب التركية الى خلف خطوط القيصر.
إن هذه المحاولة في التأليب هي خارج امكانيات ارمن تركيا، وأرمن روسيا ليسوا اغبياء ولن يتعاونوا في امر يعرفون ان الابادة هي ابسط نتائجه فمن يجرؤ على عصيان القيصر؟ كان الاتراك يعرفون بأنهم دفعوا مواطنيهم الارمن الى حافة الهاوية وان الارمن لا يمكنهم تقديم خدمة ليست بمتناول يدهم وكان الاتراك يعرفون النتيجة وهي لا تهمهم بالطبع، لقد كان يهمهم العثور على سبب يبرر الابادة .
وبالعودة إلى التاريخ نرى انه عندما اعلنت السلطنة العثمانية الحرب على روسيا في تشرين أول عام 1914 جندت الأرمن وأخذتهم إلى ساحة المعركة لاعتقادها بأن انهيار الدولة القيصرية سيكون قريبا وخلال ايام معدودة بحسب الوعد الذي بذلته ألمانيا، واكتشف الاتراك أن هذا الوعد ليس صحيحاً، فلقد انهارت الجبهة الشرقية تماماً في معركة صاري قاميش وتمكن الارمن من حمل وزير الدفاع انور باشا الذي جرى تطويقه من قبل الروس وهربوا به الى الخطوط الخلفية وقتل حوالي 60 ألف جندي تركي كان معظمهم من الارمن.
قال العثمانيون إن الأرمن الذين كانوا يخدمون في تلك المعركة تخاذلوا عن اداء واجبهم تجاه السلطنة العثمانية، وهذا غير صحيح اطلاقا لأن أعداد الأرمن الذين قتلوا في "صاري قاميش" تفوق أعداد الجنود الذين قتلوا من القوميات الأخرى، وكان انور باشا قد اعترف ببطولة الجنود الارمن واعترف بإنقاذهم له من الوقوع في الاسر واعاد هذا الاعتراف في مذكراته وقال ان شرفه العسكري يفرض عليه الاعتراف بفضل الجنود الأرمن، ولكن سبق االسيف العذل.
وقرر الاتراك أن الوقت قد حان لتطهير تركيا من الأرمن بحيث جُرّد الجنود الأرمن على الجبهة من السلاح وجُنّدوا في أعمال البناء والتذخير والسخرة ليصار بعد ذلك إلى تصفيتهم، لعلمهم اليقين ان هؤلاء الجنود إن عادوا إلى ديارهم فقد يشكلون عماد المقاومة التي لن تمكن الأتراك من ترحيل وإبادة النساء والأولاد والشيوخ الذين كانوا لا يزالون في بلدانهم وقراهم.
فوت الارمن على قيصر روسيا في صاري قاميش حفلة شواء كان قيصر روسيا يتطلع لأن يكون انور باشا قائد الجيش العثماني ووزير الحربية من روادها ولكن ليس على المائدة بل على سيخ الشوي.
تابع القيصر بإتجاه فان وكان أهل فان قد اعلنوا العصيان المسلح على الاتراك فلقد فهموا الخدعة التركية التي كانت ومعها أصحابها تبحث عن ايجاد مبرر للإبادة، ولم تنطلي عليهم ابداً ولم يرضخوا لوعود الاتراك ولم يهادنوا ولم يفاوضوا، واعلنوا العصيان المسلح، وانتظروا المدد فلم يصلهم واستبسلوا وهم ينتظرون القيصر الذي وصل ولكن بعد فوات الاوان فلقد وصل ارتفاع جثث المقاتلين الأرمن في فان الى مستوى أعلى من الخنادق والستائر والاسوار الدفاعية.
وكان الاندفاع البطولي للقيصر وجيشه، ذلك الاندفاع بإتجاه الغرب والذي لن يتوقف إلا في القسطنطينية وفي كنيسة آجيا صوفيا بالذات وعلى عمود المرمر الذي يتوسط باحتها.
