بعد أن بينا أن الجغرافيا العربية تاريخاً وجغرافيا ولغة وثقافة وحضارة كانت تغطي مساحة أكبر وأكثر اتساعاً مما هي عليه قبل أن يزور الغرب التاريخ القديم ويكتب تاريخاً جديداً للعالم يقتطع فيه جنوب ووسط أوروبا من ذلك العالم العروبي الذي يمتد من حدود الصين إلى الجزر البريطانية عابراً المحيط الأطلسي إلى ما يُعرف اليوم بالأمريكيتين، فقد سبق أن اكتشفهما الكنعانيون في القرن السادس قبل الميلاد، وكذلك المسلمون وصلوا إليهما قبل أن يصلهما الغرب بواسطة المسلمين أيضاً.
نعود للحديث عن مخططات المستشرقين وعلماء الآثار الغربيين واليهود الذين كان أهم أهداف وغايات عمليات تنقيبهم ودراساتهم عن آثار القبائل العربية التي عمرت وسكنت الوطن العربي وشادت فيه حضارات متتالية ومتعاقبة كان ولا زال لها كثير من الفضائل على الحضارة الإنسانية والغربية منها خاصة، هو تفريق الأمة بإثارة النعرات الجاهلية وتمزيق وحدتها إلى قبائل وعشائر أصبحت تسمى شعوب عربية وغير عربية، تمزق وتشتت معها الوطن الواحد إلى أوطان وكيانات فسيفسائية على أسس وتقسيمات ونعرات عرقية جاهلية، وقد كانت البداية من فلسطين التي تم فصلها عن جسد الأمة والوطن وإظهارها كأنها كانت جزءً مستقلاً ومنفصلاً جغرافياً وتاريخياً وثقافياً وحضارياً وعرقياً عما حولها، لزرع اليهود الذين يزعمون أنها أرضهم التاريخية.
هذا الجزء المعروف اليوم باسم فلسطين التاريخية، وما هي بتاريخية، الذي استأصلته المؤامرات اليهودية ـ الغربية بداية القرن الماضي من جسد الأمة، عندما أعادت تشكيل جغرافية وطننا بعد انتصارها في الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية فيها، ومنحوه وطناً قومياً للعدو الصهيوني تنفيذاً لتوصيات المؤتمرات الغربية والتحالف مع اليهودية العالمية، هل كان يوماً جزءً مستقلاً أو منفصلاً جغرافياً أو تاريخياً أو ثقافياً أو حضارياً أو عرقياً عما حولها؟! أم أنه كان جزءً من وحدة كلية تجمع دول المنطقة العربية كلها؟!
سنحاول كتابة تاريخ فلسطين جزء من الجزيرة العربية التي مزقها علماء الآثار التواتيون والمستشرقون إلى:
شبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام، والعراق، وسموا العراق وبلاد الشام منطقة الهلال الخصيب، ودرسونا أن القباىل العربية لأسباب كثيرة خرجت منها لتعم وتغطي كل تلك الأراضي المهجورة أو قليلة العدد، علما أن الدراسة الموضوعية لتاريخ فلسطين ومنطقة الهلال الخصيب أن المنطقة بكاملها بما فيها مصر وجنوب وادي النيل تشكل منذ فجر التاريخ وحدة جغرافية وسكانية ولغوية واحدة أصلها واحد، جاء من الجزيرة العربية، موطن القبائل العربية التي غطت هذه الأراضي منذ قبل العصور التاريخية المعروفة، والتي امتزجت مع سكان البلاد القدامى –قليلة العدد- وامتصتهم فيها وأكسبتهم صفاتها العربية، وصبغت البلاد كلها بالصبغة العربية.
