مصطفى إنشاصي
إن أي دولة أو منطقة أو إقليم في العالم، كأي شعب أو جماعة من الناس أو أمة من الأمم، يكتسب أهميته من خلال تميزه ببعض المزايا التي يكون لها أثراً إقليمياً أو عالمياً، سواء على صعيد الموقع الجغرافي، أو العطاء الإنساني والحضاري أو امتلاكها ثروة مادية ذات أهمية، وهنالك الكثير من الشعوب التي عاشت وانقرضت مع كثرة عددها ولم نسمع عنها إلا القليل، ولم تترك أي أثر ذا شأن في تاريخ البشرية، وهنالك بعض الشعوب التي تركت أثارا ذات شأن كبير أو قليل إلا إنها لم تستطع الحفاظ على وجودها وكيانها كأمة، فانقرضت أو ذابت وانصهرت في شعوب وأمم أكثر عدداً وأعظم شأناً حضارياً وثقافياً، وهنالك شعوب لا تزال حية منذ آلاف السنين، منذ ظهرت في التاريخ البشري، ولا زالت تستقطب الأحداث وتؤثر فيها وتعتبر محط أنظار واهتمام العالم، مع كل ما مر بها من محن وابتلاءات وويلات، واستطاعت أن تجمع إلى جانب تمتعها بالموقع الجغرافي والاستراتيجي الهام، امتلاكها الثروات المادية والبشرية الكثيرة، والقدرة على التأثير من مسيرة الحياة الإنسانية وأخذ موقع الصدارة من تاريخ البشرية، وذلك بما قدمته للإنسانية من ثروة فكرية وثقافية وحضارية، مثل ما بات يعرف باسم منطقة (الشرق الأوسط).


فالمنطقة المسماة (الشرق الأوسط) بحدودها الجغرافية، وموقعها الاستراتيجي الذي يتوسط العالم، ويعتبر حلقة الوصل بين شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، برياً وجوياً وبحرياً، وبأعراقها وأجناسها المختلفة، ذات العطاء الحضاري والفكري منذ فجر التاريخ، وحتى اليوم، حيث يدين لها العالم أجمع –وخاصة الغربي – بإرثه الحضاري والفكري والمادي والإلهي معاً. فمنطقة وادي النيل، والهلال الخصيب، كانتا منذ فجر التاريخ مهد الحضارات الإنسانية – المادية ولها تُدين أوروبا بكثير من إرثها الحضاري على مستوى العقائد والفكر والقانون وغيرها.


وبعد ظهور الرسالات السماوية (رسالة موسى ورسالة المسيح ورسالة محمد صلَ الله عليهم جميعاً)، وخاصة الإسلام الذي وحد شعوب المنطقة على اختلاف أعراقها وتنوع أجناسها وقاد فيها مسيرة الحياة الإنسانية، حضارياً وفكرياً، وكان رائد العطاء الإنساني نحو عشرة قرون، وهي المدة التي تدين بها له الحضارة الغربية الحالية، فكرياً وعلمياً وتكنولوجياً.


لقد كان الإسلام أول دين ومنهج وسلطة تعطي لشعوب المنطقة الحرية، وتطلقها من أغلال الاستعباد والقهر، وكانت السلطة الوحيدة التي تُملك الناس أرضهم، وثرواتهم، فلم تعد تلك الشعوب وأملاكها وثرواتها ملكاً أو نهباً لكسرا أو قيصر. لقد كان الإسلام أول دين يحترم الإنسان ويحافظ على كرامته الإنسانية، دون النظر إلى دينه، أو جنسه أو لونه، عملا بقوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىظ° كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" . وعملا بقول رسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "إن اللهَ عزَّ وجلَّ قد أَذْهَبَ عنكم عُبِّيَةَ الجاهليةِ، وفخرَها بالآباءِ، مؤمنٌ تقيُّ، وفاجرُ شقيٌّ، أنتم بنو آدمَ، وآدمُ مِن ترابٍ" .


ذلك ما مكنه من إشادة حضارة عظيمة، هي فخر الحضارات الإنسانية، حضارة أساسها القرآن الكريم والسنة، وثمرتها الأخلاق الإسلامية الحميدة، حضارة شاركت فيها كل الأجناس التي كانت خاضعة لحكم الإسلام، حضارة النموذج الإنساني الذي أشتد شوق العالم المستضعف له اليوم، كما يشتد رعب العالم المستكبر الظالم منه يوماً بعد يوم، ويعمل جهده لمنع عودته إلى قيادة العالم من جديد، ويحاربه باستماتة تحت مسميات عدة: الأصولية، الراديكالية، (الإرهاب)، الرجعية، والتغيير والشراكة في نشر الديمقراطية والحرية حقوق الإنسان وغيرها من مسميات يذخر بها قاموسه السياسي والفكري الغربي اليوم.


