مركزية القدس والأقصى: فلسفة الإحساس بالمنطق (الحلقة الخامسة)
مصطفى إنشاصي
في السبي البابلي قام اليهود بتحريف عقيدتهم السماوية وتشويهها وإفراغها من بُعدها الإلهي إلا النذر اليسير منه؛ متأثرين بالأفكار والعقائد والفلسفات البشرية التي كانت شائعة بين الشعوب الوثنية في ذلك العصر، وقد كان أكثر الفلسفات التي تأثرت بها اليهودية هي الفلسفة الغنصوية، يقول الدكتور(على سامي النشار):
"أثرت الغنصوية في اليهودية وسيطرت على فيلسوفها الكبير فيلون ... وإن اليهودية مسخت التعاليم السماوية المقدسة ومزجتها ببعض المفاهيم الوثنية فقد تأثر اليهود بالديانة البابلية القديمة، وقبل سبي بابل لم يكن المعبد اليهودي قد أخذ شكله القائم على التعصب والغدر والخيانة، وحولوا كثير من القيم الخيرة إلى أفكار تحث على التعصب وتؤكد أن المعبد بحاجة إلى إراقة الكثير من دماء القرابين، لكي تنتشي الآلهة العطشى التي لم تكن في حقيقتها إلا ردود الفعل لدي بعض المتعصبين، وإعادة كتابتها بشكل يجعل من بني إسرائيل قوما مفضلين على غيرهم في عروقهم دماء التعصب، في الوقت الذي ينظرون فيه إلى غيرهم من أهل الأرض نظرة وضيعة. وانقلبت التعاليم الدينية الخيرة لدى اليهود إلى مخططات سياسية واقتصادية استخدمت القيم الدينية الخيرة كغطاء لإضفاء نوع من القدسية والشرعية على ما ترتب من جرائم القتل والاستباحة والابتزاز والاغتصاب، وبذلك انقلب الدين اليهودي إلى ما نسميه باليهودية وهي نزعة ميكافيللية قبل أن يوجد ميكافيللي"[1].
وقد أدرك اليهود منذ بداية عهدهم أنهم قليلي العدد مقارنة مع شعوب الأرض وأضعف منها في القوة والعتاد ولا يستطيعون مواجهتها مواجهة سافرة في ميادين القتال، وأنهم إن أرادوا الانتصار على تلك الشعوب والهيمنة عليها وتسخيرها لخدمتهم وخدمة مخططاتهم ومصالحهم فإنه عليهم كما شوهوا عقيدتهم السماوية أن يشوهوا كل عقيدة دينية سماوية أو أرضية تخالف عقيدتهم أو تشكل قيمها وأخلاقها عقبة ومانع في طريق تحقيق مخططاتهم في استعباد كل بني آدم وتسخيرهم لخدمتهم، لذلك عمدوا إلى تخريب أديان عقائد وأفكار وفلسفات الشعوب الأخرى وطبعها بخرافاتهم العنصرية ونزعة الاستعلاء الشيطانية لتحقيق اختراق حقيقي يمكنهم من تدمير مجتمعاتهم وتوجيههم الوجهة التي تخدم مصالح اليهود. واتخذوا الخداع والغدر والكذب والفتنة وغيرها وسائل مشروعة دينياً وخُلقياً لاختراق تلك الشعوب وتدمير معتقداتها الدينية وهدم قيمها الأخلاقية والاجتماعية، وتحطيم الحياة العائلية والاستقرار الأسري وكل ما دعت إليه الأديان من أخلاق كريمة فيها خير الإنسان. كما لجئوا إلى إثارة الفتن والصراعات والحروب الداخلية ودعم طرف ضد الآخر أو حتى كلا الطرفين ضد بعضهما، وإيقاظ الروح القومية والشعوبية لتقسيم الأمة الواحدة إلى أمم وشعوب وطوائف ومذاهب يسهل عليهم اختراقها والتغلغل فيها وتغذية الفتن بينها لإضعافهم والسيطرة عليهم وتسخيرهم لتحقيق غاياتهم. ولأنهم أحرص الناس على حياة وإن كانت حياة الذل فإنهم لم يعلنوا عن غاياتهم الخبيثة ضد تلك الشعوب ولم يتخذوا المواجهة والصدام وسائل لتحقيقها بقدر ما اتخذوا التملق والمداهنة والنفاق وسائل لخداع تلك الشعوب ولفت نظرها بعيداً عن عمليات الهدم والتدمير والاختراق التي يقومون بها ضدها على جميع الصُعد.
تأثير اليهودية في الفلسفات الغربية والأديان
وقد استطاع اليهود أن يطبعوا فكر الغرب منذ زمن الإغريق والرومان بالروح والأفكار اليهودية، وأن يكسبوا الفلسفة الإغريقية والرومانية شخصيتها اليهودية، وتلك الفلسفات هي التي تسيطر على طابع الحياة في الغرب في هذا العصر، فالغرب يعتبر أن مناهجه وفلسفاته المعاصرة هي امتداد لتلك الفلسفات الرومانية والإغريقية المعادية للإسلام وكل الرسالات التوحيدية. ومن المعروف أن الفيلسوف اليهودي فيلون* الذي كان متأثراً كثيراً بالفلسفة الغنصوية قد عاش في عهد اليونان في الإسكندرية، وفي ذلك العهد تم ترجمة التوراة إلى اللغة الإغريقية التي كانت لغة الإمبراطورية وشعوبها حتى تنتشر أفكار التوراة والفلسفة الغنصوية بين تلك الشعوب. يقول أحد الباحثين:
أما الفلسفة اليونانية والرومانية فقد ثبت أنها تخفي في طياتها شخصية يهودية على أمل إقرار السيادة اليهودية على تلك الشعوب بواسطة تلك المعارف – وهذا حال أوروبا وأمريكا اليوم – ذلك أن "فيلسوفاً يهودياً قد ادّعى مطابقة أفكار بعض فلاسفة اليونان أمثال أفلاطون وسقراط مطابقة تامة لقواعد اليهودية وأوامرها". وزعم حاخام اليهود وفيلسوفهم الشهير (فيلون): "أن النظريات اليونانية مقتبسة من عقائد يهودية وهي نفس ما جاء في دين اليهود ولكن باللغة اليونانية"[2]. كما أن "قسيسا يدعى (أوزيب) نشر في أحد كتبه بعض فصول كتاب (نومي موسى) القائلة بفكرة أخذ فيلسوف اليونان أفلاطون كثيراً من أفكاره عن موسى عليه السلام". وذلك العمل قام به اليهود لأن: "الحاخامين كانوا يضعون خيوطهم لجر المدنية الغربية النصرانية نحو اليهودية"[3].
