• ميشيل كيلو من قامة باسقة إلى شجيرة مغمورة
    محمد فاروق الإمام

    ميشيل كيلو ذلك الوجه المعارض الذي احترمناه ووقفنا إلى جانبه في كل ما
    تعرض له من اعتقال ومضايقة على يد النظام المتهاوي، ورحبنا به في فضاء
    الحرية خارج الوطن المحتل، حيث القيود والمضايقات والاعتقال والابتزاز
    والإساءة ولي الذراع وكسر الأصابع وحتى التعذيب المشوه والقتل، رحبنا بهذا
    الرجل مستذكرين القامة الوطنية الباسقة فارس الخوري، وغالى بعضنا –وأنا
    منهم- في وصفه أن قال: لقد قام فارس الخوري من قبره في شخص ميشيل كيلو،
    ومنينا النفس بفكر هذا الرجل ونضجه وحياديته وموضوعيته وأخلاقياته وقيمه
    التي لا تبتعد كثيراً عن قيم الإسلام التي عرفناها في شخص فارس الخوري،
    والذي دفع آباءنا رحمهم الله أن يختاروه، ليس فقط مندوباً لسورية في الأمم
    المتحدة، ولا في اختياره لتشكيل أول وزارة بعد الاستقلال، ولا في اختياره
    رئيسا لأول مجلس للنواب، بل لاختياره وزيراً للأوقاف، والكل يعرف مدى تبوء
    هذا المنصب من حساسية عند المسلمين، ولم يسجل لنا التاريخ أن أثيرت حول هذا
    الرجل أي همهمة أو تأفف أو تضجر أو استياء من هذا الاختيار، لأن سورية ذات
    الأغلبية المسلمة السنية بالتحديد (80%) لم تكن تنظر يوماً إلى باقي نسيج
    هذا الوطن الرائع نظرة استعلاء أو أكثرية أو أقلية، فقد تساوى الجميع في
    قاموسها بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الطائفة، فقد كان الوطن
    عندها يتسع فضاؤه لكل الشركاء فيه دون إقصاء او إبعاد أو انتقاء أو تمييز،
    وهذه حقيقة لا ينكرها إلا جاحد حاقد ضال، وقد سجل لنا التاريخ مواقف لا
    تنسى من الحب والحميمية التي ربطت الوطنين خلال نضالهم ضد الفرنسي المحتل،
    فكم كنا نشاهد الدكتور مصطفى السباعي ومحمد المبارك وإلى جانبهما فارس
    الخوري يقودون المظاهرات في دمشق ضد المحتل، وكم شاهدنا الشيخ المجهول
    (أحمد الإمام) ورفيقيه في النضال أدمون رباط وليون زمريا يقودون المظاهرات
    في حلب ضد المحتل، وكان الشيخ يحمل الإنجيل وأدمون يحمل المصحف، في حين كان
    ليون زمريا يحمل الصليب في يد والهلال في اليد الأخرى، بهذه الروحية
    الخلاقة حقق الآباء الانتصار على المحتل وأجبروه على حمل عصاه والرحيل عن
    الوطن.
    ولم يسجل لنا التاريخ أن فارس الخوري أو أي وطني مسيحي سوري آخر
    ذكر في أي مناسبة أو كتب في أي وسيلة إعلام أن (البديل الإسلامي لن يكون
    ديمقراطياً)، في حين أننا نقرأ اليوم مثل هذا الافتراء على صفحات الجرائد
    وبقلم من تفاءلنا بوجوده بيننا، وأقصد الأستاذ ميشيل كيلو الذي كتب مقالاً
    تحت هذا العنوان في صحيفة السفير اللبنانية يوم 13/12/2012 وقد ساوى بين
    النظام المتهالك الذي قتل السووريين ودمر مساجد المسلمين وكنائس النصارى
    وبيوت الآمنين على رؤوسهم في كل المدن والبلدات والقرى السورية، وسفك دماء
    الأطفال والشيوخ والنساء على مدى عشرين شهراً في هستيرية وجنون لم يسجل
    التاريخ مثيلاً له، وبين الإسلاميين الذين فُرض عليهم حمل السلاح مع باقي
    فئات الشعب للتصدي لهذا الطاغية دفاعاً عن السوريين.. كل السوريين بلا
    تمييز، تزامناً مع نشاط صادق لهؤلاء مع باقي أطياف المعارضة في الداخل
    والخارج، لإيجاد خيمة سياسية يستظل بها هذا الحراك الرائع والشجاع الذي ميز
    الثوار والجيش الحر في تصديه لهذا الطاغية المتجبر.
