مصطفى إنشاصي
لو كان النص مقدساً كما يفهمه العلمانيون على الطريقة الغربية ما تجرأ عمر بن الخطاب من التوقف عن إقامة حد السرقة عام الرمادة، وفي ذلك بيان عام لدعاة الدولة العلمانية المدنية والحقوق الفردية وواجبات الدولة نحو مواطنيها يكشف سوء فهم العلمانيين للحكمة من الحدود في الإسلام ومتى يتم تطبيقها، فالدولة الإسلامية لا تقيم الحدود على أحد من مواطنيها حتى تؤدي ما عليها من حقوق لهم تمنع ارتكابهم للجريمة، فواجب الدولة الإسلامية أن توفر للمسلمين أسباب العيش والحياة الكريمة ثم تطبق الحدود عليهم، فذلك يكون حق الدولة والشعب عندما يخطئ أحد في حقهما، فالحد لا يقام قبل أن توفر الدولة كل الأسباب التي تمنع المسلم من ارتكاب جريمته.


الشريعة مبنية على مصالح العباد
أوقف عمر رضي الله عنه حد السرقة في عام الرمادة، وهذا ليس تعطيلا لهذا الحد، كما يكتب البعض لان شروط التنفيذ لم تكف متوفرة، فالذي يأكل ما يكون ملكا لغيره بسبب شدة الجوع، وعجزه عن الحصول على الطعام، يكون غير مختار فلا يقصد السرقة، ولهذا مثلاً لم يقطع عمر رضي الله عنه يد الرقيق "العبيد" الذين أخذوا الناقة وذبوحها، ولكن أمر سيدهم حاطب بن ابي بلتعة، أن يدفع ثمنه، وقد قال عمر رضي الله عنه: لا يقطع في غدق ولا سنة الجدب والمجاعة .


وسئل أحمد بن حنبل عن ما فعله عمر بن الخطاب فقال: العذق النخلة، وعام سنة: المجاعة، فيل له: تقول به ؟ قال: إي لعمري، قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا، إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة. وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدرئ. نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع .
وعندما عطل عمر الحدود عام الرمادة قال: "لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إليّ من أن أقيمها بالشبهات". ذلك لأن الشريعة مبنية على مصالح العباد فالناس لا يؤخذون في الإسلام بالشبهة كما يفعل الغرب حامي حقوق الإنسان والأنظمة الموالية له، والرسول صلَ الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" .


وفي حديث آخر قال صلَ الله عليه وآله وصحبه وسلم: ادْرَءُوا الحُدودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُ. فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ ".


والمعنى: أن الواجب على ولاة الأمور من العلماء والأمراء أن يدرؤوا الحدود بالشبهة التي توجب الشك في ثبوت الحد، فإذا لم يثبت عند الحاكم الحد ثبوتاً واضحاً لا شبهة فيه فإنه لا يقيمه، ويكتفي بما يردع عن الجريمة من أنواع التعزير، ولا يقام الحد الواجب كالرجم في حق الزاني المحصن، وكالجلد مائة جلدة في حق الزاني البكر، وبقطع اليد في حق السارق، لا يقام إلا بعد ثبوت ذلك ثبوتاً لا شبهة فيه ولا شك فيه، بشاهدين عدلين لا شبهة فيهما، فيما يتعلق بالسرقة، وبأربعة شهود عدول فيما يتعلق بحد الزنا، وهكذا بقية الحدود لقوله صلَ الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" .


والأمثلة على ذلك كثيرة لمَنْ ألقى السمع وهو شهيد! لكن علمانيي وطننا يُصرون على صم آذانهم عن فهم الإسلام الصحيح ويتمسكون بمقولات وتجربة الغرب ضد الدين والكنيسة ويُصرون على إسقاطها عنوة على الإسلام، وذلك ينافي العقلانية والعلمية والموضوعية وغيرها من المصطلحات التي ينادون بها!
عندما نفهم الإسلام هكذا كما فهمه السلف ليس بالمعنى المذموم كما في مقالات العلمانيين ولكن بالمعنى المشرق والصحيح لأنهم عاشوا حياتهم وواقعهم وبنوا مجدهم، وليسوا مسئولين عن سوء فهم بعض الخلف من المعاصرين المتشبثين بأحكام زمانهم وهي لا تصلح لزماننا والذنب ليس ذنبهم كي نقدح فيهم وفي أحكامهم التي كانت صالحة لزمانهم، ولو كانوا يعيشون في زمانا لما أخذوا بها واجتهدوا بما يصلح لهذا الزمن واستنبطوا من النص الذي استنبطوا منه أحكاماً لزمانهم أحكاماً أخرى غيرها تصلح لزماننا، ساعتها لن نختار مصطلحات ذات معاني ودلالة ورمزية غربية لتسمية دولنا ولكن سنختار مصطلحات ذات معاني ودلالة ورمزية إسلامية ….


سد حاجات جميع المواطنين من طعام وشراب ولباس وتعليم وعلاج وسكن سيصبح من مسؤوليات الدولة الإسلامية. وإذا سُدت هذه الحاجات فلن تبقى هناك حاجة لأي تأمين. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: "كان عمر بن الخطاب أحدث في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء، ثم يخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي أطراف المدينة فيطوف عليها، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي" لأن الأرض كلها صارت سوداء، فشبهت بالرماد وكانت تسعة أشهر" .


غزة بحاجة إلى عدل عمر بعد أن أصبحت خرابا بعد أن كانت عماراً، وأصبحت أثراً بعد عين، بسبب ظلمة عقول ولاة أمرها وعن أهليتهم لقيادة كم معزة لا قيادة شعب وأمة وثورة، والمصيبة أنهم مجردين من مشاعر وأحاسيس البشر، كأنهم لا من طينة البشر ولا طبيعتهم، أناس لا يشبعون من سرقة أموال وحقوق أهل غزة، وهم الذين جلبوا عليهم الخراب والفقر والتشرد والجوع والموت و... ولا يملأ عيونهم إلا التراب، نسوا الله فأنساهم أنفسهم...