إن مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني الوظيفي، هي بوصلة أيِّ عمل وطني عربي عامة، وأردني خاصة، بسبب كون هذا المشروع – الذي بدأ بريطانيا فرنسيا صهيونيا وظيفيا في مطلع القرن العشرين، عبر اتفاقية سايكس بيكو، وإعلان بلفور، وصكوك الانتداب الفرنسي والبريطاني على دويلات المنطقة المصطنعة، ليصبح أميركيا صهيونيا وظيفيا، بعد وراثة الولايات المتحدة التركة الاستعمارية البريطانية، عقب الحرب العالمية الثانية – هو الذي أسَّسَ لعرقلة مشروع النهضة والتحرر والوحدة العربي. وبالتالي فلا مفرَّ أمام كل من يسعى إلى تجسيد مشروع النهضة والتحرر والوحدة العربي، من مواجهة ذلك المشروع الاستعماري شكلا ومضمونا، ليس فقط بسبب كون تلك المواجهة أداةً محتملة من أدوات مشروع النهضة والتحرر والوحدة، بل بسبب كون هذا المشروع القومي لا يقوم – في ذاته – شكلا ومضمونا، إستراتيجيا وتكتيكيا، فكرا وأدوات، إلا في قلب تلك المواجهة وهي تتجسَّد على الأرض بكلِّ أشكال المقاومة التي تفرضها سيرورة المنطقة في السياسة والاقتصاد، بل وفي كلِّ مُكونات التحول المجتمعي.

إن هناك تشكيلة كبيرة من الأمراض المجتمعية يمكن استقراء نَخْرِها في جسد الأمة. فإذا كان الاحتلال الصهيوني يُفرز في واقعنا العربي ظاهرة مرضية فريدة من نوعها، فإن الإفرازاتِ الميدانية للأنظمة العربية "الوظيفية" متجذرةٌ في هذا الوطن، مربكةً توازنه بعدد كبير من الأمراض التي تعمل فيه تمزيقا واستنزافا، كإهدار ثروات الأمة فيما لا يخدم نموَّها ومصالحَها الحيوية وتقدمَها ورفعتَها ونهضتَها عموما، وكتفشي الثقافة الاستهلاكية الوضيعة التي خلفتها لنا "رأسمالية الوفرة" و"اقتصاد السوق" عبر تصديرها لنا من خلال مختلف أذرعها في المنطقة، خاصة منذ مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكالإسهام في التَّشَتُّت الأيديولوجي المُفْعَم بالضبابية واللاوضوح لدى معظم فصائل الحركة الوطنية العربية، وكالدفاع المستميت عن الفهم السلفي التقليدي الجامد للإسلام من خلال بروز ظاهرة "الإسلام السياسي" منذ بدايات القرن العشرين بكل مردودها السلبي على تسويق الإسلام محليا وعالميا، وعدم إتاحة الفرصة لإدراك جوهر فعاليته وقدرته على حلِّ مشاكل البشرية وتحرير الشعوب الرازحة تحت نير الظلم والعبودية، ناهيك عن مشاكل العرب والمسلمين، وكالانفلات الفكري الغالب على العديد من القوى المثقفة العربية لهاثا وراء كل ما هو شرقي أو غربي على عِلاَّته دون التَّمعُّن في مردوده الفعلي على واقعنا العربي، وكاختلاق التعارض التاريخي المفتعل بين عالمية الإسلام وبين خصوصية القومية العربية، أو بين عدالته وعدالة غيره من النظم التي أبدعها البشر في تاريخ النضال الإنساني الطويل من أجل الحرية والعدالة والمساواة، وكحدوث الثغرة الكبيرة والمستمرة بين النظرية والتطبيق في واقع التجربة الحياتية للعرب، أفرادا وجماعات وشعوبا ودولاً، وكالافتقار إلى منظومات معرفية فلسفية واجتماعية قادرة على تَفَهُّم الواقع العربي وعلاقته بالواقع الدولي كما يفرض هذا الواقع نفسه، لا كما تُعَشِّش صورته الوهم في عقول من نَصَّبوا أنفسهم أوصياءَ ثقافيين أو سياسيين أو دينيين على هذه الأمة.
إن وطناً هذا واقعه المرضي إن لم يكن هذا مجرد جزء يسير من واقعه، يكون من السَّخَف الحديث عن أمراضه دون أخذ مبدأ التكامل والانفصال بين الأمراض الاجتماعية بعين الاعتبار. فهل أن أمراض الوطن العربي هذه هي من النوع المتكامل أم من النوع المنفصل؟!
إن الدراسة المعمقة لجوهر ومظاهر التناقض في الوطن العربي، تؤدي بنا حتما إلى التأكيد على أن معظم الأمراض التي أتينا والتي لم نأتِ على ذكرها، هي مظاهر طبيعية ومفهومة لجوهر التناقض الرئيسي فيه. إن جوهر التناقض اقتصادي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، منذ الحروب الصليبية وفشلها المعروف في تحقيق أغراضها. وهذا الجوهر يتجلي حاليا من خلال مظهرين هما "إسرائيل الصهيونية الاستيطانية" التي أُريدَ لها أن تقوم مقام احتلالٍ استعماريٍّ تقليديٍّ لم يكن ليقدرَ لو انْتُهِجَ نهجا استراتيجيا للهجمة الجديدة على الوطن العربي، على تحقيق الغرض منه على المدى الطويل. إضافة إلى "الاحتلال الاقتصادي غير المباشر" الذي تتزعمه أنظمة التجزئة الوظيفية السايكسبيكوية بارتباطاتها الرأسمالية المختلفة داخليا وخارجيا. إن هذه المظاهر تنعكس على الصعيد التفصيلي في شكل أمراض عديدة ومتنوعة، تُصَوِّر لنا مختلف المشاكل الجزئية المُفْرَزَة من المظاهر المُجَلِّيَة للجوهر، كتلك التي ذكرنا طائفة منها قبل قليل.
للوهلة الأولى نستطيع أن ندرك أن مظهري التناقض الرئيسي "إسرائيل"، و"أنظمة التجزئة الوظيفية"، ينطبق عليهما ما ينطبق على الأمراض المتكاملة وليس على الأمراض المنفصلة. وبمعنىً آخر فإن كلَّ مظهر منهما يتأثر ويؤثر وجودا وعدما وديمومة واستمرارا في المظهر الآخر. فأنظمة التجزئة الوظيفية بكل دلالاتها التي أتينا والتي لمن نأتِ على ذكرها، هي بشكل أو بآخر الحصنُ الواقي لإسرائيل الاستيطانية، بحكم ما تحققه هذه الأنظمة في هذا الوطن من مختلف معاني التشرذم والتبعية والتخلف والقهر والحرمان والهدر، التي تسهم في إطالة عمر إسرائيل.
وإسرائيل الاستيطانية بكل دلالاتها الاستعمارية التي أتينا والتي لم نأتِ على ذكرها، هي أيضا الحصنُ المنيع الذي يُسْهِم بقاؤه في استمرار تلك الأنظمة بشكل من الأشكال. وبالتالي فإن هذين المظهرين هما صورتان مختلفتان شكلا ومتطابقتان مضمونا للتواجد الإمبريالي العالمي في الوطن العربي. بمعنىً آخر فإن الإمبريالية العالمية ممثَّلَةً في وريثتها الحالية "الولايات المتحدة" متواجدة في هذا الوطن ومحتلة لجزءٍ كبير منه بطريقتين أو بوسيلتين، هما إسرائيل الإستيطانية بكل دلالاتها، وأنظمة التجزئة الوظيفية بكل دلالاتها أيضا.
