البحر في الشعر العربي
/ نورالدين السد
تيمة البحر أو موضوع البحر كثير الذكر في الشعر الإنساني ، كما أنه موظف في الشعر العربي من العهد الجاهلي أي قبل الإسلام ، إلى يوم الناس هذا، و قد عبر عنه الشعراء بصور فنية وجمالية متعددة ، فكان أنيسهم في أحوال شعورهم بالوحدة والاغتراب ، أو أحوال الشوق والحنين إلى الأحباب ، وكان موضع تأملهم في أسرار الخلق والوجود ، كما كان مستودع أسرارهم، وبثهم شكواهم من كيد الزمان ، وتقلبات صروف الدهر ، ومن أمثلة ما قرأنا عن البحر في الشعر العربي قيدناه، وما لم نقيده كثير ، ونأمل أن يتاح للنابهين من طلابنا الكتابة في موضوع البحر في الشعر الإنساني والعربي ، ويتناولونه وفق المنهج الموضوعاتي أو السيميائي أو الأسلوبي فهذه المناهج النقدية المكتملة المنظومات والآليات الإجرائية أقرب المناهج إلى دراسة هذا الموضوع ..
يقول إيليا أبو ماضي في البحر :
قد سألت البحر يوماً هل أنا يا بحر منك؟
هل صحيح ما رواه بعضهم عني وعنك؟
أم ترى ما زعموا زوار وبهتانا وإفكا؟
ضحكت أمواجه مني وقالت لست أدري!
أيّها البحر، أتدري كم مضت ألف عليك
وهل الشّاطىء يدري أنّه جاثٍ لديك
وهل الأنهار تدري أنّها منك إليك
ما الذي الأمواج قالت حين ثارت؟
لستُ أدري!
أنت يا بحر أسير آه ما أعظم أسرك
أنت مثلي أيّها الجبار لا تملك أمرك
أشبهت حالك حالي وحكى عذري عذرك
فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟
لستُ أدري
قال محمود درويش في البحر :
وسلاما أيها البحر المريض
أيها البحر الذي أبحر من
صور إلى إسبانيا
فوق السفن
أيها البحر الذي يسقط منا
كالمدن
ألف شباك على تابوتك
الكحلي مفتوحٌ
ولا أبصر فيها شاعرا
تسنده الفكرةُ
أو ترفعه المرأةُ
يا بحر البدايات إلى أين
تعود؟
أيها البحر المحاصر
بين إسبانيا وصور
ها هي الأرض تدور
فلماذا لا تعود الآن من حيث أتيت؟
ومما قال فاروق جويدة في موضوع البحر :
يَا بحرُ جئتكَ حَائرَ الوِجدانِ أشكو جَفاءَ الدَّهرِ للإنسانِ
يابحرُ خاصَمني الزَّمانُ وإنَّني ما عدتُ أعرفُ في الحَياةِ مَكاني
قال أبو الطيب المتنبي في البحر :
هُوَ البَحْرُ غُصْ فيهِ إذا كانَ ساكناً على الدُّرّ وَاحذَرْهُ إذا كان مُزْبِدَا
فإنّي رَأيتُ البحرَ يَعثُرُ بالفتى وَهذا الذي يأتي الفتى مُتَعَمِّدَا
قال لطفي زغلول في البحر :
لأنَّكِ بَحرٌ بِلا أيِّ شَطٍّ، بلا أيِّ حَدِّ نَزلتُ أُغالِبُ أَموَاجَهُ العَاتِيَاتِ،
بِجَزرِي ومَدِّي أُجَذِّفُ لَيلاً نَهارا....
فَأُنهِي مَسارَاً وأبدَأُ حَالَ انْتِهائِي مَسارَا
أَحُطُّ عَلى قَمرٍ خَلفَ هَذا المَدى يَتَوارى
وحِينَاً عَلى نَجْمةٍ أسْفَرَت وَجْهَهَا وتَعَرَّت جِهَارَا
وحِينَاً علَى جُزُرٍ بدَأَت مَوسِمَ الاصْطِيافِ وعِيدَ قِطَافِ الرُّؤى والقَوَافِي لأنَّكِ بَحرٌ هَجَرتُ البِحَارَا،
وأعلَنتُ: لا بَحرَ إلاَّكِ يُبْحِرُ فِيهِ شِرَاعِي،
ويَرتَادُهُ فِي المَدارِ مَدارَ
يقول ابراهيم ناجي « قلت للبحر إذ وقفت مساء»
قلتُ للبحر إذ وقفت مساءَ
كم أطلت الوقوف والإصغاءَ
وجعلت النسيم زاداً لروحي
وشربت الظلالَ والأضواءَ
لكأنَّ الأضواء مختلفات
جَعَلَت منكَ رَوضَةً غنّاءَ
مَرَّ بي عطرها فأسكَرَ نفسي
وَسرَى في جوانحي كيف شاءَ
نشوة لم تطل صحا القلب منها
مثلَ ما كان أو أشدّ عناءَ
إنما يفهم الشبيه شبيهاً
أيها البحر نحن لسنا سواءَ
أنت باقٍ ونحن حرب الليالي
مَزَّقتنا وصيرتنَا هباءَ
أنت عاتٍ ونحن كالزبد الذا
هبِ يعلو حيناً ويمضي جفاءَ
وعجيبٌ إليك يممتُ وَجهي
إذ مللتُ الحياةَ والأحياءَ
أبتغي عندك التأسّي وما تَم
لِك رَدَّاً ولا تجيب نداءَ
كل يومٍ تساؤلٌ ليت شعري
من ينبّي فيحسن الإِنباءَ
ما تقول الأمواج ما آلَم الشم
سَ فولّت حزينة صفراءَ
تركتنا وخلفت ليلَ شكٍّ
أبديٍّ والظلمةَ الخرساءَ
وكأنَّ القضاء يسخر مني
حين أبكى وما عرفتُ البكاءَ
ويح دَمعي وويح ذلة نفسي
لَم تدع لي أحداثه كبرياءَ
قال مانع سعيد العتيبة في البحر:
لماذا أسلم للبحر أمري وأمنح للريح أيام عمري
وهل للبحار سوى العاصفات تروح بلؤم وتغدو بغدر
وكيف أصادق في الصبح مداً وفي الليل أمنح ودي لجزر تعبت من البحر لكن قلبي يصرّ على البعد عن بؤس بري
تعالى حبيبي فما فات مات وما هو آت جميل كصبري
أمدّ إليك يدي باشتياقٍ ودمع حنيني من العين يجري
تناديك روحي ونزف جروحي وقرع فؤادي على باب صدري فلا تتجاهل ندائي حبيبي فإنك تعلم ما بي وتدري
قال محمد أبو العلا في البحر :
قَصَدتُ البَحْرَ كي أشكو وفي الأحشاءِ أحزاني
فَمَدَّ ردائَهُ الرَّملي ، قال : اجلِسْ وحيَّاني
وقال : اقصُصْ ..ولا تَخْجَلْ فقَدْ أَصْغَيْتُ آذاني
فقُلْتُ له : تَباعَدْنا وطولُ البُعْدِ آذاني
تَحَيَّرَ فى الهوى قلبي وبالآهاتِ واساني
فقَدْ كُنَّا .. وقَدْ كُنَّا وكانَ الحُبُّ عُنْواني
وكانَ الكونُ يَعْرِفُنا فَلَمْ يَكُ في الهوى ثانِ
إذا ما عَزَّ واحِدُنا تَنَادى باسمِهِ الثاني
بدَمْعٍ مِنْكَ مَوْرِدُهُ له كالبَحْرِ شُطْآن
ِ بآهٍ توقِظُ الذِّكري فيعلو صَوْت تَحْناني
لها بالقلبِ لوعتها وحُرْقتها بأجْفاني
إذا ما الدَّمْعُ ناشَدَها وذاكَ الشَّوْقُ ناداني
تَألَّمَ فى الدُّجى قلبي وأوْقَدَ فِىَّ نيراني
فقلتُ له انسَ يا قلبي وقَدْ ضاعَفْتُ أيْماني
على أنْ أنْسَ مَنْ يَنْسى وأَذْكُرُ كُنْهُ جافاني
مِنَ المعقولِ أنْ تَنْسى ؟! ألَيْسَ القلبُ يَهْواني ؟!
جريحٌ أنتَ يا قلبي وقلبُ حبيبكَ الجاني
ظَلَمْتُكَ حين رؤيتها وذاكَ الحُسْنُ أغْواني
فَكُف الحُزْنَ يا طَلَلِي فَكَمْ هَمٍ تَغَشَّاني
وكَمْ غَيْمٍ عَلا قَلْبي ومَخْطوطٌ بِجُدْراني
وحينَ الهَمُّ أنحَلَنى وذاكَ الوَجْدُ أعياني
قصدتُكَ أنتَ تَنْصَحُني فقَدْ فارقْتُ نُدماني
فقال البحرُ: يا ولدي حماكَ اللهُ وحماني
عجيبٌ أنتَ يا ولدي وأنتَ الهادمُ الباني
أنا فى العشقِ مدرسةٌ وجُرْحُ العِشْقِ أَدْمَاني
أنا أحببتُ قبلَ الحُبِّ مُذْ أن عِشْتُ أزماني
لَكَم جَرَّبتُ يا ولدي وكَمْ قَطَّعتُ شُرْياني
فَسَلْ حواءَ يا ولدي أهَلْ حواء ُ تَنساني؟
أنا مَنْ صِرْتُ أُغنيةً وصَوْتُ الحُبِّ ناداني
ومَنْ سافَرْتُ مُغْتَرِباً وضَوْءُ البَدْرِ يَرْعاني
عَشِقتُ البدرَ فى صِغَري وحبى البدرَ أعياني
فكان البدرُ أُغنيتي وضوء ُ البدر ِ أوطاني
إذا فى الفجر فارقني نسيمُ الصبحِ أبكاني
أُعانق صورةَ المحبوبِ كى تحويهِ شُطآني
فيعلو المَدُّ يحضُنُهُ ويأبَى الجَزْرُ نسياني
فكيف تكونُ يا ولدي إذا جَرَّبتَ نيراني؟!
فليت الله يرحمنا فنار العشقِ نارانِ
فنارٌ عندَ رؤيتها ونارٌ. عند فقدانِ
فكُن ما عِشْتَ ذا جَلَدٍ على محبوبكَ الجاني
فسوف يعودُ ثانيةً ويستجديكَ ويعاني
وبعدَ الفَجْرِ ودَّعني وبالمحبوبِ أوصاني
فعُدتُ لها كظمآنٍ وعادَتْ بينَ أحضاني
وفاضَ العِشْقُ في كَأسي كأنَّ البحرَ أظماني
وصارَ الحُبُّ أغنيتي وصار الحبُّ عنواني ..
ويقول حافظ إبراهيم في تشبية اللغة العربيةبالبحر :
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
ويقول عبدالمالك قرين:
سلي إن شئت صخر البحر عني
ورمل البحر... والموج العبابا
لكم ناجيت طيفك في الليالي
وعشت العمر أرتقب ارتقابا
وكم رقت لنجوى القلب طير
ومس القلبَ شوقٌ منك ذابا
وقال عبد المالك قرين أيضا تعليقا على صورتي والبحر
أناجي البحر في سري... وجهرِي
إذا ما ضاق بالأحداث... صدري
وتعصف بالخواطر... ذكريات
وشوق في عميق الروح.. يسري
وأرحل في صبايَ... وفي وجوه
تمثلها الخواطر وهْيَ... عمري
لمن أشكو ضياع العمر فيها
لسدٍّ.. أم.. لبحرٍ... لست أدري
وأردف عبدالمالك قرين قائلا في وصف صورة نورالدين السد على شاطيء البحر :
وقفتَ وقوف من عاف الدنايا
تزيد البحر سحرا فوق سحرِ
وتهجر من حياة الناس فوضى
وتصنع من خيالك ضوء فجرِ
وتسكن حولك الدنيا وتصغي
يغوص البحر في شعر ونثرِ
فكيف البحر قد نال الأماني
وحاز الفخر منك... وأي فخرِ ؟!
قال سعدي يوسف في البحر :
يا بحر من بستانك الصدفي
امنحني محارة
مرجانة شيئا من الأعماق
لوناً غير لؤلؤتي في المحارة
يا بحر أغرقني وأغرقني
أكن للشوق شارة
هبني ولو لمحا من الرؤيا
خذ كل ما أعطتني الدنيا
اجعله قبرا لي وأسدل
فوقه حبي ستارة
أمس ارتجيتك أن ترد إلى
تمردي اخضراره
أن تغسل الأسماء
تمنحها الحقيقة والنضارة
يا بحر جئنا مرة أخرى
فلا تكن الضنينا.
وقال أيضا:
يا صوتَ البحرِ الحاضر
يا صوتَ البحرِ الهادر
يا الـمُـصّـاعِـدَ من وديانِ الأعماقِ
إلى تيجانِ الآفاقِ
ويا صوتَ البحرِ الهادرَ
خَـلِّ القمصانَ تطيرُ مع الريحِ
القبضاتِ المضمومةَ والراياتِ تطيرُ مع الريحِ
يقول علي محمود طه في البحر:
قف من اللّيل مصفيا و العباب و تأمل في الزبدات الغضاب
صاعدات تلوك في شدقها الصّخر و ترمي به صدور الشّعاب
هابطات تئنّ في قبضة الرّيح و ترغي على الصّخور الصّلاب
ذلك البحر: هل تشاهد فيه غير ليل من وحشة و اكتئاب؟
ظلمات من فوقها ظلمات تترامى بالمائج الصّخاب
لا ترى تحتهّن غير وجود من عباب و عالم من ضباب
أيّها البحر كيف تنجو من اللّيــل؟ وأين المنجى بتلك الرّحاب
هو بحرّ أطمّ لجّا، و أطغى منك موجا في جيئة و ذهاب
أو ما تبصر الكواكب غرقى في دياجه كاسفات خوابي؟
وترى الأرض في نواحيه حيرى تسأل السّحب عن وميض شهاب
ويك يا بحر ما أنينك في اللّيــل أنين المرّوع الهيّاب
إمض حتّى ترى المدائن غرقى و ترى الكون زخرة من عباب
امض عبر السّماء واطغ على الأفـلاك واغمر في الجوّ مسرى العقاب
يقول الأخطل في البحر :
ما يضيرُ البحرَ أمْسى زاخِراً أنْ رمى فيهِ غلامٌ بحجرْ
يقول زكي مبارك في البحر :
شاعر البحر إلى البحر يعود بالهوى المشبوب والروح المريد
قال أديب كمال الدين في البحر:
الماءُ يعلو ثم يعلو
والموجُ مختال فخورْ
والبحرُ أخرجَ رأسه حتّى يرى ما قد جرى
لا تبتئسْ يا قلب هذي ساعة بَطُلتْ، أسنّتهُا البعادْ
لا تبتئسْ يا قلب واشعلْ في غياهبها البخورْ.
ويقول الشيخ محمد العيد آل خليفة في البحر :
وقفت على بحر الجزائر ليلة
وناجيته لو كان يسمعني البحر
وله قصيدة يقول في مطلعها :
أفديك يا بحر بحرا
ملأت قلبي سحرا
غمرتني بصنوف
من المفاتن كبرى
قال جبران خليل جبران في البحر :
والبحر ما أسناه في صفو وما أبهاه في الإرغاء والإزباد
صالت على الدنيا به فينيقيا قدما ونعم الفخر للأجداد
إذ لم يكن في الناس ملاح ولم يك فوق لج رائح أو غاد فتحت به للعلم فتحا باهرا ووقت به الأسواق كل كساد واستدنت البلد القصي فلم تدع لليأس معنى في مجال بعاد يا بحر يا مرآة فخر خالد أبقوه في الأبصار. والأخلاد
هل تعذر الحفداء فيما ضيعوا من مفخرات أولئك الأجداد
يقول طرفة بن العبد
:
كأن حدوج المالكية غدوة
خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
عدولية أو من سفين ابن يامن
يجور بها الملاح طورا ويهتدي
و يقول أيضا :
:
يشق عباب الماء حيزومها بها
كما قسم الترابَ المفايلُ باليد
ويقول شامة بن عمرو :
وإن أدبرت قلت مشحونة
أطاع لها الريح قلعا جفولا
ويقول الشاعر الجاهلي بشر بن أبي خازم الأسدى :
معبدة السقائف ذات دسر
مضبرة جوانبها رداح
إذا ركبت بصاحبها خليجا
تذكر ما لديه من جناح
يمر الموج تحت مشجرات
يلين الماء بالخشب الصحاح
ونحن على جوانبها قعود
نغض الطرف كالإبل القماح
فقد أوقرن من قسط ورندٍ
ومن مسكٍ أحمّ ومن سلاح
فطابت ريحهن وهن جون
جآجئهن في لجج ملاح
ويقول عمرو بن كلثوم:
ملأنا البر حتى ضاق فينا
وماء البحر نملأه سفينا
كما يقول الشاعر العربي القديم:
فلو تَفِلَتْ في البحر والبحر مالح
لعاد أجاج البحر من ريقها عذباً
قال امرؤ القيس في البحر
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتل
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الأصباح منك بأمثل