    ماضي الحركة
    الإسلامية في سورية بعد الاستقلال سفر يشرف كل من ينتمي إلى سورية، فقد
    التزمت الحركة باللعبة الديمقراطية إلى أقصى مدى، وأقامت التحالفات داخل
    المجلس النيابي وخارجه مع كل أطياف العاملين في الحقل السياسي بغض النظر عن
    اعتقادهم أو انتمائهم، ودون تحفظ سواء في العرق أو الدين أو المذهب أو
    الطائفة، وهذا ديدبان المسلمين منذ قيام دولتهم الأولى في المدينة حيث نظم
    النبي محمد صلى الله عليه وسلم شؤون الرعية في هذه الدولة الفتية من مسلمين
    ويهود ومشركين ونصارى وأعراب ضمن إطار العدالة الاجتماعية التي تساوي بين
    كل مكونات الدولة الواحدة في الحقوق والواجبات، وحتى في كل الدول الإسلامية
    المتعاقبة منذ الخليفة الأول أبو بكر الصديق وحتى سقوط الخلافة الإسلامية
    في اسطنبول كان كل مواطني هذه الدول المتنوعين بين الأعراق والأديان
    والمذاهب والطوائف، يحتكمون لشريعة العدالة الإسلامية التي تساوي بين
    الجميع في الحقوق والواجبات، ولم يسجل التاريخ حادثة واحدة تحط من قدر هذه
    الشريعة أو انحرافها أو تحيزها، ولعل الأستاذ ميشيل كيلو يذكر كيف كان
    القضاء في الإسلام يقف على مسافة واحدة بين الداعي والمدعى عليه وإن كان
    أحدهما مسلماً والآخر – على سبيل المثال – يهودياً، وتاريخ القضاء الإسلامي
    حافلاً بالعديد من القصص والحوادث، ويكفي أن أذكّر الأستاذ ميشيل كيلو
    بحادثة لطم ابن عمرو بن العاص حاكم مصر للقبطي، وكيف أن الخليفة الفاروق
    عمر مكّن القبطي من لطم ابن عمرو بن العاص، حيث أطلق الفاروق مقولته
    الشهيرة التي اقتبستها شرعة حقوق الإنسان الذي أعلن في روما عام 1948(متى
    استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
    السيد ميشيل كيلو لا عذر
    له إن لم يجالس الإسلاميين ويحاورهم ويناقشهم أو يقرأ ما جاء في أدبيات
    وبرامج ومواثيق جماعة الإخوان المسلمين السوريين وهم من يقصدهم في مقاله
    حين يقول: "ثم صار التعقيد سيد الموقف بعد تشكيل ما سمي المجلس الوطني
    السوري، فغامت صورة المستقبل وتقدم الى الساحة بديل معاد للديمقراطية هو
    البديل الإسلامي، الذي يصعب تعيين حدوده أو طابعه، بسبب تنوع وتضارب أنماط
    واستراتيجيات القوى الإسلامية، التي تعدنا بكل شيء غير السلم الأهلي
    والوحدة الوطنية والبديل الديموقراطي، وتريد تقويض الدولة باعتبارها دولة
    علمانية كافرة، وترفض فكرة المساواة بين المواطنين ومعها مبدأ العدالة".