وقد استمرت عمليات التدمير والتخريب والاختراق على جميع الأصعدة والمستويات في الدولة الرومانية قبل بعثة المسيح عليه السلام، فالإمبراطور الروماني (فشيشرون) مثل أباطرة كثيرين أبدى قلقه من اليهود وعدم ارتياحه لممارساتهم المختلفة في إمبراطوريته[4].
كما حاول اليهود قبل اعتناق الدولة الرومانية للنصرانية ضرب النصرانية والقضاء عليها في مهدها بقتل نبي الله عيسى عليه السلام ولكنهم فشلوا، وبعد أن رفعه الله تعالى إلى السماء حاولوا القضاء على تلامذته وأتباعه من خلال تحريض الأباطرة الرومان وحكام ولاياتهم ضد النصارى فلم يستطيعوا. وبعد اعتناق الدولة الرومانية للدين النصراني وجد اليهود أنفسهم ضعفاء ولا يستطيعون مقاومة، خاصة وأن الرومان بدءوا ينظرون إليهم على أنهم قتلة المسيح – حسب اعتقادهم-، لذلك لجئوا إلى مواصلة الجهود اليهودية التي بدأت مع بعث عيسى عليه السلام لتحريف رسالته السماوية وتحويلها إلى ديانة وثنية، تلك الجهود التي بدأها (بطرس)
أحد الحواريين الذي حاول تهويد دعوة المسيح وقد ذكره المسيح باسمه ولا تزال هناك إشارات في الأناجيل تشير إلى دور بطرس في تهويد النصرانية. فقد جاء في (إنجيل متى 6/23): "فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ:"اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ".
وقد أكمل الحاخام اليهودي (بولس الرسول) الذي تظاهر باعتناق النصرانية ما بدأه (بطرس)، ونقل رسالة المسيح عليه السلام إلى قلب الإمبراطورية الرومانية (روما) وعمل على تخريبها من الداخل، ونقل إليها الكثير من أفكار الإغريق والرومان والوثنية المنحلة وغيرها من أفكار وفلسفات هدامة كانت شائعة في ذلك العصر، ما أبعدها عن روح التعاليم السماوية التي دعا إليها المسيح وجعلها خليط ومزيج من العقائد التي كانت سائدة في الإمبراطورية الرومانية آنذاك. فبولس هو الذي أدخل فكرة التثليث والقول بإلوهية المسيح وأنه قام من الأموات وصعد ليجلس عن يمين أبيه. كما ابتكر خرافة العشاء الرباني وغفران الذنوب مستمداً ذلك من الفلسفات الإغريقية والوثنية، ونادى بإلوهية الروح القدس، ودعا إلى عدم ضرورة الختان، واخترع قصة الفداء، وهو الذي نقل (المسيحية) من كونها ديناً خاصاً ببني إسرائيل وجعلها دينياً عالمياً، لقد كتب أربعة عشر سفراً تعليمياً من أصل إحدى وعشرين رسالة تشكل مجموعة الرسائل التي تعد مصدراً تشريعياً فيالنصرانية. لذلك هناك شبه إجماع لدى كثير من مؤرخي الفكر الغربي أن (المسيحية) الرسمية، أو (مسيحية بولي) أي بولس التي نشرتها الكنيسة ابتداء من سنة (325م)، ليست هي (المسيحية) التي نزلت على المسيح عليه السلام. يقول المؤرخ الأمريكي (برنتن) : "إن المسيحية الظافرة في مجلس نيقية العقيدة الرسمية في أعظم إمبراطورية في العالم مخالفة كل المخالفة لـ(مسيحية المسيحيين) في الجليل، ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة (المسيحية) لخرج من ذلك قطعاً لا بأن (مسيحية) القرن الرابع تختلف عن (المسيحية) الأولى فحسب، بل بأن (مسيحية) القرن الرابع لم تكن (مسيحية) بتاتاً"[5].
وعندما جاء الإسلام حاول اليهود جهودهم أن يحرفوه كما حرفوا النصرانية وأفرغوها من روحها السماوية وحولوها إلى ديانة وثنية بشرية وضعية مثل بقية الديانات الأرضية البشرية، ولكنهم فشلوا لأن الله تعالى تعهد بحفظ دينه إلى يوم القيامة. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9). لذلك سعوا إلى تحقيق اختراق داخلي في المجتمع الإسلامي على صعيد الفكر والقيم والسلوك لإضعاف عقيدة المسلمين وتفكيك وحدتهم السياسية والاجتماعية والأسرية، فعمدوا منذ بداية عهد الإسلام إلى اختراق الحركات السياسية وخاصة الباطنية منها لحرفها عن العقيدة الصحيحة وروح الإسلام السمحة، كما حاولوا استغلال معظم الأحداث السياسية في التاريخ الإسلامي لصالح تحقيق اختراقات في الواقع الإسلامي يقربهم من غاياتهم وأهدافهم. وبحكم التسامح الإسلامي مع أتباع الرسالات السماوية السابقة وغيرهم من الديانات التي عاشت في ظل الحكم الإسلامي فإن أحوال اليهود تحسنت كثيراً وتزايد نشاطهم في كل المجالات اقتصادياً وعلمياً وعقلياً وفكرياً، وتمتعوا بالحرية الدينية وشاركوا في الحياة السياسية والثقافية والعلمية فكان منهم المفكر والسياسي والعالم، وارتقوا في المناصب وكان لهم تأثير كبير في جوانب متعددة من حياة عصرهم، وللأسف أنهم استغلوا التسامح الإسلامي في القضاء على الحضارة والحكم الإسلامي، ويختصر الدكتور (عبد اللطيف شرارة) دور اليهود في تدمير الحضارة الإسلامية اليهود بالقول: "لقد كان تحرير اليهود في إطار الحضارة الإسلامية سبيلاً إلى تهديم تلك الحضارة. إنهم أشبه الأشياء ببعض الطفيليات والهوام والدواب التي لا تملك أن تعيش إلا في مناخ خاص من القذارة وسوء الأحوال الاجتماعية[6]"

