من القائل:


وتجلُّدي للشامتين أُريهمُ
أني لرَيب الدهر لا أتضعضع
البيت من قصيدة لأبي ذُؤيب الهُذَلي- خُويلد بن خالد – الشاعر المخضرَم، من قصيدته المشهورة التي رثى بها بنيه الخمسة - كما في المصادر المختلفة- (أبرزها "المفضَّليات"- ص 420، لكن "العقد الفريد"-ج3- ص253 ذكر أنهم سبعة) وقد هلكوا بالطاعون في عام واحد ومطلعها:


أمِن المنونِ وريبها تتوجع
والدهر ليس بمعتِب من يجزع
(معتب= مراجع)


فهذا البيت قيل إنه أحسن ما ورد في معنى الصبر، فالشاعر يتماسك أمام من يشمتون به، يتثبت ويريهم أنه لا يضعف أمام مصائب الدهر ورزاياه.


اشتهر هذا البيت أيضًا بسبب استشهاد معاوية به، وذلك ساعة احتضاره.


* يروى أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- استأذن على معاوية في مرض موته ليعوده، فادّهن معاوية واكتحل، وأمر أن يعقد ويسند، وقال: اِيذنوا له، وليسلم قائمًا ولينصرف، فلما سلم عليه وولى، أنشد معاوية قول الهُذَلي في هذه القصيدة:


وتجلّدي للشامتين.....


فأجابه ابن عباس على الفور:


وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفع
ثم خرج من داره حتى سمع الناعية عليه.


والشاهد في البيت الثاني، وهو من قصيدة أبي ذُؤيب نفسها: الاستعارة- وهي التخييلية، فقد شبه المنيّة بالسبع في اغتياله النفوس بالقهر والغلبة من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار ولا رقّة لمرحوم، فأثبت لها الأظفار التي لا يكمل الاغتيال في السبع بدونها تحقيقًا للمبالغة في التشبيه، وإثبات الأظفار لها استعارة تخييلية.


المصدر:


العباسي: (معاهد التنصيص على شواهد التلخيص)، ص 186.


لكن هذه الرواية التي ذكرت عبد الله بن عباس وردت في مصدر آخر - أن الرجل كان من العلويين، وإليك الاقتباس من النويري (نهاية الأرب...)- ج20، ص 366 وما بعدها.


"ولما حضرته الوفاة جمع أهله، فقال: ألستم أهلي؟ قالوا: بلى، فداك الله بنا.


فقال: وعليكم حزني، ولكم كدّي و كسبي؟ قالوا: بلى، فداك الله بنا.
قال: فهذه نفسي قد خرجت من قدمي، فردّوها علي إن استطعتم.


فبكوا، وقالوا: والله ما لنا إلى هذا من سبيل. فرفع صوته بالبكاء، ثم قال: فمن تغره الدنيا بعدي؟
وذكر غير واحد: أنه لما ثقل في الضعف، و تحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني إثمِدًا (مادة يُكتحل بها)، و أسبغوا رأسي دهنًا، ففعلوا و برقوا وجهه بالدهن، ثم مهّدوا له مجلسًا، وأسندوه و أذِنوا للناس، فدخلوا و سلموا عليه قيامًا، فلما خرجوا من عنده أنشد قائلا:


و تجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
فسمعه رجل من العلويين فأجابه:


واذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع"
كما ذكر على أنه علوي كذلك في (الكشكول) للعاملي.


ثمة رواية أخرى أن الذي دخل عليه والذي ذكر البيت الثاني هو الحسين بن علي (كتاب الأنطاكي "الزهرة"، ج2، ص 804، وكذلك كتاب المبرِّد: "التعازي والمراثي"، ص 7، وكتاب المبرد- الفاضل في اللغة والأدب"، ص 91)."


أما كتاب (ثمرات الأوراق- ص 196) لابن حِجّة الحموي فيورد القصة على أن الرجل هو أحد بني هاشم:


"وحكي أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله تعالى عنه- لما مرض مرضه الذي مات فيه دخل عليه بعض بني هاشم ليعوده، فلما استأذن عليه قام وجلس، وأظهر القوة والتجلد، وأذن للهاشمي، فدخل عليه، ثم قال متمثًلا بقول أبي ذؤيب الهذلي من قصيدة رثى ﺑﻬا أولادًا له ماتوا بالطاعون: وتجلُّدي للشامتين ُأريهُمُ ... أنِّي لريب الدهر لا أتضعضعُ
فأجابه على الفور من القصيدة المذكورة بعينها:


وإذا المنيَُّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفع"


لكن (الكامل في التاريخ) لابن الأثير، وفي حوادث سنة ستين للهجرة (= 680م)، يرى أن معاوية هو الذي روى البيتين متتاليين، وأنه لم يكن هذا النوع من الاشتفاء:
"ولما اشتدت علته وأرجف به قال لأهله: احشوا عيني إثمدًا وادهنوا رأسي،.
ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له، فجلس وأذن للناس، فسلموا قيامًا ولم يجلس، فلما خرجوا عنه قالوا: هو أصح الناس..


فقال معاوية عند خروجهم من عنده:


وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها
ألفيتَ كل تميمة لا تنفع
وذهب الأبشيهي كذلك في (المستطرَف، الباب الحادي والثمانون، ص 656) إلى أن معاوية هو الذي قرأ البيتين معًا، وروى حكاية ما جرى ساعة احتضاره دون أن يعلّق شخص آخر.


عن التجلد أمام الشامتين أورد أبو علي القالي في (الأمالي- ج1، ص 258) قصيدة لنُوَيرة بن حُصَين المازني في رثاء ابنه، يقول فيها:


إني أُري للشامتين تجلّدي
وإنيَ كالطاوي الجناح على الكسرِ
يُرى واقعًا لم يرَ ما تحت ريشه
وإن ناءَ لم يسطِعْ نهوضًا إلى وكرِ
ظل هذا المعنى في ذاكرة شوقي- وهو من شعراء مدرسة "الإحياء"، فقال في قصيدته (يا نائح الطلح أشباه عوادينا):


يبدو النهار فيخفيه تجلّدنا
للشامتين ويأسوه تأسّينا