حيث يذكر التاريخ ان المعارك توقفت في القسطنطينية ظهر يوم الثلاثاء 29 أيار 1453 وضاعت امبراطورية الروم البيزنطية وضاعت معها كل الشعوب المسيحية في الشرق لتدخل في طور الرق والعبودية، وهرع الناس يومها الى كنيسة آجيا صوفيا وتحلقوا حول عمود المرمر في الباحة، وكانت الأسطورة تقول انه عند سقوط المدينة سيرسل الله ملاكاً بيده سيف من نار، سيتكفل لوحده بإبادة الاعداء وانقاذ المدينة وأهلها، وسجد الناس في الكنيسة وفي باحتها وأمام العمود وايديهم مرفوعة للسماء يبكون ويتضرعون لله أن ينقذ المدينة، وانتظروا الملاك...ولكن الملاك لم يصل أبداً.
ولا بد ان القيصر نيقولاي الثاني وفي زحفه المظفر نحو الغرب كان يعتقد في يقينه انه هو الذي سيصل عوضاً عن الملاك الأسطورة الذي تأخر وصوله كثيراً، ليعيد الكرامة المسلوبة من مسيحيي الشرق جميعاً وليعيد للقسطنطينية فرحها وبهاؤها، وصوت اجراس كنائسها، وليعيد لآجيا صوفيا مجدها، وعاش مسيحيوا الشرق على هذا الأمل ومنهم الارمن.
فطن حكام العالم الفعليين وهم اسياد المال والذهب والماس ولوحات كبار الرسامين، واصحاب المحافل الماسونية الكبرى في برلين وباريس ولندن وسويسرا فطنوا الى أن عاقبة هذا الاندفاع الجنوني نحو القسطنطينية هي تدمير السلطنة العثمانية وخلق شريك جديد سيفرض نفسه في اللعبة الدولية وهم لا يريدون هذه الشراكة القسرية ولا صاحبها فتغيرت خطط اللعبة الى ما يلي:
بدأت أعمال الشغب في الأوساط العسكرية في روسيا كلها، وهذا أدى إلى قيام ثورة شباط عام 1917 فترك القيصر كل شيء وعاد الى عاصمة ملكه ولكن بعد فوات الأوان، فلقد أرغم القيصر نيقولا الثاني على التنازل عن العرش في آذار 1917، وتم إعتقاله وأفراد أسرته جميعا وابعدوا الى سيبيريا، واستلم البلاشفة السلطة في تشرين الأول عام 1917 وتدهورت أحوال البلاد، فنقل القيصر نيقولا الثاني وأفراد أسرته إلى يكاترينابورغ ، وهناك ارتكبت بحقهم مؤامرة وحشية في ضواحي مدينة يكاترينابورغ (إقليم الاورال) تم فيها التخلص من جميع أفراد أسرة آل رومانوف بما فيهم الأطفال رميا بالرصاص في 15 تموز عام 1918.
حيث تم اعدام القيصر وزوجته وبناته اناستاسيا وتاتيانا وأولغا وولي عهده الأمير اليكسي وشقيقته الصغرى ماريا، واحاط البلاشفة هذه العملية الدنيئة بالسرية التامة لعشرات السنين، واعتبرتهم الكنيسة الروسية الارثوذوكسية في عداد الشهداء، بعد ان تحررت هي الاخرى من قيود الشيوعية التي كادت ان تذهب بها لتجعلها أثراً بعد عين.
وقد تمّ مؤخراً تشييد كنيسة في الموقع الذي عثر فيه على رفاة الاسرة المالكة وأطلق عليها تسمية "كنيسة جميع القدسين" (كنيسة الدم المراق) وتم دفن البقايا الملكية التي عثر عليها في مدفن عائلة رومانوف بكاتدرائية بولس وبطرس في سانت بطرسبورغ.
وهكذا فلقد ضاعت احلام القديس نيقولا الثاني ومن خلفه كل مسيحيي الشرق، ولكن هذا الضياع ليس أكثر من ضياع مؤقت لأن سلسلة القديسين لا تنتهي، فهناك القديس نيقولا الأول والثاني والثالث... ونيقولا الفاتح الذي سيعيد القسطنطينية الى أصحابها الحقيقيين.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق الجمعة 14 06 2013
arasouvalian@gmail.com