وعلى هذا الأساس فإن جماهير الأمة العربية عندما تسعى إلى التَّحرُّر، فإنها ستسعى إلى التحرر من تلك الإمبريالية ممثَّلَةً في صورتي تواجدها المذكورتين. وبالتالي فإن هذه الجماهير معنية بالضرورة، وذلك عبر طلائعها "التنظيمات الثورية"، بممارسة وسلوك مسلك المواجهة ضد كلٍّ من إسرائيل وأنظمة التجزئة الوظيفية، وضد كلِّ ذراعٍ آخر للإمبريالية تَرى من الضروري مواجهته، لرفد المواجهة المُصَوَّبَة إلى الذراعين السابقين بكل عناصر ومقومات النصر. إن تأكيدنا السابق على الدور الذي يقوم به كل واحد من مظاهر التناقض المنبثقة عن جوهر التناقض الرئيسي في المنطقة، ليس مجرد رغبة عابرة أو أمنية، بل هو واقع وحقيقة، الأمر الذي يَفْتَرِض فينا التصدي لإثبات هذه الفكرة بشيء من التفصيل.
إن تحديد جوهر التناقض واعتبار حلِّه مطلبا إستراتيجيا، خلقَ مُعضلة تاريخية إستراتيجية المضمون للثورة الشعبية العربية الكبرى التي مثلتها فيما مضى أم الثورات كلها، "ثورة الأردنيين" التي اندلعت في منتصف عقد الستينيات، أو ما غدا يُعرف في الأدبيات التاريخية لهذه الثورة بـ "المقاومة الفلسطينية"، بعد أن تمَّت سرقة هذه الثورة من أصحابها ومفجريها الأصليين، منذ أن نزعت عنها رداء أردنيتها وتدثرت بفلسطينيةٍ استُدْرِجَت إليها من قبل نظام الملك حسين الوظيفي من جهة، وقادة تلك الثورة بعد عام 1968 من جهة أخرى.
ظهرت هذه المعضلة عندما تصدت المقاومة لحل التناقض بانتهاجها نهج الانفراد بإسرائيل دون التعرض لنظام التجزئة الوظيفي الأردني ومناجزته مناجزةً وجودية بوصفه النقيض الآخر الحتمي في معادلةِ معاداةِ العلاقات الإمبريالية في المنطقة، وهي العلاقات التي يُفْتَرض أن تلك الثورة انطلقت عندما انطلقت لإسقاطها مُجتمعةً من حيث المبدأ، بالنظر لاستحالة إسقاط جزء منها ثم الالتفات بعد ذلك إلى الجزء الآخر لإسقاطه لاحقا، كما تقضي بذلك طبيعة الهجمة الإمبريالية المعاصرة على وطننا العربي.
ولقد تجَلَّت هذه المعضلة في عدم إمكان إحراز المقاومة لنتائج حاسمة في مواجهة إسرائيل، بسبب عدم استكمال شروط نجاح الحرب الشعبية التي أرادت التوصل إلى انتهاجها أسلوبا للتحرير، جراء عدم توفر الشروط التي تسمح لها بحرية الحركة في الأراضي الأردنية كنقطة انطلاق أساسية لتحقيق هذا الهدف ابتداءً، مادام النظام الوظيفي قائما يمنعها ويحاصرها. لقد فشلت المقاومة في تحقيق هذا الهدف بسبب أن تحقيقه مرهون بتغيير جذري في الأوضاع في الأردن بالدرجة الأولى، باتجاه إقامة نظام ثوري غير وظيفي قادر ومتحرر من التبعية ونَفَحاتِ المصالح القطرية التي فرضتها معادلات سايكس بيكو، على أنقاض النظام الوظيفي القائم.
هربت الثورة الأردنية من هذه المعضلة، بالتخلي عن دورها الطليعي القومي بل والأممي، في مناجزة الإمبريالية، عبر الدخول في نفق اختزال الصراع مع الذراع الإمبريالي الذي هو "اسرائيل"، شكلا ومضمونا، ليتحول من صراع عربي إسرائيلي بطليعية الشعب الأردني، إلى صراع فلسطيني إسرائيلي على جبهة الضفة الغربية التي مُنِحَت هوية فلسطينية على أنقاض هويتها الأردنية، وإلى صراع مصري إسرائيلي على جبهة سيناء، وإلى صراع لبناني أو سوري إسرائيلي على الجبهة الشمالية، بحيث تختص كل دولة بحسم الصراع وبمتابعة ذيوله على جبهتها التي غدا ماساًّ بأمنها القومي كل من يدعو إلى تفعيلها لمقارعة العدو الصهيوني.
فشلت الثورة إذن في أن تحقق إنجازا يُذْكر على صعيد البعد الذي اختزلته للقضية، بتحويلها إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي، بعد أن خَلق هذا الاختزال فلسفةً جديدة غذَّت بشكل ملفت عناصر الفكر "السايكسبيكوي" الذي وجد في انتصاره على قومية الثورة، وتحويلها إلى مشروع قُطْري، فرصةً مناسبة لتثبيت أركانه وأركان أنظمة التجزئة الوظيفية، التي تحولت من حالةٍ جغرافية سياسية من السهل مناجزتها، إلى حالة ثقافية صعبة المناجزة، بعد أن تغلغلت في بُنية ذهن المواطن، بل والمثقف العربي في تلك الجزر الجغرافية، التي غدت لكل منها هويتها الوطنية التي راحت تبحث لنفسها عن جذور ومبررات ومشروعيات خارج نطاق بنائها القومي العربي.
فظهرت مرحلةٌ ساد فيها الفكر القُطري في أضيق صوره، بعد أن نضجت ظروف الترويج له من قبل حشدٍ من المثقفين المشبوهين، كانوا جميعا نتاجا خالصا، وماركة مسجلة لمرحلة سيطرت عليها نزعة الاندلاق الساداتي على الغرب، ونزعة الاستعلاء العصبي لدى الأردنيين والفلسطينيين. وغدا كل مواطن يتحدث عن مصلحة قُطْرِه في ضوء قراءةٍ قومية عروبية لهذه المصلحة، حتى لو كان ذلك في أضيق الحدود، خائنا للهوية الوطنية، ومرتبطا بأجهزة مخابرات خارجية، إلى آخر هذه المعزوفة الممجوجة من الأكاذيب والأباطيل، التي تجعل "الوظيفيين" يرون في التخابر مع عربي أمرا أخطر على أمنهم من فتح قواعد عسكرية ومرافق سياحية وتجارية للأمريكيين وللإسرائيليين على أراضي شعوبهم.
وعاد السؤال المهم التالي ليطرح نفسه بعد ذلك الفشل التاريخي الذي مُنِيَ به المشروع الثوري الأردني بعد عام 1968 مُخَيِّبا آمال كل أحرار العالم، وليس آمال العرب وحدهم، متحولاً إلى نظام عربي وليس إلى مشروع ثورة عالمية ضد الإمبريالية.. هل يجب أن تُوَجَّه الجهود أولا لتغيير الأوضاع العربية ومناجزة أنظمة التجزئة الوظيفية أم لشن النضال ضد إسرائيل وفق سياسة الأولويات؟!
إن المعضلة التي يثيرها السؤال السابق عميقة ومتجذرة في تاريخنا الأردني والفلسطيني منذ أن انبثقت "القضية الفلسطينية" إلى حيز الوجود. إنها ليست جديدة ولم تظهر مع ظهور الثورة الأردنية عام 1965 كما يحلو للبعض أن يتصور، وإن كانت أوضح ما تكون ظهورا وجلاءً رفقة تلك المرحلة الثورية التي عبَّرت عنها المقاومة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي. فالمعضلة موجودة منذ البداية وإن لم تبرز على صعيد الوعي. وهي قد طرحت نفسها بأشكال مختلفة على النضال الفلسطيني ثم الأردني في مراحل مختلفة. فما أن وجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة عدوين مترابطين ومتحالفين، هما الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والاستعمار البريطاني، قبل قيام إسرائيل، حتى طرحت المعضلة نفسها على شكل سؤال.. أيُّ العدوين نواجه أولا، الاحتلال البريطاني أم المستوطنين اليهود؟! وبعد قيام إسرائيل وعلى مدى الفترة "1948 – 1957" عادت المعضلة لتطرح نفسها في شكل سؤال آخر.. ماذا أولا، التحرُّر من النظام الوظيفي أم تحرير الأرض المحتلة؟! وعندما اندلعت الثورة الأردنية عام 1965 كانت المعضلة مطروحة بالصيغة نفسها، واليوم تعود المعضلة ذاتها لتطرح نفسها، وهي حقا معضلة.