ولم تنتهي جهود اليهود في حربهم ضد الإسلام ومحاولات القضاء عليه بإسقاط النظام السياسي الإسلامي (الخلافة الإسلامية العثمانية) عام 1908 إسقاطاً فعليلاً، وعام 1924 تم إسقاط وإلغاء وجودها الاسمي، ولكنها مستمرة لأنهم يخشون من عودة الروح الإسلامية من جديد لأن ذلك سيكون القضاء المبرم على علوهم وفسادهم في الأرض، لذلك هم يحاولون من خلال ما يزعمونه (حوار الأديان السماوية) أن يحققوا ما فشلوا في تحقيقه طوال أربعة عشرة قرن ونيف، ولكن سيكون الفشل حليفهم في النهاية وستعود للأمة وحدتها ونهضتها.



[1] أنور الجندي، الإسلام والفلسفات القديمة، مرجع سابق، ص42.

*وفيلون في نظر بعض المتأثرين بالأفكار اليهودية الغربية لم يكن يهودياً متعصباً ولكنه كان متحرراً ومتأثراً بالفلسفة الهيللينية.
[2] أحمد نوري النعيمي (دكتور)، أثر الأقليات اليهودية في سياسية الدولة العثمانية تجاه فلسطين، جامعة بغداد، 1982،ص15،16.


[3] أنور الجندي، الإسلام والفلسفات القديمة، دار الاعتصام، القاهرة، ص12،13.

[4] - الموسوعة الفلسطينية، هيئة الموسوعة الفلسطينية-دمشق، ص.ب 8084، الطبعة الأولى، 1984، المجلد الرابع، ص8.

[5] أفكار ورجال ص207.

[6] عبد الوهاب زيتون: يهودية أم صهيونية؟ أحداث ووقائع، دار الأصالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1411ه ـ 1991م، ص64.