    وهذا تجني من السيد كيلو على الإسلام والمسلمين تؤكده الحقائق على أرض
    الواقع، فالإسلاميون في سورية هم أول من دعى إلى قيام الدولة المدنية
    القائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي تساوي بين جميع
    المواطنين المنتمين للهوية السورية في الحقوق والواجبات، من خلال المواثيق
    والعهود والبيانات والبرامج التي طرحتها جماعة الإخوان المسلمين قبل الثورة
    وخلالها وبعدها والتي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على نواياها تجاه سورية
    المستقبل!!
    ولعل من أبرز ما ميز الحركات الإسلامية في الربيع العربي
    بعد تسلمها مقاليد الحكم في بلدانها أنها لم تستأثر بالحكم وقد حازت على
    الأكثرية في كل الانتخابات التشريعية، بل شاركت كل الأطياف الأخرى ليكونوا
    شركاء لها في حكم الوطن والأخذ به إلى عالم أفضل يحقق للجميع العدالة
    الاجتماعية والسعادة والأمن والأمان، فإذا ما تعثرت في تحقيق ذلك على الوجه
    الأكمل فذلك يعود إلى التحديات الكبرى من قبل فلول الحكم السابق وبعض
    الذين ارتضوا أن يضعوا يدهم بأيديهم متنكرين للثورة وللثوار ولدماء
    الشهداء، بعد إخفاقهم في تحقيق أي نجاحات تذكر في كل الانتخابات التشريعية
    أو الرئاسية.
    السيد كيلو كنت أحسبك قارئاً جيداً للأحداث وما يجري في
    سورية، وكنت أحسبك قامة تتسامى فوق الترهات والنزوات التي تأتي من هنا أو
    هناك، وكنت أحسبك أكبر من أن تتوقف عند بعض ردّات الفعل ونزق الشباب مهما
    كان مصدرها، وكنت أحسبك أنه لا يمكن ان تنجر لما انجر إليه الغرب وأمريكا
    عندما يعلنون صباح مساء أنهم لن يقدموا الدعم التسليحي للثوار لأنهم يخشون
    أن يقع هذا السلاح بيد المتطرفين والإرهابيين، وهم يقصدون الحركات
    الإسلامية والجهادية التي تقدم اليوم على مذبح الحرية الآلاف من زهرات
    أبنائها كي تنعم سورية الغد بالحرية والكرامة والمساواة والعدالة
    والديمقراطية التي افتقدتها لأكثر من نصف قرن، وكنت أنت ونحن ومئات الآلاف
    من بعض ضحايا الاستبداد الذي خيم على سورية كل تلك السنين العجاف القاسية
    والسوداء، وكان الحري بك أن تكون منصفاً لا تنجر وراء مثل هذه الافتراءات
    والدعاوي الباطلة، فما يعير الثورة السورية إن جاءها بعض الإخوة العرب
    لينضموا إليها دفاعاً عن الشعب السوري، في مقابل تزاحم الآلاف من
    الإيرانيين وجماعة حزب اللات وعشرات الآلاف من الخبراء الروس لينضموا إلى
    هذا النظام الفاسد الطاغي المتهالك نصرة له وسعياً لبقائه، فيما الجسور
    البحرية والجوية والبرية الروسية والإيرانية لا تنقطع تحمل الموت الزؤام
    للسوريين في قنابل فراغية وانشطارية وفسفورية تحصد عشرات الآلاف من الآمنين
    السوريين وتدمر المدن والبلدات والقرى السورية.
    السيد كيلو أستغرب لما
    أصاب بصرك وقد اكتشفت القذى في بعض العيون ولم تكتشف عواميد الكهرباء في
    عيون الآخرين، ومقالك الطويل وما فيه من عوار يحتاج إلى المزيد من الرد
    والتعليق، ولكنني أكتفي بما أتيت عليه.
    وختاماً أتمنى عليك يا سيد كيلو
    أن تجيبني بشجاعة وصدق على ما يدور في خلدي وخلد الآخرين: لم خصتك موسكو
    وصديقك عارف دليلا في دعوتها لكما لزيارتها لتلتقوا مع من تلطخت أيديهم
    بدماء السوريين من دون كل أطياف المعارضة الشرعية التي اعترفت بها 130 دولة
    على أنها الممثل الشرعي والوحيد لسورية؟!