تتبدى معالم المعضلة في أننا إذا أجبنا على التساؤل السابق بالقول بضرورة صب الجهود نحو تغيير الأوضاع الداخلية للدولة الأردنية أولا عبر البدء بحسم التناقض مع النظام الوظيفي، مؤجلين النضالَ ضد الصهيونية، فإن هذا التوجهَ منا قد يعني ترك الخطر الصهيوني دون مقاومةٍ ليستفحلَ أمرُه، وليغدوَ مُهَدِّدا بالتالي لنفس قوى التغيير التي تخوض المواجهة ضد النظام الوظيفي ذاته. كما أن هذا التأجيل سوف يحرم النضال المُوَجَّه ضد الإمبريالية في صورة ومظهر تواجدها المتمثل في "النظام الوظيفي الأردني"، من عوامل التحفيز والتفجير التي تولدها مواجهة الصهيونية في العادة، والتي تساعد على إبراز التناقضات بين جماهير الشعب الأردني ونظامه الوظيفي على السطح بصورة أكثر وضوحا.
وفي المقابل، فإن إجابتنا إذا كانت بالدعوة إلى صب الجهود على العمل النضالي المُوَجَّه ضد العدو الصهيوني، فمن الواضح أن ذلك يعني – في ظل حقيقة وجوهر النظام الوظيفي – مواجهة إسرائيل ضمن شروط غير مواتية، تحافظ لها على منبع قوتها وحمايتها آمناً ومعافىً وقادرا على تقديم كل أنواع الدعم المتصورة. أي أن هذا يعني ترك النظام الوظيفي حرا طليق الأيدي في التآمر على الحركة الجماهيرية المتجهة نحو النضال ضد العدو الصهيوني وضربها من الخلف وطعنها في الظهر سياسيا وأمنيا وإعلاميا بل وعسكريا إن أمكن ولزم الأمر. كما أن هذا التوجه يعني إبقاء المنطقة خاضعة لشبكة العلاقات الإمبريالية في جانبها الذي يجسِّده النظام الوظيفي، وإفساح المجال لتحقيق مزيدٍ من القوة لإسرائيل بعدم تحقيق النصر عليها، وبالتالي بتمكينها من المحافظة على التوازن السيكولوجي للإسرائيليين، كي يتمكنوا من مواصلة الدور المنوط بهذا الكيان استعماريا.
إن الموقف الأول أو الثاني أو غيرهما من المواقف، سيرتكز بادئ ذي بدء إلى الاتفاق على تصورٍ مبدئي للصراع ولطبيعته، وللهدف منه ولطبيعة تناقضاته، وهو الأمر الذي يمكننا معه ملاحظة أننا أمام أربعة احتمالات نظرية لنمط خوض الصراع وحلِّ التناقض في المنطقة. فإماَّ أن نخوض الصراع ضد المظهر الوظيفي للتناقض مؤجلين الصراع ضد المظهر الثاني وهو الصهيونية، وإما أن نخوضه ضد هذا الأخير مؤجلين إياه ضد الأول، وإما أن نمتنعَ عن خوض الصراع ضد الاثنين معا، وإما أن نخوضه ضدهما معا وفي الوقت نفسه.
الاحتمالان الأول والثاني قاصران للأسباب التي وضحناها سابقا، والاحتمال الثالث ليس احتمالا، فهو يصور حالةً من الاستسلام المطلق، ويكرس الاحتلالين الاستيطاني والوظيفي معا، بلا منازعة أو اعتراض. فلم يبقَ إذن سوى الاحتمال الرابع، وهو مواجهة النقيضين سويا. ولعل هذه الحقيقة قد بدت واضحة منذ وقت طويل لذوي الرؤية الثاقبة والقراءة الدقيقة للواقع الأردني. لكن استقراءنا لتاريخ القوى الوطنية العربية في المنطقة المشرقية، سيكشف لنا أنها جميعها من الناحية العملية، قد جنحت لحل التناقض القائم في المنطقة من خلال التصدي لمظهر واحدٍ من مظهريه فقط.
فبعضٌ منها خاض الصراع باتجاه تغيير الأوضاع في الدول العربية المحيطة بإسرائيل، معتمدا من ثمَّ على إحداث هذا التغيير كمقدمة لا مفر منها للانتقال إلى خطوة "تحرير الأرض المحتلة"، وبعضها الآخر خاضه باتجاه تحرير الأرض من العدو الصهيوني مؤجلا أيَّ عمل حقيقي باتجاه حسم التناقض في بعده الذي تمثلة الأنظمة الحاكمة في دول الجوار، لا بل عبر أنماط غريبة من التحالفات مع تلك الأنظمة. الاتجاه الأول مَثَّلَتْه كافة التشكيلات الحزبية القومية والماركسية والإسلامية التقليدية، كلٌّ وفق طريقتها وفي ضوء أيديولوجيتها. والاتجاه الثاني مَثَّلَتْه ثورة عام 1965 بعد عام 1968، ومن دار في فلكها من القوى الوطنية العربية الأخرى، وعلى رأسها القوى اللبنانية في حقبة التحالف الذي كان قائما بين الطرفين قبل عام 1982، بحكم اصطلائها المباشر بتداعيات الحالة الصهيونية، على شكل احتلال للأرض، ثم "المقاومة الإسلامية" ممثلة في "حزب الله" في لبنان بعد عام 1982، وفي "حركة حماس" في قطاع غزة بعد عام 1987. ومن الواضح أنها جميعها قد فشلت في تحقيق أهدافها، ولم تصل إلى مستوى طروحاتها بعد عدة عقودٍ من النضال. فلا مقاومة الصهيونية حررت الأرض، ولا القوى الوطنية التي حاولت تغيير النظام الوظيفي حققت أيَّ إنجاز على هذا الصعيد. بل ربما أنَّ الأمر قد ازداد سوءا خاصة على صعيد حالة التجزئة والثقافة القطرية والعصبية المرتبطة بها.
يمكننا التأكيد استنادا إلى مجمل الحقائق التي توصلنا إليها حتى الآن، على أن الأساس الذي يجب أن تنبني عليه إستراتيجية التغيير المقبل في الأردن، هو الانطلاق من قاعدة ارتباط هذا التغيير بعامل التحرير ارتباط ضرورة ووجود، ليكون التصدي للعلاقات الإمبريالية في الأردن عبر التصدي للنظام، والتصدي لتلك العلاقات في أرضه المحتلة عبر التصدي للاحتلال، أمران يتمان في ذات الوقت دون تجزئةٍ أو تأجيل، على ضوء تصورٍ موضوعي ذكرناه مراراً وتكراراً، مفاده أن الاحتلال الصهيوني الناتج عن وجود إسرائيل الاستيطانية، والتخلف والتجزئة والفساد والاستبداد الناتجة جميعها عن رسوخ "البُنْيَة الوظيفية للنظام"، لا يعكسان سوى الشكل المكثًّف لهذه العلاقات الإمبريالية.
نستطيع تبسيط المسألة بتصورنا لشخص يقف في مواجهة شخصين آخرين، أحدهما أمامه والآخر خلفه، وكلٌّ منهما يحمل عصاً ليضربه بها، وهو أيضا يحمل عصاه للدفاع عن نفسه. فإذا واجه المُهاَجِمَ الأولَ ليتلقى ضرباته بعصاه، فإنه لن يسلمَ من ضربات عصا الشخص الآخر الرابض وراءه. وإن هو التفت إلى هذا القابع في الخلف واهتم به مؤجِّلاً الأول، فلن ينجوَ من وقع المعضلة نفسِها. إنه أمام هذا المأزق معنيٌّ بخلق إستراتيجيةِ مواجهةٍ تُمَكِّنُه من أن يكون في وضعٍ يسمح له بمتابعة هجومات الشخصين المهاجمين معا، ليعرف كيف يضع خُطَّةَ الرد على هجماتهما المتواكبة تلك.
إننا إذا قدرنا على تصور المعضلة التي يعاني منها الشخص المذكور، واقتنعنا بأن حلَّه لها لا يتأتى عبر مواجهته لعدوٍّ وتأجيله للآخرَ، مادام كلٌّ منهما يرتبط وجوديا بهذا الآخر، فإننا نكون قد وضعنا أيدينا بصورة من الصور على مكمن التناقض الحاد في الأردن. فالحركة الجماهيرية الساعية للتغيير، ستواجه المعضلة نفسها التي يواجهها الشخص الذي ضربناه مثلا. فهي ستواجه إسرائبل والنظام الوظيفي معا بوصفهما عدوا واحدا في مُحصِّلَة الأهداف الإستراتيجية، عندما تُقاس الأهداف بمدى اقترابها أو بعدها عن العلاقات الإمبريالية في المنطقة.
بناء على ما سبق، فإن اللحظة النموذجية لتغيير النظام الوظيفي في الأردن، تُعتبر لحظة فارقة في طبيعتها وفي توقيتها، تختلف كليا عن نظيراتها التي غيَّرت أو تلك يُفترض أن تغيَّر أنظمة وظيفية وتبعية واستبدادية في دول عربية أخرى. فهي ليست تلك اللحظة التي يتم فيها حشد ربع مليون مواطن أردني في الشارع مطالبين بالتغيير وإسقاط النظام في اعتصامٍ مفتوح حتى يرحل الملك وأعوانه، فيما حدودنا الغربية رافلة في سبات حماية تداعيات "وادي عربة"، وفيما جيشنا العربي المصطفوي يقوم بدور الحارس الأمين لهذه المعادلة الوظيفية النشاز، وساحتنا الداخلية "العميقة" ينخرها سوس "الموساد" و"المخابرات المركزية"، وجحافل "الماسونية" و"الروتاري" و"اللليونز" و"الكومبرادور المرتبط بالأجنبي".. إلخ، بل هي تلك اللحظة التي تجيء بعد مرورِ وقتٍ كافٍ على اندماج الشعب الأردني في مقاومةٍ شعبيةٍ ضد الاحتلال الصهيوني لتحرير الأرض الأردنية المحتلة، رغم أنف النظام الوظيفي وكل أجهزته التي تحرسه وتحميه..
وقت كافٍ لإعادة إنتاج الساحة سياسيا وثقافيا عبر تأثير عنصر مقاومة الاحتلال على سيرورة الدولة والشعب الأردنيين باتجاه التَّحَرُّر من الوظيفية والتبعية – إلى جانب تأثير الثورة السلمية في الشارع ضد النظام بطبيعة الحال – على نحو ينجزُ عملية الفرز والفلترة الشعبية والسياسية الكاملة التي ستساعد هي في ذاتها على تحديد اللحظة النموذجية للتغيير الداخلي. وإذا تحقق ذلك فإن النظام الوظيفي سيرحل حتى لو كان الحشد الشعبي في الشارع لم يتجاوز الخمسين ألفا فقط.
إن أيَّ محاولة لاستنساخ تجرية "1952 – 1956" سوف تفشل، لأن الأردن لا يتغير بالنصف الأيمن من المعادلة فقط، كما أن أيَّ محاولة لاستنساخ تجربة "1968 – 1971" سوف تفشل أيضا، لأن الأردن لا يغيِّره النصف الأيسر من تلك المعادلة. الأردن يتغيَّر إذا تم تجسيد المعادلة بطرفيها، وهو التجسيد الذي مثلت نموذجا عابرا له الحقبة "1965 – 1968" التي جاءت على أنقاض نموذج "52 – 56" الذي فشل بسبب أنه كان أحادي الذراع، لتفشل هي أيضا بانزلاقها إلى نموذج "68 – 71" الفاشل بسبب كونه أحادي الذراع هو أيضا.
خلاصة القول إذن، أن علينا العمل الدؤوب على تهيئة كافة الظروف الملائمة لإنجاز مشروع مقاومة شعبية أردنية ضد الاحتلال الصهيوني، يتخذ من الأراضي الأردنية منطلقا وقاعدة آمنة له، لأجل خوض معركة تحرير الأرض ومحاصرة النظام الوظيفي والضغط عليه، تمهيدا لإجباره إما على تغيير نهجه السياسي بالكامل أو على الرحيل.