فالقباىل العربية التي سكنت بلاد الشام والعراق لم تهاجر بل كانت تتنقل داخل الموطن الواحد. وقد كانت أشهر القبائل التي انتقلت إلى فلسطين القبائل الكنعانية، وقد بنى العرب في فلسطين القرى والمدن المحصنة خصوصاً في المناطق الجبلية، وقد عرفوا الأسوار وشادوها حول مدنهم لحمايتها من هجمات الغزاة، وانشئوا تجمعات مستقرة. وقد اشتهروا بزراعة الحبوب والفواكه وقد نقل عنهم ذلك أمم أخرى، وكانت لهم بعض المراكز التجارية الكبيرة، وأسسوا حضارات ذات طابع متميز حتى أن حضارتهم هذه قد تمكنت من غزو الأقوام المجاورة لهم. وقد كانت حضارتهم من (القوة والعظمة ما مكنها من امتصاص موجات المهاجرين واستيعابهم كأولئك الذين وصلوا حوالي عام 2600 ق.م من وراء القوقاز كما تدل على ذلك أواني الخزف ذات الطابع الجديد والتي عثر عليها في خربة كرك وما أسرع ما تمثلت حضارة هؤلاء المهاجرين) .

وحدة الجغرافيا: فلسطين جزء من الجزيرة العربية
يجمع مؤرخي بلاد الشام والهلال الخصيب أن هذه المنطقة كانت إلى حد كبير وحدة واحدة لا تنفصل عن بعضها، خاصة وأن سكان المنطقة بكاملها بما فيها مصر وجنوب وادي النيل منذ فجر التاريخ يشكلون شعباً واحداً، من أصل واحد، جاء من الجزيرة العربية، موطن القبائل العربية التي غطت هذه الأراضي منذ ما قبل العصور التاريخية المعروفة، والتي امتزجت شعوبها مع سكان البلاد القدامى قليلي العدد وامتصتهم فيها، وأكسبتهم صفاتها العربية، وصبغت البلاد كلها بالصبغة العربية، ابتداء من نحو 3500 ق.م حيث خرجت القبائل العربية من جزيرتها العربية بأعداد هائلة، وانتشرت في العراق وبلاد الشام "سوريا، ولبنان، وفلسطين، وشرق الأردن"، ومن فلسطين سارت بعض القبائل إلى سيناء ومنها إلى مصر، وذهبت منها قبائل إلى شمال إفريقيا وإلى السودان والحبشة، واستوطنت هذه البلاد وامتزجت بسكانها .
ولم تكن فلسطين في يوم من الأيام منفصلة عما حولها من البلدان، بل كان مصيرها مرتبطاً دوماً بأوضاع ما جاورها، لأنها لم تكن سوى عضو في وحدة عضوية أكثر اتساعاً ورحابة، وهي ما أطلق عليها المؤرخ وعالم الآثار الأمريكي جيمس هنري برستد اسم الهلال الخصيب، لأنه "يكون شكلاً نصف دائري على وجه التقريب، ويرتكز حرفه الغربي جنوب البحر الأبيض المتوسط، ووسطه فوق شبه جزيرة العرب ويرتكز حرفة الآخر عند (الخليج الفارسي) وخلف ظهر هذا الهلال تقوم الجبال المرتفعة، وعلى ذلك تكون فلسطين عند نهاية الجزء الغربي منه وبلاد بابل في الجزء الشرقي بينما تكون بلاد آشور جزءاً كبيراً من وسطه. وهذا الهلال الخصيب ليس إلا امتداداً لصحراء العرب" .
وإذا ما رجعنا إلى المؤرخين والجغرافيين العرب والمسلمين القدامى، وتحديدهم لحدود الجزيرة العربية، فإننا نجد حركة انتقال القبائل منذ فجر التاريخ كانت تتم في حدود الوطن الواحد "الجزيرة العربية"، التي حددوا حدودها "من عبادان حيث مصب دجلة على الخليج العربي، إلى عمان على مدخل الخليج مروراً بالبحرين ومن عمان إلى عدن على مدخل بحر القلزم (الأحمر) مروراً بسواحل المهرة وحضرموت ومن عدن على طول سواحل اليمن، عبر جدة والحجاز ومدين إلى (آيلة) على طرف خليج العقبة، عبر تاران وثيران".
