-
باحث في علم الاجتماع
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلْبَـاقِينَ} ذكراً إلى قيام الساعة 74
مصطفى إنشاصي
كما رأينا أن المفسرين سبق أن فسروا قوله تعالى في عدة آيات: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} بأن سكان الأرض جميعاً من ذرية نوح عليه السلام ومَن آمنوا برسالته وركبوا معه في السفينة، إلا أنهم عند قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلْبَـاقِينَ} (الصافات:77). أهلكوا جميع الذين ركبوا مع نوح في السفينة، وقال البعض: أن من نجا مع نوح في السفينة أصابهم مرض وماتوا ولم ينجبوا ذرية. وقال آخرين: لم يتناسلوا فانقرض نسلهم ولم يبقَ لهم ذرية. وأن كل سكان الأرض من ذرية أبناء نوح الذين ذكرتهم التوراة فقط! يعني تناقضوا!
كيف تفسر {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} بأن سكان الأرض منهم ومن ذرية نوح، ثم تميتهم وتبيدهم وتقول: أن سكان الأرض من ذرية أبناء نوح الثلاثة الذين زعمت الرواية التوراتية أنهم هم وزوجاتهم وزوجات نوح فقط الذين ركبوا في السفينة ونجوا من الغرق، متساوقاً مع الرواية التوراتية؟! ومستدلاً بالحديث الموضوع أو الضعيف الذي سبق أن ناقشناه في الحلقة الثالثة، أن أصل العرب سام ...!
إن كان الأمر كذلك لماذا لم يخبرنا الله تعالى بإيمان زوجات أخريات لنوح وأبناء آخرين عددهم ثلاثة، غير تلك الزوجة وابنها اللذين غرقا في الطوفان، وأنهم ركبوا معه السفينة هم وزوجاتهم؟!
مادام جميع من نجا مع نوح ممن ركبوا معه في السفينة انقرضوا ولم يبقَ لهم ذرية، لماذا كرر الله تعالى في آيات عدة: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}؟! لو كان الأمر كذلك لَما ذكر الله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}، أو كان أشار إلى أنهم لم يتركوا ذرية!
انقراض الذرية لم يقف على مَن حملنا مع نوح بل وصل إلى ذرية نوح نفسه! معلوم أن كل الأنبياء والرسل بعد الطوفان من ذرية نوح، وكان نبيي الله هود وصالح عليهما السلام قبل إبراهيم عليه السلام، ومما يؤسف له أن المفسرين والمؤرخين أبادوهم وذريتهما وذرية مَن آمن معهم كما أبادتهم التوراة، وعدوهم وأقوامهم ضمن العرب البائدة: كعاد وعبيل ابني عوص بن أرم بن (سام بن نوح). وثمود وجديس ابني عابر ابن أرم بن سام. وعمليق وطسم ابني لاود بن أرم ابن سام ابن نوح. ووبار بن أميم بن لاود بن أرم بن (سام بن نوح). وجرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. وعبس بن ضخم بن عبد بن هرم بن عابر بن أرم بن سام! ولم يبقوا من نسل أرفخشد بن سام إلا نسله من شالخ الذي منه إبراهيم عليه السلام، ليستفرد اليهود بالبركة التي اختزلها كتبة التوراة في سام وذريته من دون بقية أبناء نوح وذرياتهم!
كما أن العرب هم العرب منذ فجر التاريخ، فمَنْ يسمونهم العرب البائدة ليسوا بائدة، لأن قومي عاد وثمود وغيرهم لم يبادوا عن بكرة أبيهم بعد أن نزل بهم عذاب الله وعقابه، ولكن بقي نسلهم مستمراً فيمَنْ آمن مع رُسِلِهم ونجاهم الله، وإن كانوا هاجروا أو انتقلوا من ديارهم قبل أن ينتقم الله من أقوامهم الكفار ويبيدهم إلى مكان ما في حدود الجزيرة العربية، وقد اختلطوا بالأقوام العربية التي نزلوا بينها في أي مكان؛ لا يعني ذلك أنهم بادوا وانقرضوا ولكنهم تواصل نسلهم وتكاثر بالتزاوج مع تلك الأقوام العربية مثلهم.
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ!
والأرجح أن قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلْبَـاقِينَ} لا تعني بقاء النسل في ذرية نوح وانقراض نسل من نجا معه، لكن بقاء ذكرهم بأن جعل الله النبوة والرسالة في ذرية نوح عليه السلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 26). قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام لم يرسل بعده رسولاً ولا نبياً إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، لم ينزل من السماء كتاباً ولا أرسل رسولاً ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى بن مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما.
وقال الطبري يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا أيها الناس نوحاً إلى خلقنا، وإبراهيم خليله إليهم رسولاً وَجَعَلْنا فِي ذُرّيَّتِهِما النُبُوَّةَ وَالكِتابَ وكذلك كانت النبوّة في ذرّيتهما، وعليهم أنزلت الكتب: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وسائر الكتب المعروفة فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ يقول: فمن ذرّيتهما مهتدٍ إلى الحقّ مستبصر وكَثِيرٌ مِنْهُمْ يعني من ذرّيتهما فاسِقُونَ يعني ضُلاَّل، خارجون عن طاعة الله إلى معصيته.
وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران: 33 ـ 34). إن الله اختار آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران، وجعلهم أفضل أهل زمانهم، وجعل النبوة والرسالة في ذرتيهما.
قال القرطبي: اصطفى اختار، وفي البخارِيّ عن ابن عباس قال: آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِىُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۴ۗ وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 68) وقيل: آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وأن محمداً صلَ الله عليه وسلّم من آل إبراهيم. وقيل: آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران؛ قاله الأخفش. أي في حال كون بعضهم من بعض، أي ذرية بعضها من ولد بعض.
قال رَسُولَ اللّهِ صلَ الله عليه وسلم: "إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيم إسْمَاعْيِلَ، واصْطَفَىَ كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَاصْطَفَىَ قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ. وَاصْطَفَىَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ. وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ" صحيح مسلم وسنن الترمذي. وقال صلَ الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً.
وقال ابن كثير: وقال خاتم الرسل وسيد البشر صلَ الله عليه وسلّم: {قُلْ إِنَّ صَڈتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ. ڈ شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا˚ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ} أي من هذه الأمة ولهذا قال في الحديث الثابت عنه: "نحن معشر الأنبياء أولاد علات وديننا واحد» أي وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت شرائعنا وذلك معنى قوله أولاد علات وهم الإخوة من أمهات شتى والأب واحد.
وللعلم:
أن إسماعيل عليه السلام وذريته لم يكتسبوا عروبتهم من تزاوجهم واختلاطهم بقبيلة جرهم العربية اليمنية، لأن إسماعيل أخذ عروبته عن أبيه إبراهيم الذي كان عربياً من قبيلة الآراميين العربية!
وإذا حاولنا أن نجتهد لنعرف سبب تلك الخيرية والاصطفاء للرسول صلَ الله عليه وعلى آله وسلم نقول: أن الله تعالى كما أراد أن يعيد العلاقة الروحية بين مكة وفلسطين من خلال رحلة إبراهيم بابنه إسماعيل من فلسطين إلى الحجاز (مكة)، فإنه أراد أيضاً أن يعيد وحدة العرب الذين تفرقوا في أرض الوطن وتباعدت أنسابهم وأصهارهم عن بعضهم من خلال إسماعيل، فجمع إسماعيل عرب العراق من ناحية الأب بعرب فلسطين من ناحية الأم (هاجر)، بعرب الشام من ناحية المولد (بئر السبع)، بعرب الحجاز واليمن من ناحية المصاهرة منه لهم ومن ذريته من بعده بهم، وبذلك تكون اجتمعت فيه وفي ذريته جميع قبائل العرب على تباعدها، التي اصطفى الله تعالى منها جميعاً خير البشرية جمعاء محمد صلَ الله عليه وعلى آله وسلم.
نلك هي حقيقة الخرافة التوراتية التي جعل منها اليهود دين وعقيدة لدى النصارى يؤمنون بها، ويعملون على تحقيقها، واستعبدوا الغرب والنصارى عامة، والعالم أجمع بكذبة السامية، وأنهم وحدهم الساميون على الأرض، وعلى العالم أن يحقق فيهم وعد الرب (يهوه أو ياهو)، ويملكهم فلسطين ويهدموا الأقصى ويعيدوا بناء الهيكل المزعوم وينصبوا العرش ويجلس عليه مسيحهم الدجال وتكون لهم السيادة على العالم!
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى