مصطفى إنشاصي
منذ أن صدر كتاب كمال صليبي"التوراة جاءت من جزيرة العرب" عام 1985 الذي زعم فيه أن جغرافية التوراة وبني إسرائيل ومسرح أحداثها لم يكن تلك الجغرافية المعروفة في كتب التاريخ (العراق وبلاد الشام وسيناء ومصر) ولكن جنوب الجزيرة العربية (عسير واليمن) غاب تاريخنا العربي القديم، وتعاظم جهود البحاثة العرب في البحث عن تاريخ اليهود ومنشأ اليهودية هناك بعيدا عن جغرافيته ومسرح أحداثه الحقيقي، وبعد أن كان تاريخ بني إسرائيل واليهود في جغرافيته الحقيقية تاريخ قبيلة عابرة في وطننا وجزء من القبائل العربية أصبح تاريخ أمة عظيمة يصغر أمامها تاريخنا العربي كله، وصدرت مؤلفات كثيرة تختلف وتتناقض فيما بينها وهي تصنع لقبيلة لم يكن لها أثر في تاريخ العالم، ولا ذكر في تاريخ العطاء الحضاري والمدنية الإنسانية، ونسينا تاريخنا وعطاءنا الحضاري والإنساني للعالم أجمع، حتى بلغ ببعض ما أصبح يعرف بالأقليات الدينية في بعض أقطار وطننا المعلوم أصلها وتاريخها العربي تنتسب إلى أصول غير عربية، لذلك سنواصل التذكير بتاريخنا العربي القديم إحياء وحفظا له في محاولة لإعادة حجم اليهود إلى وضعه الذي يستحقه وأنهم لا تاريخ يذكر لهم في مسيرة التاريخ البشري.
إن تاريخ وطننا هو تاريخ حضارة ومدنية، فهو ملحمة إنسانية غطت بإشعاعها العالم الموجود في ذلك الوقت، وهي مهد الأفكار والمعتقدات التي يدين بها كثير من العالم الشرقي في ذلك الوقت، وما يدين به الغرب قديماً وحديثاً. وانطلاقا من هذه الرؤية لوحدة الجغرافيا والعرق والثقافة والعادات والتقاليد ..الخ، لسكان وطننا العربي الحالي سوف نعرض لمناطق سكنى القبائل العربية التي انتقلت من مواكنها الأصلية إلى مواطن جديدة داخل وموطنها الواسع الجزيرة العربية واستقرت في منطقة الهلال الخصيب، وما قدمته للحضارة والمدنية الإنسانيتين من فضائل.

الهجرات العربية إلى بلاد الرافدين "العراق"
1 – الأشوريون:
كانت أقدم الهجرات العربية التي هاجرت إلى بلاد الرافدين وحلت بها في بداية الألف الثالث ق.م هجرة الآشوريين، الذين سكنوا الأقاليم الشمالية في بلاد الرافدين لأنها كانت أكثر خصوبة وأصلح للزراعة والمرعى، خلافاً لأقاليم الجنوب التي كانت مغمورة بماء البحر, كما انحدرت من شمالي بلاد الرافدين قبائل المهاجرين الأول إلى بادية الشام وإلى شواطئ البحر المتوسط بالقرب من صحراء شبه جزيرة سيناء .
ومع أن الآشوريين كانوا أول القبائل العربية التي سكنت بلاد الرافدين إلا أنهم ظلوا "خاضعين للآكديين والبابليين، حضارياً وسياسياً، ولم يظهر الآشوريين على مسرح السياسة ويصبح لهم كيان إلا في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وهو الوقت الذي استطاعوا فيه أن ينفصلوا عن الجنوب" .
ولم يكن الآشوريين بناة حضارة كما كان الأكاديون والبابليون والفينيقيون "الكنعانيين"، ولكن "عاشت آشور على مجد بابل... لقد تطورت بابل تطوراً تدريجياً حتى وصلت إلى القمة، وأما آشور فقد بدأت عند القمة التي انتهت إليها بابل وبدأت تبني مجدها على أنقاض حضارة شادها أصحابها بسواعدهم الفتية وكانت ثمار جهاد استغرق عشرات القرون ولم يكن إقليمهم خصباً خصب بابل ولم تكن مواردهم كموارد بابل... كانوا تجاراً ولم يكونوا من أهل الحرف والصناعات أو المزارعين.. ولعل ذلك كله يفسر كيف انتهوا فجأة واختفوا كما يختفي الحبب" .
