-
باحث في علم الاجتماع
أخطاء توراتية: طبقات العرب وإبادة بعضها (75)
مصطفى إنشاصي
سبق أن أشرنا إلى أن منهجية التوراة في تعاطيها مع تاريخ الجنس البشري وتاريخ فلسطين خاصة منذ ما بعد الطوفان منهجية عنصرية استئصالية موجهة توجيهاً سياسياً، بدأت باختيارهم إلههم الخاص (ياهو أو يهوه) واختيارهم لأنفسهم على لسانه أنهم (شعبه المختار) من بين كل شعوب الأرض ونزع صفة الإنسانية عن تلك الشعوب وتحويلهم إلى حيوانات.
ثم زعمهم أن الههم عندما طغى شر الإنسان في الأرض نظر فلم يجد غير بيت نوح عليه السلام صالحين فأغرق كل سكان الأرض بالطوفان ولم يبقَ منهم إلا نوح وزوجاته وأبناءه وزوجاتهم وهم أصل الجنس البشري بعد الطوفان. ثم اختلقوا الخرافة السباق ذكرها التي انتهت إلى اختصاص (سام بن نوح) وذريته بالبركة والسيادة العالمية من دون بقية أبناء نوح وذرياتهم.
وثم اختار إبراهيم عليه السلام من نسل (أرفكشاد بن سام بن نوح) ليمنحه الحق بالأرض من النيل إلى الفرات، بل الأرض كلها. ثم اختار إسحاق عليه السلام وذريته من ذرية إبراهيم دون أخاه إسماعيل عليه السلام وذريته وزعموا أنه الذبيح. ثم اختار يعقوب (إسرائيل) عليه السلام وذريته (بنو إسرائيل) من ذرية إسحاق دون أخاه عيسو وذريته، ليكونوا له الشعب المختار الموعود بالسيادة العالمية، واختار فلسطين من دون كل بقاع الأرض لتكون مركزاً لتلك السيادة!
بناء على تلك المنهجية التوراتية لم يكتفِ المؤرخون المسلمون والعرب بإبادة نسل وذرية كل من ركب مع نوح عليه السلام في السفينة لصالح الخرافة التوراتية بل وبلغ بهم الأمر أن إبادوا ذرية أبناء (سام بن نوح) الخمسة الآخرين لصالح بقاء ذريته من ابنه السادس أرفكشاد (أرفخشذ) الذي من نسله نبي الله إبراهيم عليه السلام، معتبرين أن العرب البائدة هم أقوام نبيي الله عليهما السلام هود لقومه عاد، وصالح لقومه ثمود وطسم وجديس وغيرهم، وقد بادوا بعد أن حل بهم عقاب الله بسبب تكذيبهم رُسل الله.
وهكذا خلص مفسري ومؤرخي المسلمين دون وعي أو قصد منهم إلى نفس النتائج التي أراد كتبة سفر التكوين توصيلها للعالم، فهم أبادوا القبائل العربية ممن يرتفع نسبهم إلى (سام بن نوح) من غير نسل ابنه أرفكشاد. أي أنهم أزاحوا معظم القبائل العربية من ذرية إخوة أرفكشاد من طريق مشاركة اليهود في حقهم في البركة التي منحها الله لسام، وذلك بإبادتهم لأنهم كذبوا أنبياء الله أو لأسباب أخرى، والقليل منهم الذي ذكر أن مَنْ بقي منهم ذاب في ذرية قحطان، وأولئك اعتبروا قحطان هو يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام، لأن البعض يرجح أن يكون قحطان من ولد إسماعيل عليه السلام.
أما العرب المستعربة فهم نسل إسماعيل بن إبراهيم الخليل من زوجاته من قبيلة جرهم العربية اليمنية التي استقرت معه وأمه بعد أن فجر الله لهما بئر زمزم، وعندما كبر وبلغ سن الزواج صاهرهم ومن نسله تكونت قبيلة قريش التي خيرها خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلَ الله عليه وعلى آله وسلم. وأن إسماعيل لم يكن يتكلم العربية ولكنه تعرب لغة وثقافة من خلال اكتسابه اللسان العربي من قبيلة جرهم التي نشأ وتربى وترعرع فيها، لذلك فَهِم البعض أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كأنا من أصل أعجمي وأن نسله اكتسب عروبته من مصاهرتهم لقبيلة جرهم وعيشهم واختلاطهم معها على مدى قرون طويلة من التاريخ.
والعرب العاربة هم عرب اليمن وهم العرب الأقحاح الذين لم يختلطوا بغيرهم من الأقوام من غير الجنس العربي وهم الذين حافظوا على بقاء واستمرار الجنس العربي، وهناك من اعتبرهم عرب بائدة أيضاً.
ومن المفارقات العجيبة للمفسرين والمؤرخين المسلمين أنهم كانوا يميلون إلى ترجيح صحة أنساب التوراة مع جود الحديث الصحيح عن رسول الله صلَ الله عليه وعلى آله وسلم، كما في نسب قحطان كما سيأتي. ولم يقل لنا واحد ممن عد قحطان بأنه يقطن التوراة: لماذا قحطان من دون كل تلك الأمم التي بادت بقي حياً وذريته من بعده لليوم، وإن كان جاءهم رسول من الله تعالى آمنوا به ولم يكفروا مثل تلك الأمم التي كفرت وهلكت.
علماً أن البعض يبدأ قبل عرضه لأنساب العرب كابن خلدون مثلاً، بالقول: وسئل مالك رحمه الله تعالى عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك وقال من أين يعلم ذلك فقيل له فإلى إسماعيل فأنكر ذلك وكره أيضاً أن يرفع في أنساب الأنبياء مثل أن يقال: إبراهيم بن فلان بن فلان وقال من يخبره به. وكان بعضهم إذا تلا قوله تعالى: "وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ" قال: كذب النسابون. واحتجوا أيضاً بحديث ابن عباس أنه صلَ الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال "من ههنا كذب النسابون". واحتجوا أيضاً بما ثبت في أنه علم لا ينفع وجهالة لا تضر إلى غير ذلك من الاستدلالات. لكنه يبدأ بخرافات التوراة السابق ذكرها، فيقول: وهذه الأحاديث وإن صحت فإنما الأنساب فيها مجملة ولا بد من نقل ما ذكره المحققون في تفريغ أنساب الأمم من هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً (أي سام وحام ويافث أبناء نوح).
وكذلك نقل الطبري أنه كان لنوح ولد اسمه كنعان وهو الذي هلك في الطوفان. قال: وتسميه العرب يام. ولأن ذلك لا دليل عليه وفي الوقت نفسه يتعارض مع خرافة التوراة نفسها، لم أنقله عن المفسرين عند ذكرنا قصة نوح مع ابنه الهالك في سورة هود، ويبرر ذلك عند بدء حديثه عن "الطبقة الأولى من العرب وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإلمام بملكهم ودولهم على الجملة" (ص23): بأن هذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح وأعظمهم قدرة وأشدهم قوة وآثاراً في الأرض وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه. لأن أخبار القرون الماضية من قبلهم يمتنع اطلاعنا عليها لتطاول الأحقاب ودروسها إلا ما يقصه علينا الكتاب ويؤثر عن الأنبياء بوحي الله إليهم وما سوى ذلك من الأخبار الأزلية فمنقطع الإسناد ... وأخبار هذا الجيل من العرب وإن لم يقع لها ذكر في التوراة إلا أن بني إسرائيل من بين أهل الكتاب أقرب إليهم عصراً وأوعى لأخبارهم فلذلك يعتمد نقل المهاجرة منهم لأخبار هذا الجيل ... وسمي أهل هذا الجيل العرب العاربة إما بمعنى الرساخة في العروبية.. وقد تسمى البائدة أيضاً بمعنى الهالكة لأنه لم يبقَ على وجه الأرض أحد من نسلهم.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى