الغرب والإسلامالدرس الرابع: قوة العقيدة الإسلامية وحضارتها (13)مصطفى إنشاصيلقد كشفت هزيمة الغرب الصليبي، واندحار جيوشه أمام المسلمين، أن مصدر قوة الأمة الإسلامية لا يكمن في عددها ولا عدتها، أو ثرواتها وموقعها الاستراتيجي، ولكن يكمن في قوة عقيدتها، التي هي مصدر وجودها ومكوناته. وفي قوة الحضارة الإسلامية وقدرتها على رد الهجمات الخارجية وامتصاصها، وإدخال أتباعها في الإسلام، كما حدث مع الصليبيين أنفسهم والمغول. قلنا أن الإسلام وحضارته هو أول قوة خارجية استطاعت أن تغزو أوربا فكرياً وحضارياً إلى جانب غزوها لها عسكرياً وقد وصل الأمر بالحضارة الإسلامية إلى تهديد أوروباً تهديداً كان ينذر لو قدر له الاستمرار بالقضاء على وجودها النصرانية وقد كان هذا أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت البابا لإعلان الحروب الصليبية على المسلمين, وبعد الحرب الصليبية ازداد أثر الحضارة الإسلامية على الأوروبيين من خلال احتكاكهم المباشر بالمسلمين أثناء تلك الحروب، ومع أن الغلبة كانت للصليبيين في البداية والقاعدة كما قال ابن خلدون: "أن يقلد المغلوب الغالب" إلا أنهم لم يستطيعوا التأثير في المسلمين المغلوبين آنذاك حضاريا وإنما هم تأثروا بالإسلام سواء على صعيد الفكر أو الأخلاق أو أساليب المعيشة وأنماط الحياة والسلوك ونقلوا ذلك معهم إلى أوروبا بعد رحيلهم، ذلك لأنه كان لازال لدى الإسلام القدرة على التأثير في الآخرين وإن كانوا هم المنتصرين بل وهزيمتهم معنوياً ونفسياً ذلك بفضل الروح القرآنية التي كانت لا تزال قادرة على العطاء والمواجهة والتأثير في الغير، كان سببا في ما حدث في أوروبا بعد هزيمة الصليبيين من تغيرات على كل الأصعدة مما أدى إلى عصر النهضة الأوروبية الحديثة.فقد تأثر الصليبيون بالإسلام قبل المغول، لأن المغول تأثروا أيضاً وأسلمت منهم القبيلة الذهبية التي أسست الدولة الغزنوية في شبه القارة الهندية، فقد بدأ تأثر الصليبيين بأخلاق الإسلام واضحاً، مما خفف من وحشيتهم وقسوة طباعهم. فقد ذكر أسامة بن منقذ في كتابه الاعتبار: إن الصليبيين الذين عاشوا في الشام وجاوروا المسلمين تهذيب أخلاقهم وأنسوا بعشرة المسلمين، أما من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنجية فهو أجفى أخلاقاً. وعن اعتناق بعض الصليبيين للإسلام كتب المؤرخ توماس أرنولد: "ففي الحروب الصليبية الأولى مثلاً، انشق عن الطائفة الرئيسية من الألمان واللومبارديين وحاصرهم السلطان أرسلان السلجوقي في إحدى القلاع فتركوا رفاقهم وانتقلوا إلى السلاجقة حيث اعتنقوا الإسلام".كما أن كثيراً من الصليبيين الضعفاء الذين عانوا وقاسوا من سوء معاملة إخوانهم الصليبيين الأوروبيين، عندما رأوا أخلاق المسلمين ورحمة الإسلام قد تأثروا بالأخلاق والطباع الإسلامية، وقد أدت المعاملة الحسنة المتسامحة من المسلمين لهم إلى تقليدهم للمسلمين في ملابسهم وعاداتهم، ومنهم من تعلم اللغة العربية وأجادها، وقلدوا المسلمين في كثير من جوانب حياتهم. وكان كلما ازداد اختلاط الصليبيين بالمسلمين كلما ازداد تأثرهم بالإسلام واعتناقهم له.وعن رحمة وتسامح المسلمين عند فتح بيت المقدس يقول المؤرخ ستيفن ربنسمان: "الواقع أن المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة والإنسانية فبينما كان الفرنج قبل ثمان وثمانين سنة يخوضون في دماء ضحاياهم، لم تتعرض الآن دار من الدور للنهب ولم يحل بأحد مكروه إذ صار رجال الشرطة بناء على أوامر صلاح الدين يطوفون بالشوارع والأبواب يمنعون كل اعتداء يقع على المسيحيين" ويضيف: "والواقع أن عطف صلاح الدين ورحمته كانا على نقيض أفعال الغزاة المسيحيين في الحملة الصليبية الأولى". ويذكر أرنولد أن عدد المسيحيين الذين تحولوا إلى الإسلام في مصر وحدها خمسة وعشرون ألفاً، ويعلق على ذلك: ("إن دخول أي مسيحي في الإسلام عن اقتناع صادق كان أمراً ممكناً".وقد كان تأثير الحضارة الإسلامية في الغزاة الصليبيين على جميع المستويات، وفي جميع المجالات، وفي حضارة أوروبا وتاريخها فكرياَ واقتصادياَ واجتماعياَ ودينياَ وسياسياً نتيجة الاحتكاك المباشر بالمسلمين تأثيراً كبيراً، وكانت اقتباساتهم من الحضارة الإسلامية هي الخطوة الأولى نحو عصر النهضة في أوروبا، يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون: "إن تأثير الشرق في حضارة الغرب كان عظيماً جداً نتيجة الحروب الصليبية، وكان هذا التأثير في الفنون والصناعات والتجارة واضحاً، وإذا ما نظرنا إلى تقدم العلاقات التجارية العظيم باطراد بين الغرب والشرق وإلى ما نشأ من احتكاك الصليبيين والشرقيين من النمو في الفنون والصناعة. تجلي لنا أن الشرقيين هم الذين أخرجوا الغرب من التوحش. وأعدوا النفوس إلى التقدم بفضل علومهم وآدابهم التي أخذت جامعات أوروبا تعول عليها فانبثق عصر النهضة منها ذات يوم". ويقول ول ديورانت: "وهكذا تثبت الحضارة الإسلامية أنها الأرقى، مقارنة بالحضارة المسيحية، وهذا الرقي شمل جميع الجوانب الإنسانية والحربية".وقد وصل حجم تأثر الغرب الصليبي بالحضارة الإسلامية، إلى أن يدهش جوستاف لوبون من قوة فعل الحضارة الإسلامية في الشعوب الأخرى غالبة ومغلوبة، ويعتبر ذلك دليل على عظمة الإسلام وقوته: "لا شئ يورث العجب أكثر من انتصار حضارة العرب الإسلامية على همجية جميع الغزاة، ومن تخرج هؤلاء الغزاة من فورهم على مدرسة العرب المغلوبة فقد دام عمل العرب الحضاري إلى بعد زوال سلطانهم السياسي بزمن طويل".هذا الاندهاش من قوة فعل الحضارة الإسلامية في الغزاة لم يُنسي جوستاف لوبون من أن يحذر وينذر الغرب الصليبي في هذا العصر من خطر قدرة الإسلام على إعادة توحيد شعوب الأمة، رغم ما بينها من اختلافات، فيقول: "رغم ما بين الشعوب الإسلامية من فروق عنصرية، فإنك ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن أن يشدها ويجمعها تحت راية واحدة في أحد الأيام".إنها الروح الصليبية التي تحكم عقلية الغربي مفكراً كان أو سياسياً أو قسيساً أو إنساناً عادياً، فهذا المؤرخ مثله مثل غيره من مؤرخي الغرب الذين يتحدثون عن دهشتهم من قوة فعل الحضارة الإسلامية، وعن حجم عطاءها المذهل للحضارة الإنسانية، وما لها من فضل على الغرب وحضارته اليوم في كل المجالات، ولكنه لا يستطيع التخلص من سيطرة الروح الصليبية عليهم. إنها الروح الصليبية التي تحكم عقلية الغربي المفكر كان سياسيا آو قسيسا أو إنسانا عاديا فهذا المؤرخ مثله مثل غيره من مؤرخي الغرب الذين يتحدثون عن قوة فعل الحضارة الإسلامية، وما أعطته للحضارة الإنسانية وما لها من فضل على الغرب وحضارته اليوم في كل المجالاتـ ويعترفون أنما كانت دائماً أرقى من غيرها، وأنها أثرت فيهم أفراداً وجماعات، وحولتهم إلا أنه تبقى تسيطر عليهم الروح الصليبية ويتحكم فيهم الحقد والكراهية تجاه الإسلام الذي تمتد جذوره إلى قرون طويلة لذلك سرعان ما يتداركوا أنفسهم ويعودوا إلى التحذير منه وكأنه آفة ضارة يخشون أن تصيبهم وشعوبهم.فالحقيقة أن موقف الغرب هذا الذي يؤثر فيه اليهود ويوجهونه لخصه الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد بقوله: "ومن العجب أن هذه الحضارة الأوروبية حين تمت لها الجولة على الكنيسة وارتدت إلى أصولها الوثنية وأحيت تراث اليونان والرومان الحديث أخذت تتعامل مع العالم الإسلامي بروح هي خليط من هذه المتناقضات فكانت ملحدة في كل شئ إلا مع المسلمين فهي صليبية تتحالف فيها الدولة العلمانية مع الكنيسة ويقوم فيها الرجل الواحد بدور المنصر، والعالم المستشرق والجاسوس المحترف في آن واحد أحياناً".هذه الروح الخليط من المتناقضات التي ساعدت الكنيسة في الحفاظ عليها وتأصيلها في نفوس الأوربيين لعب المؤرخين والمفكرين الغربيين دوراً كبيراً في تأصيلها وتشويه صورة الإسلام والمسلمين في نظر الرجل الغربي، كرد فعل لهزيمة الكنيسة وجيوشها في الحروب الصليبية. وما زال هناك أجيال من الكتاب والمفكرين الغربيين ينفخون في روح العداء والكراهية الغربية للإسلام والمسلمين ويؤججون الصراع بين الحضارات وخاصة الغربية والإسلام.