ويقرر المؤرخ العربي الإصطخري أن هذه المساحة من بلاد العرب تحيط بها مياه البحار "بحر فارس" تمثل ثلثي بلاد العرب، وأما الثلث الباقي فحدوده الغربية من آيلة" إلى بالس قرب الرقة، ويعتبر هذا الحد من بلاد الشام ويمر على البحر (الميت البحيرة المنتنة أو بحيرة زغر) إلى الشراة والبلقان (من عمل فلسطين( إلى حوران وأذرعات والبثنية والغوطة ونواحي بعلبك (من عمل دمشق) إلى تدمر وسليمة (من عمل حرض) ومن هناك إلى المناصرة وبالس (من عمل قنسرين) عند الفرات" .
لم تكن فلسطين عبر تاريخها الطويل تنفك عن بلاد الشام والهلال الخصيب، فهي تزدهر بازدهارهما وتبتئس بابتئاسهما، وتصان بمنعتهما وقوتهما، وقد اعتبرها المؤرخ الإغريقي المشهور هيرودوت الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد جزءاً من بلاد الشام. كما أن مؤرخي الفرنجة في عصر الحروب الصليبية، أجمعوا على أن فلسطين "ديار شامية" ، أما المؤرخون العرب والمسلمون الأقدمون فقد سموا بلاد الشام "سورية" وقسموها إلى قسمين الأول سورية، والثاني فلسطين . وسبق أن قلنا أنهم اعتبروا بلاد الشام جزء من الجزيرة العربية.
وقد جرى على فلسطين ما جرى على بقية أجزاء الوطن منذ أن غلبت على أقطار الوطن قبل الإسلام الإمبراطوريات غير العربية، وبدأت تخرج من احتلال إمبراطورية إلى احتلال إمبراطورية أخرى، إلى أن أشرقت عليها شمس الإسلام فأصبحت منذ ذلك الوقت جزءاً من الدولة الإسلامية على اختلاف مسمياتها. وأخرها الدولة العثمانية وقد كان العثمانيون يطلقون على فلسطين التسمية التي اعتاد أن يطلقها عليها المؤرخون والجغرافيون العرب والمسلمين، وهي "سورية الجنوبية .
ولم يتم رسم شكل الخارطة الجغرافية المتعارف عليها حالياً لفلسطين إلا في الاتفاقيات السرية الغربية، خاصة اتفاقية سايكس ـ بيكو التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا عام 1916م، وفي الخرائط التي قدمت إلى مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس كانون الثاني/يناير 1919 لاقتسام وطننا بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وأخيراً في قرار الاحتلال "الانتداب" الصادر عن عصبة الأمم عام 1922 القاضي بسلخ فلسطين الحالية عن جسد الأمة ووضعها تحت الاحتلال البريطاني، وتهيئة أوضاع فلسطين السياسية والاقتصادية والاجتماعية ... لإقامة الوطن القومي اليهودي على أرضها تنفيذاً لوعد بلفور الصادر عن وزارة الخارجية البريطانية بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917. الذي وعدت فيه ملكة بريطانيا بإقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين على حساب الحقوق الوطنية لسكانها الأصليين الذين تم طردهم وتشريدهم منها عام 1948.
لذلك فإن الواجب القومي العربي والإسلامي يقتضي من كل أبناء الأمة أن يحرصوا على استخدام المصطلحات الصحيحة، التي تدل على حقيقة هوية وطننا وأبعاد الصراع الدائر فيه، وتبين من الذين ساعدوا اليهود على اغتصاب فلسطين، ولازالوا يوفرون الحماية للمغتصب اليهودي لقلب الأمة، ويحاولون جعله محوراً ومركزاً لكل "نظام إقليمي جديد" في وطننا، لذلك ليحرص كل منا على استبدال مصطلح "الشرق الأوسط" بأي مصطلح يتوافق مع فكره ومفاهيمه الأصيلة، بحيث يدل على وحدة الوطن وأبعاد الهجمة اليهودية الغربية عليه، وليجمع الجميع على استبدال مصطلح قضية "الشرق الأوسط" أو أزمة "الشرق الأوسط" أو "قضية فلسطين" وغيرها من المصطلحات الغربية الدارجة بمصطلح "القضية المركزية للأمة"، لعله يكون بداية لتقويم المقلوب، والعودة إلى الذات، وإدراك أبعاد ومخاطر الاستمرار في استخدام المصطلحات الغربية التي تنطوي على أبعاد خطيرة ضد الأمة والوطن.