ومع أن الآشوريين لم يكونوا بناة حضارة إلا أنهم لم يكونوا أيضاً كما أظهرهم الكتاب الغربيين المتأثرين بروايات التوراة برابرة متوحشين يهدمون ويدمرون كل بلد يدخلون إليه. يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي: "فلم يقتصر عملهم على مجرد عدم هدم ما كانوا يحكمون، بل إنهم حافظوا على هذه الأرض ووحدتها وأمنها وهم كذلك لم يمسكوا عن هدم الثقافة الآرامية فحسب، عندما سيطروا على العاصمة الآرامية الأخيرة (دمشق) عام 732 ق. م بل إنهم على العكس أنقذوها ونشروا لغتها في الإقليم الواسع الذي كانوا يحكمونه، نشروا (الآرامية) التي أصبحت اللغة المشتركة في هذه الأمة كلها خلال ما يقرب من ألف عام، لقد تمثلوا ثقافة الآراميين، وأسندوا إليهم دور الوزراء والموظفين والمربين" . وقد أصبحت اللغة الآرامية "اللغة العالمية في جميع الأعمال الخاصة بالتجارة والإدارة" ولسوف تكون اللغة الآرامية اللغة التي يتكلمها المسيح بعد ذلك بسبعة قرون .

2- الآكديين وبابل القديمة:
سبق الإشارة إلى أنه من القبائل العربية التي هاجرت إلى بلاد الرافدين منذ آلاف السنين الآكديين، وقد سكنوا إلى الجنوب من الأشوريين، وقد ظهر الآكديين في أفق التاريخ منذ زمن مبكر كما يقول الدكتور (نجيب ميخائيل إبراهيم): "ولكننا نستطيع أن نؤكد على أية حال أن البابليين ظهروا في أفق التاريخ في زمن مبكر جداً" .
ويضيف قائلاً: "أما قيام الحضارة (السامية) في ميزوبوتاميا() فيقترح البعض تقدير عمرها بمقارنة الإرساب الفيضي عند شاطئ البحر، حيث قامت (أور) حوالي 6600ق.م... و(أور) هي أقدم مدن بابل القديمة كما أن نيبور(*) أبعد مدنها شمالاً ويقترح البعض لنشأة هذه الأخيرة المرحلة بين الألف السادسة قبل الميلاد. ونستطيع أن نطمئن على أية حال إلى رأي القائل بأن الإقليم وراء نيبور حتى (الخليج الفارسي) كان مركزاً انتشرت منه الحضارة بمعنى أن حضارة نيبور أعرق من حضارة أور" .
أما عن قيام أول دولة في بابل، يقول: "ونستطيع أن نترسم قيام دولة بابل حوالي منتصف الألف الخامسة قبل الميلاد وأول ملك عثر له على سجل يحمل اسمه هو (أنشاج كوشانا) الذي أطلق على نفسه حوالي 4500ق.م (سيدي كنجي) وهي قطاع بابل الجنوبي، واستطاعت بابل أن توسع سلطانها على مر القرون وأن تمد نفوذها حتى شواطئ البحر المتوسط" .
أما بعد عصر فجر الآسرات، وإنشاء الإمبراطوريات الكبرى "فقد أسس الآكديون الإمبراطورية (السامية) الأولى الكبرى على يد سرجون الآكدي حوالي عام 2350ق.م. التي حكمت بلاد العراق كلها وبلاد عيلام وآسيا الصغرى والأناضول، ووصل إلى البحر المتوسط، وقيل إلى جزيرة قبرص. وكانت لغة الدولة اللغة الآكدية وهي لغة (سامية). وقد اقتبس الآكديون الكتابة السومرية والكثير من مظاهر حضارتهم" .
وفي عهد سرجون تم دمج الحضارة السومرية والآكدية معاً بعد توحيد الإقليمين السومري والأكادي، وقد "وصلت الحضارة أثناء حكم ملوك سومر وآكد إلى أعلى مراتبها عندما امتزجت الحضارتان السومرية والآكدية، وأصبحتا حضارة واحدة لها طابعها المميز وهي ما نسميه الحضارة البابلية" .
كما كان لاتساع الدولة الآكدية وتدفق الثروات عليها أثره "في تقدم الحضارة الآكدية وانتشار استعمالها الكتابة والخط المسماري في معظم أقاليم الشرق القريب وفي آسيا الصغرى، وأخذ الحثيون والعيلاميون الكثير من الحضارة الآكدية، ونفذت أشعة الحضارة إلى بلاد الشام وانتقلت الأساطير مثل قصة الطوفان البابلية إلى سورية. وجملة القول أن الفتح الآكدي كان عنصراً قوياً في توحيد نظم الحياة والحضارة في الشرق القريب" .
وقد أثرت حضارة بلاد الرافدين القديمة في سير الحضارة العالمية، فقد "كانت فخامة العواصم العراقية مضرب المثل في العالم القديم سواء ما كان منها في نينوى في الشمال أو في بابل في الجنوب، وكان لدول آشور وبابل فضل لا ينكر على سير الحضارة العالمية، ومن معينها أخذ الفرس كما أخذ اليونان من قبل" . كما أنهم "خلفوا للعالم الشيء الكثير من الأدب وأساطير الآلهة التي كان لها، بل وما زالت لها حتى الآن، أثر كبير على التفكير الإنساني لا في العراق والشرق الأدنى وحسب بل وفي العالم كله" .
وقد كان من قوة تأثير تلك الحضارات أنها استوعبت الفاتحين الأوروبيين الذين دمروا وحطموا كل شيء وجدوه أمامهم "وعلموهم الحضارة ولين النفس. كان هذا قبل أن يكون لأي شعب من سكان القارة الأوروبية أي شأن... وقد اعترف اليونان الأقدمون – بل أنهم في الواقع كانوا يفخرون ويعتزون ـ بأنهم تعلموا أكثر أصول حضارتهم من مصر أو من بابل" . وعن هذه الحقيقة يقول "رالف لنتون" في كتابه "شجرة الحضارة": "وأهم ما قدمه (الساميون) وساهموا به في المدنية كان في ميداني العلوم الرياضية والفلك من ناحية، وفي ميدان الدين من ناحية أخرى، ومن الحقائق التي تلفت النظر أننا ندين لهم بكل من آلية الكون والنظرية التي تقول بان الكون ليس إلا وحدة تخضع خضوعاً مطلقاً لمشيئة إله واحد قوته فوق كل شيء. وقد تطورت النظرية الأولى من خلال ملاحظات الكهنة الذين عاشوا في بلا ما بين النهرين فترة طويلة من الزمن للأفلاك السيارة. أما النظرية الثانية فقد نشأت عن الإخلاص والفناء الكاملين في الإله القبلي، وكان هذا الإخلاص على درجة من القوة جعلت كل (الكائنات) والقوى الأخرى تتلاشى أمام المتعبدين. كان (الساميون) يجرون دائماً وراء الأشياء المطلقة..." .
ويضيف في موضع آخر: (لقد أثرت بلاد ما بين النهرين على المدينة الأوروبية أكثر من أي مركز آخر من مراكز المدنيات المبكرة، وقد بدأنا فقط منذ وقت قريب ندرك مدى الدَين الكبير الذي تَدين به الحضارة الإغريقية القديمة لهذه المنطقة. كما أن دين الحضارة الهلينيستية أكثر وأعظم لأن النظم الاقتصادية والسياسية التي تضمنتها هذه الحضارات قد أخذت مباشرة من هذه المنطقة بعد أن لعبت كل من المدنيتين الأشورية والفارسية دور الوسيط، ثم انتقلت هذه النظم عن طريق الحضارات الهلينيستية إلى الإمبراطورية الرومانية وأصبحت جزءاً من تقاليد غرب أوروبا" .
كانت تلك أهم القبائل العربية التي هاجرت إلى بلاد الرافدين منذ فجر التاريخ وما قبله، وشكلت الغالبية السكانية فيه وصبغته بصبغتها الخاصة. ولا يعني هذا أن الهجرات العربية الأخرى التي سيأتي الحديث عنها الآن، والتي غمرت سوريا وبلاد الشام أنها لم يمتد وجودها إلى العراق، وتؤثر فيه، سياسياً وحضارياً، كما حدث مع الأموريين الذين أقاموا دولة بابل في العراق –كما سيأتي- وكذلك الآراميين الذين سكنت منهم بطون شمال بلاد الرافدين. ولكن تقسيمنا هذا نظري اعتمدنا فيه على المواطن الأولى التي نزلت فيها تلك القبائل وشكلت الغالبية السكانية فيها. ومر معنا أنه انحدرت من شمالي بلاد الرافدين قبائل المهاجرين الأول إلى بادية الشام وإلى شواطئ المتوسط وفلسطين، فالبلاد كانت وطن واحد مفتوح وقليل السكان آنذاك ويسمح باستيعاب هجرات جديدة من كل مكان.