فلسطين بالنسبة لـ(الشرق الأوسط) بمثابة القلب روحياً ودينياً، جغرافياً واستراتيجياً، لذلك فلسطين كأرض وشعب لم تستهدف لذاتها، أو لأن الغرب له مع أهلها ثأر أو عداء خاص، ولكنها مستهدفة لمكانتها الدينية عند أتباع الرسالات السماوية السابقة للإسلام، فكل منهم يعتبرها حقاً دينياً له، ووعد الله لملته، ودليل على صدق دينه، وأن ملكيته لها يعد توطئة لعودة المسيح المنتظر، أو بعثه لأول مرة كما في العقيدة اليهودية، فمنها سيدير المسيح شؤون العالم، وتكون لأمته السيادة على العالم. كما تأتِ مركزية فلسطين في الصراع من خلال ما حظي به موقعها من أهمية جغرافية واستراتيجية ـلمن يريد ضرب الإسلام والقضاء عليه، والتمكين له من الهيمنة على الأمة والوطن.


لذلك فإن كيان العدو الصهيوني يمثل مركز الهجمة الغربية على الأمة والوطن، وفلسطين تمثل قضية الأمة المركزية، لما حباها الله من المكانة الدينية والأهمية الجغرافية والاستراتيجية. فكيان العدو الصهيوني هو "أداة" الحفاظ على "أنظمة التجزئة" التي رسمت حدودها معاهدة سايكس - بيكو وغيرها، وأرض فلسطين وأهلها هم الضحية كبش الفداء. ففلسطين في المنظور الغربي هي قطعة الأرض التي إذا ما أخرجت من أيدي المسلمين، وتم لهم امتلاكها، استطاعوا السيطرة على الأمة والوطن، وفرض هيمنتهم الحضارية عليهما من المحيط إلى المحيط، وأمنوا استمرار النهب لثرواتنا ومواردنا المادية والبشرية، وحالوا دون قيام أي وحدة حقيقية يمكنها تهديد تلك الهيمنة، وبذلك يكون قد وجه الغرب ضربة قوية للإسلام وفي القلب، واستطاع أن يشل حركة بقية أعضاء الجسد عن القيام بدورها الطبيعي وعطائها الحضاري، مما يؤخر نهضة هذه الأمة واستمرار الهيمنة الثقافية والسياسية والعسكرية والتبعية الكاملة للغرب.


لذا فإن القضية أبعد وأعمق مما تبدو عليه، فهي ليست قضية سياسية ولا قومية، ولا تقف عند حدود فلسطين فقط، فهي في جوهرها قضية صراع بين أمتين وحضارتين متباينتين، لم تهدأ منذ قرون طويلة موغلة في التاريخ، ولكن منذ تحقق الانتصار للحضارة الغربية وتحولت من موقف الدفاع إلى الهجوم في أواخر القرن السابع عشر الميلادي بعد فشل الحصار العثماني الثاني لفينا عام 1683، الذي أعتبره المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي: "إيذاناً بتحول الغرب "إلى قوة كاسحة وصاحبة السلطان في العالم حتى أنه لم يعد أمام الآخرين "المسلمين" خيار، فإما التغريب وإما الهلاك". منذ ذلك التاريخ بدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع الوجودي بين الأمة والغرب، بدأ فيها الغرب محاولاته الجادة والقوية لاختراق الأمة وفرض سيطرته وهيمنته الثقافية والفكرية والعسكرية عليها، وفرض مشروعه ونموذجه الحضاري على العالم كله. وبسبب فشل السلاطين العثمانيين في تجديد النموذج الحضاري الإسلامي، وأخذ بعضهم ببعض مظاهر النموذج الحضاري الغربي، بدأت الأمة تفقد موقعها القيادي الدولي، وبدأت أوروبا تأخذ مواقعها طارحة نموذجها الخاص والمختلف بديلاً عن نموذجنا.
لمعرفة الأسباب الحقيقية لاستهداف الغرب بشقيه اليهودي الصهيوني والغربي لفلسطين، وإن كانت تسميتها (قضية الشرق الأوسط) صحيحة أم أنها خاطئة، هدفها التضليل والتمويه على حقيقة أبعاد الهجمة الغربية ضد الأمة والوطن، علينا أن نتعرف ما يسميه الغرب (الشرق الأوسط)، وأهميته متعددة الأبعاد: