منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 4 من 4
  1. #1

    لمحات من مذكرات الحاج مالك الشاباز

    لمحات من مذكرات الحاج مالك الشاباز "1"

    هذه ليست سياحة في كتاب،مجرد لمحات من كتاب أحببت صاحبه !!
    عفوا. ليس صحيحا أنني أحببته لأنه لم يتخط في تعليمه المرحلة الثانوية ... مثل بعض الناس ... ولا لأنه قرأ "معجما" تثقف من خلاله .. كما فعل بعض الناس .. ولا لأنه رد على سؤال أحد الأوربيين عن اسم الجامعة التي تخرج منها فرد قائلا :
    من جامعة الكتب!! .. مثل بعض الناس .. أيضا!
    بل لأن الرجل يتميز بدرجة عالية من الصدق .. ولا تنقصه خفة الظل التي تبرز في بعض تعليقاته .. وهذا فرق بين بينه وبين بعض الناس.
    أما القضية الأهم فهي أثر العنصرية عليه ..
    والعنصرية داء فتاك .. قراءة هذا الكتاب فتحت عيني عليها أكثر .. والعنصرية تنهش المجتمع المسلم ... دون الحاجة إلى تمايز مثل تمايز السود والبيض في أمريكا .. فقد يكون التمييز ضد من يحمل نفس اللون والعرق.
    قراءة هذا الكتاب فتحت عيني على معاناة شرائح كثيرة .. هنا .. وهناك .. شرائح بأكملها .. وضعت تحت لافتة وُضع عليها "كذا" و"كذا" .. إلخ.
    بل ويُنتظر من تلك الشرائح أن تتقبل ذلك الوضع،بروح رياضية .. راضية .. وربما باسمة .. ولمعاناتها كاتمة!!
    يقول الحاج مالك :
    (جعلت الأمريكي الأبيض يعتقد في قرارة نفسه أنه"الأفضل"حتى أن هناك في جهات عدة رجال بيض لم يكملوا تعليمهم الثانوي،ينظرون بعجرفة إلى رجال سود تخرجوا في الجامعات وأصبحوا"زعماء"ومديري مدارس وأساتذة وأطباء وأصحاب مهن حرة){ ص 209}.
    ألا يبدو هذا الكلام مألوفا .. هنا .. وهناك؟!!
    عفوا. لم أُعرف – من لا يعرف – بالحاج مالك الشاباز .. إنه أيضا السيد،الذي قال عن نفسه :
    (ومنحت إلى جانب العضوية اسما جديدا وهو أومووال ومعناه في اللغة اليوروبية الابن العائد ){ ص 270}
    أيضا لم تتضح الشخصية؟!
    هذا لا يكفي . . وإلا لقلت – على طريقة الدراما – في الحلقة القادمة نعرف من هو السيد" أومووال "!!
    على كل حال،الحاج مالك – كما تعلمون! – هو مالكوم إكس ،أو ملكوم إكس،حسب ما جاء على غلاف سيرته الذاتية التي بين يديّ
    وقد سرد قصة حياته على اليكس هاليي,وسننقل طرفا من ذلك إن شاء الله.
    قبل أخذ لمحات من الكتاب،نتذكر قول أخينا علي عزت بيجوفيتش – رحم الله والديّ ورحمه –
    (يتهم البعض المسيحية بأنها"بيضاء زيادة عن الحد"،ولكن الاتهام ضد الإسلام مستحيل. لأن رسوله من أكثر الشعوب سوادا بين البيض،وأكثر الشعوب بياضا بين السود).
    اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد المختار وعلى آله الأبرار وصحابته الأخيار وأزواجه الأطهار،ما تعاقب الليل والنهار .. يا سادة يا كرام يبدأ الكتاب الذي بين أيدينا بفصل"الكابوس" ويبدأ بهذه الأسطر :
    ( قالت لي أمي ذات ليلة وهي حامل بي : جاءت إلى بيتنا في أوماها،نبراسكا،على ظهور الخيل،جماعة الكوكلوكس كلان بقلنسواتها وطوقت البيت،وهي تهدد ببنادقها وتأمر أبي بالخروج. وقالت إنها فتحت الباب ووقفت بحيث يروا بطنها ثم قالت لهم إنها وحدها في البيت مع أطفال صغار وإن أبي قد ذهب إلى ملوكي ليلقي وعظه. وقالت إنهم جذورها من مغبة ما ينتظرنا إن نحن لم نغادر البلدة لأن"البيض الطيبين"قد نفد صبرهم على الفتنة التي يزرعها أبي بترويجه أفكار ماركوس كارفي بين زنوج أوماها){ ص 9( ملكوم إكس / سيرة ذاتية ) / اليكس هاليي / ترجمة : ليلى أبو وزيد / بيروت / بيسان للنشر والتوزيع والإعلام / الطبعة الثانية 2000}
    ومن التهديد و"مالك"في بطن أمه إلى موقف آخر،وهي حامل أيضا!
    ( ومرة أخرى كانت أمي حاملا بأختي الصغرى إيفون التي ما إن ولدت حتى بدأ الكابوس. حدث ذلك في ليلة كالحة من ليالي 1929 ما زلت أذكرها. {مالك ولد في 19 /5/1925 – محمود} صحوت مفزوعا على صوت طلقات نارية وضجيج لأجد بيتنا يحترق وإخوتي يتدافعون ويختنقون . وسقط البيت مباشرة بعدما خرجت أمي وهي تحمل الطفلة فتطاير الشرر وبقينا في العراء في ملابسنا الداخلية نبكي ونصيح. وجاء رجال المطافئ و وقفوا ينظرون إلى أن احترق البيت ولم يبق منه شيء.
    وأعطانا بعض الأصدقاء ما نلبسه وآوونا مؤقتا،ثم رحل بنا أبي إلى بيت آخر في مشارف شرق لانسنغ. وكان ممنوعا حين ذاك على الزنوج منعا كليا دخول شرق لانسنغ بعد غروب الشمس،أي المكان الذي تقع عليه الآن جامعة ميشيغان الرسمية. لقد حكيت هذا كله لطلاب هذه الجامعة عندما زرتها في 1963 ورأيت أخي روبرت بعد فراق طويل ،والذي يتابع هناك دراسته العليا في علم النفس. قلت لهم إن شرق لانسنغ قد آذانا إلى الحد الذي اضطررنا معه إلى الابتعاد عن المدينة){ ص 11}.
    لاشك أن تلك المشاهد الوحشية لتدمير أسرة "مالك"وموقف "رجال المطافئ"تركا أثرهما جرحا لا يندمل .. وأججته بعد ذلك قراءة تاريخ البطش بالزنوج.
    ولمحة أخرى أو "حكمة"يقدمها الحاج مالك :
    (لقد تعلمت باكرا أن الحق لا يعطى لمن يسكت عنه وأن على المرء أن يحدث بعض الضجيج إن أراد أن يحصل على شيء. كان إخوتي الكبار يسكتون إذا رجعوا من المدرسة وطلبوا من أمي خبزا وزبدة أو أي شيء ولم تعطه لهم،أما أنا فكنت أصرخ وأجعل عاليها سافلها حتى تعطيني ما أريد. وأذكر أنها سألتني ذات يوم لمَ لا أكون مثل ويلفريد؟ ولكنني قلت في نفسي إن ويلفريد لكثرة ما يسكت يموت من الجوع معظم الوقت.){ ص 14}.
    ثم جاء وقت المدرسة ..( وعندما بلغت الخامسة من عمري،بدأت أنا الآخر أذهب إلى المدرسة مع كل من ويلفريد وهيلدا وفيلبرت. كانت المدرسة من الروض حتى السنة الثالثة الثانوي وكانت تبعد عن المدينة بثمانية أميال. ولم نجد صعوبة في الالتحاق بها لأننا كنا الزنوج الوحيدين في المنطقة وكان الشمال يقبل الزنوج إذا كانوا قليلي العدد. ولم يصدر من الأطفال البيض ما يستحق الذكر اللهم إلا استبدال أسماءنا بـ"الزنجي"و"الأسود"و"الصدء"حتى حسبنا أنها أسماؤنا الحقيقية،على أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك بسوء نية){ ص 15}.
    لمحة أخرى . . عدم تشغيل "السود" :
    ( كنت قد أخذت ريجينالد تحت جناحي بعدما كان قد خرج من طور الطفولة،وأصبحت على ما يبدو أنظر إليه نظرة الأخ الأكبر لأخيه الأصغر. وبدأت أمي تشتري بالقرض كل ما نحتاجه. والقرض،كما كان يقول أبي هو"الخطوة الأولى نحو الدين،فالعودة إلى العبودية". ثم بدأت تعمل في بيوت الناس أو تخيط للبيض. وسهل عليها ذلك أن سوادها لم يكن باديا للعيان،إذ لم يكن البيض يقبلون تشغيل السود فكانت تبقى في بيت من البيوت حتى يكتشف أمرها وتُطرد فتعود وهي تحاول إخفاء دموعها عنا. لا أذكر من منا ذهب إليها في عملها ذات مرة لسبب طارئ،ففضحت وطردت ورجعت تبكي ولا تحاول إخفاء دموعها){ ص 14}.
    إلى الجوع .. والفقر :
    (وفي سنة 1934 بدأنا نعرف معنى الفقر الحقيقي. كانت أسوأ سنوات الأزمة الاقتصادية (..) كانت مخبزة بلانسينغ تبيع بخمسة وعشرين سنتا الكيس الكبير من الخبز (..) وعندما كنا لا نجد الخمسة والعشرين سنتا كنا نجوع حتى نشعر بالدوار. حينذاك كانت أمي تطبخ لنا الهندباء الفجة فنأكلها. وأذكر أن واحدا من ذوي العقول الصغيرة اكتشف ذلك وأذاعه وأن الأطفال بدأوا يستهزئون منا ويقولون إننا نأكل "الحشيش المقلي". كنا،عندما يحالفنا الحظ نأكل عصيدة القمح والذرة ثلاث مرات في اليوم أو العصيدة في الصباح وخبز الذرة في المساء (..) وكبرنا أنا وفيلبرت على العراك (..) كنا ننصب الكمين لفأر المسك في نهر صغير يقع خلف بيتنا،ونكمن للضفادع حتى تخرج فنضربها ونبيع سيقانها بخمسة وعشرين سنتا للبيض الذين يأكلون كل شيء على ما يبدو. ثم بلغ بنا الفقر حدا فقدنا معه كل شعور بالكرامة،فبدأنا نذهب إلى المخزن الذي يوزع فيه الطعام على الفقراء،وبدأت الأصابع تشير إلينا وأسماؤنا ينادى عليها بصوت عالٍ كلما جاء ذكر المعوزين في المدرسة. ولم يكن هناك من طعام في بيتنا إلا وعليه دمغة "ليس للبيع"التي توضع على الطعام الخيري لمنع المستفيدين من بيعه. ومن غريب الصدف أننا لم نحسبها إحدى الماركات التجارية. ){ ص 18 - 19}.
    نختم بهذه اللقطة وتلك العجوز الخيرة ( واسمها مسز أدكوك كانت هي الأخرى تكثر التردد على الكنيسة وفعل الخير،وقد قالت لي كلاما ما زلت أذكره. قالت :"يعجبني فيك يا ملكوم عدم الرياء. أنت لا تصلح لشيء ولكنك لا تحاول أن تخفي ذلك"){ ص 19}.

    أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني



  2. #2
    لمحات من مذكرات الحاج مالك الشباز "2"

    في هذه الحلقة نواصل،أخذ لمحات من الفصل الأول من المذكرات.
    يقول الحاج مالك :
    (ومع التسكع والتطفل تردت أخلاقي وأصبحت قليل الصبر وعدوانيا. كنت قد كبرت وبدأت أشعر أن معاملة البيض لي مطبوعة بما يعرفونه عن ظروف موت أبي. (..) ثم بدأت أمسَك وأنا أسرق،وبدأ موظفو المساعدة الاجتماعية يركزون عليّ كلما جاؤوا إلى البيت ويتكلمون على اعتقالي الأمر الذي أثار غضب أمي من جديد. وكانت تضربنب كلما سرقت ولا تعبأ بصراخي.){ص 19}.
    بعيدا عن الأعمال غير المشروعة .. ( بدأت أقوم بأعمال متنوعة،كقطف توت الأرض وحصلت في آخر أول يوم على دولار كامل. كنت أتضور جوعا فأخذت الدولار وتوجهت نحو المدينة لا ألوي على شيء عندما طلع عليّ ذلك النحس المدعو رتشارد دكسون وهو ولد أبيض أكبر مني،وسألني إن كنت أريد أن ألعب لعبة "وجه أو ظهر" { كنا نسميها "مملكة / حسابة" وفي الحرة الشرقية كنا نسميها"طرة / كتب" – محمود }. وصرف لي الدولار وبدأنا نلعب،وما إن مضت نصف ساعة حتى كانت النقود في جيبه،الورقة والصرف. وبدلا ن أن أذهب إلى المدينة وأشتري ما آكله،ذهبت إلى البيت،ثم اكتشفت أنه غش في اللعب عندما عرفت أن هناك طريقة تمسك بها قطعة النقود لجعلها تنزل على الوجه المراد. وكان ذلك أول درس لي في القمار،تعلمت منه أن أشك فيمن يربحون باستمرار،كما هو شأن الرجل الأبيض في أمريكا،رابح دائما لأنه يمسك الأوراق في يده ويوزع علينا من القاع.){ ص 20}.
    لم يشر "مالك"أو كاتب السيرة إلى أثر "الفمار"ربما ليظل الأمر إطار المرحلة التي يتم سرد وقائعها.
    وهذا درس آخر تعلمه الحاج،وهو يخرج مع بعض العجائز لصيد الأرانب :
    (كانوا يعرفون أن الأرنب عندما يهاجمه الكلب يدور في حلقة فكانوا يركزون على نقطة الانطلاق،حتى إذا عاد إليها ضربوه بالرصاص.وكانت معي بندقية أبي فخطرت لي فكرة. قلت في نفسي إنني لو اعترضت سبيل الأرنب لأصبته قبل أن يصل إليهم. ونجحت خطتي وبدأت أصيب ثلاثة أو أربعة أرانب قبل أن يصيبوا هم واحدا. كنت في الثانية عشرة من عمري،وكان كل ما في الأمر أنني أخذت خطتهم وطورتها. والغريب أن أحدا منهم لم يفطن إلى ذلك،وإنما حسبوا أني هداف ماهر وجعلوا يركزون على تحسين رمياتهم. وتعلمت من ذلك أنه إذا كان هناك من يقوم بعمل يشبه عملك ويتفوق عليك فهو لا محالة يفعل شيئا لا تفعله.){ ص 22}.
    كان "مالك"قبل هذا قد وضع في رعاية أسرة أخرى .. ثم (وضعت أمي بقرار قضائي في مستشفى للأمراض العقلية،والواقع على بعد يزيد على سبعين ميلا،فأصبحنا أطفال الدولة ،ووكل علينا قاضي يدعى ماك كليلان. وبذلك أصبح رجل أبيض يتصرف ،بمقتضى القانون،في أولاد رجل أسود في شكل جديد من أشكال الرق مهما تكن سلامة النوايا (..) لقد قضت علينا الإدارة،سلطت علينا المساعدات الاجتماعية والمحكمة وطبيب المحكمة فدمرونا،ولم نكن ضحيتهم الأولى أو الأخيرة. هل كانت أمي ستنتهي إلى هذه النهاية لولا نفاق المجتمع الأبيض الذي يسحق ضحاياه ثم يعاقبهم لأنهم لم يصمدوا؟ لذلك توقفت عن زيارتها وتحاشيت الكلام عليها لأنني كنت أشعر أن ذلك من شأنه أن يدفع بي إلى ارتكاب جريمة.
    وعندما انتقلت أمي إلى المستشفى في 1937 وزعت الولاية إخوتي على البيوت،فذهب فيبرت إلى بيت عجوز تسمى مسز هاكيت،وريجينالد ووسلي إلى بيت مسز وليامز (..) وإيفون إلى بيت ماك غاير (..) وظل ويلفريد وهيلدا في البيت){ ص 23}.
    بهذه المأساة انتهى الفصل الأول"الكابوس" فإلى الفصل الثاني"طالع السعد" .. وافتتح هذا الفصل بهذا الخبر السار :
    ( في 27 يونيو 1937 أحرز الملاكم الأسود جو لويس لقب بطل العالم في الوزن الثقيل فاحتفل زنوج أمريكا بالحدث عن بكرة أبيهم،وأصبح كل طفل زنجي يتطلع إلى اليوم الذي يصبح فيه بطلا في الملاكمة. وكان أخي فيلبرت ملاكما ناجحا في المدرسة وكنت أنا،نظرا لطول قامتي ونحافتي ألعب كرة السلة لعبا لا بأس به. وقد كانت الرياضة والغناء إلى حد ما،هما المجالان المفتوحان أمام الزنوج.){ ص 24}.
    وحاول "مالك"أن يكون ملاكما .. ( توهمت أني أملك موهبة فقصدت مقر اللجنة وزعمت أنني في السادسة عشرة من عمري ووضعوني في ترتيب الوزن الخفيف مع ولد أبيض مبتدئ مثلي يدعى بيل بترسون لن أنساه ما حييت.
    وحضر إخوتي وكل من أعرفهم في لانسينغ لمشاهدة أخ البطل. ودخلت الحلبة وقدموني للجمهور ثم جمعنا الحكم وقرأ علينا زبوره : النزاهة والاستقامة و...إلخ. ثم رجعنا إلى زوايانا ودق الجرس فتقدمنا. كنت خائفا وكان بيل أيضا خائفا كما اعترف لي فيما بعد. خاف مني إلى درجة أنه أوقعني خمسين مرة وقضى على سمعتي بين الزنوج،حتى لم أعد أجرؤ على الخروج في لانسنغ. الزنجي ولا سيما في ذلك الوقت لا يرفع رأسه وقد جلده رجل أبيض لا سيما وقد كانت الحلبة المكان الوحيد الذي يستطيع هو فيه جلد الرجل الأبيض دون أن يقطع رأسه.
    ولم يكن بإمكاني أن أبقى مختفيا إلى الأبد،فخرجت وتعرضت لإهانات الزنوج القاسية،ولكنها لم تؤثر فيّ قدر ما أثر فيّ تحاشي أخي الصغير ريجينالد النظر إليّ فقررت أن أفعل شيئا. رجعت إلى الملعب وأهلكت نفسي في التمرين. لكمت الأكياس وقفزت بالحبل وتنفست بعمق وعرقت ثم طلبت أن أنازل بيل بترسون مرة أخرى. جرت المباراة في بلدته لحسن الحظ هذه المرة،فلم يحضرها أحد ممن أعرفهم،ودخلنا الحلبة ودق الجرس فرأيت قبضة يد ورأيت السقف يهوي وسمعت الحكم يقول : "عشرة"فوق رأسي وانتهت المباراة. لقد سمعت العد من أوله،إن أردتم الحقيقة،ولكنني لم أجرؤ على النهوض. كان بيل ذاك بداية الحلبة في حياتي ونهايتها. ولقد فكرت في ذلك بعدما أسلمت ووجدت أن الله سبحانه وتعالى كان قد اختار لي طريقا آخر غير الملاكمة.
    في ذلك العام عن لي ذات يوم أن أتحدى الأستاذ فدخلت الصف بالقبعة وأمرني أن ألف الصف بها حتى يسمح لي بالتوقف،ثم أضاف : "وبذلك سيراك الجميع،في حين سيتعلم من جاؤوا من أجل التعليم". وقام إلى السبورة ليكتب عليها وأنا ما أزال أدور فأخذت من الجدار وأنا أمر من خلف مقعده مسمارا من ذلك النوع الذي يضغط بالإبهام ووضعته على مقعده بحيث أصبح رأسه الحاد إلى أعلى،وواصلت طوافي وكأن شيئا لم يكن. وجلس على المقعد وصرخ وفتحت أنا الباب وهربت. وكانت النتيجة أنني فصلت من المدرسة بسبب سوء سلوكي.
    كنت أحسب أن الفصل يقتصر على البقاء في بيت كوهانا والتجول في البلدة والحصول على مصروف جيب عن طريق القيام ببعض الأعمال،ولكن موظفا لم يسبق لي أن رأيته جاء من مقر الولاية لدهشتي وأخذني إلى المحكمة حيث أبلغت بقرار إلحاقي بسجن الأحداث الواقع على بعد اثني عشر ميلا،وهو حسب ما قيل لي مكان يذهب إليه الأطفال "السيئون"قبل المدرسة الإصلاحية.
    ورجعنا إلى البيت أنا والموظف،وجمعت ملابسي القليلة في صندوق من ورق وذهبت معه في سيارته في رباطة جأش،والزوجان ومسز أدكوك ويبغ بوي يبكون.
    كان اسمه ماينارد آلن وكان أطيب موظف رأيته في حياتي. طيب خاطرهم وقال لي ونحن في الطريق : إن درجاتي تدل على أن بإمكاني أن أكون ناجحا إن أنا حسنت سلوكي وأن السجن التربوي ليس له أي معنى سبلي،وشرح لي كلمة"إصلاح"فقال إنها تعني التغيير إلى الأفضل،(..) وبشرني بطيبوبية مديرة السجن مسز سويرلينغ وزوجها.
    وكانت مسز سويرلينغ سمينة قوية ومنشرحة وكان زوجها نحيفا،أسود الشعر والشارب،أحمر الوجه وديعا ومهذبا حتى معي.(..) كان يزروهما العديد من البيض ولا سيما السياسيون والقاضي الذي وكل علينا،فكانوا يخوضون في أحاديث من هذا النوع. وكان القاضي يسال عني وكانوا يحضرونني إليه فيتطلع فيّ ويهز رأسه وكأنني مهر فريد أو سلوقي من سلالة أصيلة،فأدرك أنهم كلموه على حسن سلوكي وإخلاصي في العمل.
    إن ما أريد قوله هنا إنه لم يكن ليخطر لهم على بال أنني إنسان له شعور وتفكير وإدراك،وهي الصفات التي كانوا سيعترفون بها تلقائيا لأي طفل أبيض في مثل ظروفي. وهكذا البيض على مر التاريخ،قد نكون معهم،ولكنني لا ولن نصبح منهم. قد يفتحون الباب في الظاهر ولكنه يظل في الواقع مغلقا بإحكام. لقد كان وجودي في ذلك البيت وعدمه سيان. هذه هي الحقيقة التنازل الأبيض وحقيقة ما يدعى بـ"التحرريين"و"البيض الطيبين"التي أحاول أن أوضحها لأنصار الاندماج من الزنوج. إن حسن المعاملة لا يعني لي شيئا ما دام الرجل الأبيض لن ينظر إليّ أبدا كما ينظر إلى نفسه. قد يشاركني الحلو ولكنه لن يشاركني المر،وعندما تتوغل في أعماق نفسه تجد أنه ما زال مقتنعا بأنه أفضل مني.){ ص 25 - 27}.
    بهذه الزفرة ... حول عدم المساواة ننهى هذا الحلقة من "اللمحات"ولكننا نشير إلى أن"الإسلام" - دين الله – هو وحده من يستطيع أن يقدم للبشر "المساواة" .. وذلك عبر محورين :
    جوهر الروح الإنسانية .. وهذه فرصة لنعطر هذه الأسطر بقبس من نور،ـوسلوك المصطفى صلى الله عليه وسلم .. جاء في البخاري:
    (كان سهل بن حُنيف،وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما،فقيل لهما إنها من أهل الأرض أي من أهل الذمة،فقالا : إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام،فقيل له : إنها جنازة يهودي،فقال : أليست نفسا؟).
    أما المحور الثاني فهو "مقياس" أو"معيار" خارج عن اللون والجنس .. ( لا فضل لعربي على عجمي .. إلا بالتقوى) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
    وعلى مستوى الفكر المجرد .. يقول "بيجوفيتش" :
    (فإذا لم يكن الله موجودا،فإن الناس بجلاء وبلا أمل غير متساوين.
    يزعم"نيتشه" أن الأديان قد ابتدعها الضعفاء ليخدعوا بها الأقوياء. أما ماركس فيقول بالعكس. فإذا سلمنا بأن الأديان مفتعلة،سيبدو تفسير"نيتشه"أكثر إقناعا،لأنه تأسيسا على الدين فقط،يستطيع الضعفاء المطالبة بالمساواة . أما العلم وكل ما عدا الدين،فقد أكد عدم المساواة بين الناس.
    لماذا نصادف كثرة المعوقين حول المساجد والكنائس والمعابد التي نذهب إليها؟ لأن بيوت الله وحدها تفتح أبوابها لأولئك الذين ليس لديهم ما يعرضونه أو يبرهنون عليه،أولئك الفقراء في المال والصحة،أ,ألئك الذين استبعدوا من موائد الاحتفالات في هذا العالم،حيث يدعى الشخص لاسمه أو حسبه ونسبه أو موهبته أو عمله. إن المريض وغير المتعلم يُغلق أمامه باب المصنع أيضا بينما يدخل المتعلم صحيح البدن. أما في بيت الله فإن الفقير والأعمى يمكن أن يقفا جنبا إلى جنب مع ملك أو نبيل وقد يكونا عند الله أفضل منهما. إن أهم معنى حضاري وإنساني لأماكن العبادة يكمن في هذا البرهان المتكرر للمساواة){ ص 101 ( الإسلام بين الشرق والغرب ) / علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : محمد يوسف عدس / القاهرة / دار الشروق / الطبعة الخامسة 2014}.

    إلى اللقاء في الحلقة القادمة.

    أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني

  3. #3


    لمحات من مذكرات الحاج مالك الشباز "3"

    نبدأ هذه الحلقة بـ"كدمة"أخرى من الكدمات التي أصابت "مالكا" جراء تعامله مع البيض .. كما يكشف عن جزء من شخصيته المحبة للجدال .. وربما استعداده الفطري لأن يكون محاميا!!
    يقول الحاج مالك،وهو يتحدث عن فترة وجوده في "الإصلاحية" :
    (كنت أحب التاريخ واللغة الإنجليزية . وأذكر أن أستاذ اللغة الإنجليزية المستر ستراوسكي كان لا ينفك يقدم لنا النصائح عن كيفية النجاح في الحياة،وأن أستاذ التاريخ المستر وليامز كان يضايقني بنكتة عن"الزنوج". وأذكر أنني اتخذت منه موقفا منذ أول أسبوع. كنت قد دخلت الصف متأخرا فأخذ يغني للتلاميذ على سيل النكتة : "هناك أسفل الوادي،في حقول القطن يقول بعضهم أن الزنجي لن يسرق".نكتة!
    وبقدر ما أحببت التاريخ كرهت أستاذه منذ ذلك اليوم. ثم وصلنا إلى حصة الزنوج وكانت فقرة واحدة لا غير مر الأستاذ عليها مرور الكرام ثم ختم بتعليق من عنديته وهو يقهقه،مفاده أن للزنوج أقداما ضخمة بحيث أنهم يتركون فجوات في الأرض إذا مشوا عليها. وكنت للأسف أكره الرياضيات،وقد تساءلت فيما بعد عن سبب ذلك ووجدت أن الرياضيات تغلق باب المناقشة. الغلط فيه غلط وانتهى.
    كنت عضوا في فرقة كرة السلة التي كانت تشارك في مباريات تجري بالمدن القريبة (..) وكان الجمهور ينهال عليّ كلما دخلت الملعب بنداءات : يا"زنجي"يا"سارق البطيخ الأحمر"،يا"صدء"!.
    وما كان ذلك يضايق الفرقة أو المدرب أو يضايقني إلا قليلا وفقا لعقلية الزنجي الذي ما زال إلى اليوم يكتم آلامه ليثبت للرجل الأبيض مدى ما حققه من تقدم ثم إن هذه الأوصاف لم تعد تؤثر فيه لكثرة ما سمعها.){ ص 28}.
    أعتقد أن "مالكا"يشير إلى نقطة مهمة تعاني منها الفئات المستنقصة .. وهي اضطرارها لتقبل السخرية منها .. بروح رياضية .. وقد يصل الأمر إلى التبسم أو السخرية من النفس،وهو سلوك يسعى لتغطية ألمٍ .. لا أمل في شفائه.
    نكمل حديث الحاج :
    (وبقيت على الرغم من ذلك أتنافس على المرتبة الأولى في الصف مع بنت اسمها أودر يسلو وولد اسمه جيمي كوتن. ثم وقع شيء غير مجرى حياتي. كنا في بداية السنة الثالثة ثانوي وكنت في الصف مع المستر ستراوسكي،أستاذ اللغة الإنجليزية الذي كان رجلا طويلا،محمر البياض،ذا شارب كثيف،والذي كنت قد حصلت منه على بعض أجود درجاتي،واستشعرت أنه يحبني ،والذي كان كما سبق القول يغالي في إسداء النصح إلينا حول ما يجب علينا أن نقرأه أو نفعله أو نعتقده،والذي كنا نسخر منه فيما بيننا ونقول : "لو كانت نصائحه تنفع لنفع بها نفسه ولما قضى دهره مدرسا في مايسون".
    المهم أنه قم لي نصيحته ذلك اليوم،التي لم يقصد بها إحراجي أو إهانتي،والتي إنما نبعت من موقفه كرجل أبيض في أمريكا. كنت من أجود تلاميذه،بل كنت من أجود تلاميذ المدرسة كلها،ولكنه تنبأ لي بذلك المستقبل الذي يتنبأ به معظم البيض للسود مبتدئين بـ"لو كنت مكانك لـ...". قال لي : "هل فكرت في مستقبلك؟"ولم أكن قد فكرت فيه ولكنني قلت له،لا أدري لماذا : "نعم يا أستاذ وأريد أن أكون محاميا". لم يكن في لانسنغ أي محامي أو طبيب زنجي فكيف خطرت المحاماة ببالي؟.
    كنت أعرف ذلك جيدا،ولكنني كنت أعرف أبضا أن المحامي لا يغسل الصحون. وظهرت الدهشة على وجه الأستاذ واعتدل في جلسته وقال وهو يشبك يديه خلف رأسه ويهم بابتسامة : "إن علينا أن نكون واقعيين في الحياة. لا تسيء فهمي فنحن كما تعلم نحبك،ولكنك تحلم بالمستحيل. يجب أن تفهم أنك زنجي وأن المحاماة مهنة غير واقعية بالنسبة لك. أنت ممتاز قي دروس النجارة والجميع يعرف ذلك،فلمَ لا تفكر في أن تصبح نجارا. إن لك شخصية محبوبة ولن تجد صعوبة في التعامل مع الزبناء". لم أنس كلامه هذا أبدا،وظل كلما ذكرته يحز في نفسي،لا سيما وأنه شجع كل التلاميذ البيض على ما أرادوه. (..) ولم يخيب لأحد رجاء. ومع أنني كنت متفوقا عليهم،لم أكن مؤهلا في نظرهم لأن أكون ما أريد.
    وأصبح درس هذا الأستاذ ثقيلا على نفسي وأصبح لقب"زنجي"يوقفني،ولم أعد أرد عليه أو على من يسألني ما بي. واحتاروا في أمري وناقشوه فيما بينهم،ثم ما لبثت أن أصبحت تلك هي حالي في المطعم وفي بيت آل سويرلينغ.
    وذات يوم استدعتني مسز سويرلينغ،وذهبت إلى غرفة الجلوس فوجدت الموظف الحكومي المستر ماينارد آلن معها،ومنظرهما يوحي بالخطورة،وقالت إن أحدا لا يعرف لماذا أنا حزين على الرغم من تفوقي في الدراسة وحسن سلوكي وما يكنه لي الجميع من مودة وأنه قد تقرر تبعا لذلك أن أنتقل إلى بيت لاينزل حتى تنتهي السنة الدراسية ثم وقفت ومدت لي يدها قائلة : "لقد سألتك مائة مرة يا ملكوم وسأسألك مرة أخرى،ما بك؟ ألا تريد أن تقول لي؟"فشددت على يدها وقلت لها : "لا شيء يا مسز سويرلينغ". وذهبت إلى غرفتي وجمعت أشيائي وعندما نزلت وجدتها تجفف دمعها فشكرتها ومضيت على أسوأ حال.
    وبقيت أزور إخوتي أيام السبت وأكتب لإيلا تقريبا يوما بيوم إلى أن قلت لها ذات يوم إنني أريد أن أنتقل إلى بوسطن،فقامت بكل الإجراءات الضرورية لنقل كفالتي من ولاية ميشيغن إلى ولاية مساشوسيت.
    وما إن انتهت السنة الدراسية حتى ركبت حافلة غرايهاوند مرة أخرى في طريقي إلى بوسطن. طريق أخذني في مجرى جدد لم يكن لي على بال. ولو بقيت في ميشيغن لتزوجت إحدى الزنجيتين اللتين كنت معجبا بهما ولكنت الآن ماسح أحذية في بناية المجلس البلدي أو نادلا في نادي لانسينغ القروي أو خادما بأحد البيوت أو نجارا على أفضل تقدير. ولو كان المستر ستراوسكي قد شجعني على المحاماة لكنت الآن برجوازيا أسود يرتشف الكوكتيلات ويلتقط الفتيات ويستجدي الاندماج ويزعم أنه يدافع عن حقوق الجماهير السوداء. لله الحمد على أن هيأ لي الذهاب إلى بوسطن ولولا ذلك لكنت ما أزال مسيحيا راضيا بحالي في خنوع){ ص 33 - 34}.

    بهذه الأسطر انتهى الفصل الثاني من هذا الكتاب .. فإلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.


    أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني



    حاشية ..

    قال مقيده غفر الله له لوالديه .. بقي فراغ في هذه الصفحة .. وقد وقفتُ على ما أورده صاحب"تحفة العرس"قال :
    (قال يونس : صحبت الحسن البصري ثلاثين سنة ما سمعته خاض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا،إنما كان ذكره الموت حتى أتت امرأة يوما ناهيك من امرأة شباب وجمالا (إلخ – محمود ) فجلست بين يديه وقالت :
    يا شيخ أيحل للرجل أن يتزوج على امرأته وهي شابة جميلة ولود. قال : "نعم أحل الله أربعا"،قال : فكشفت عن وجه لم يُر مثله حسنا،وقالت : أوَ على مثلي؟ قال : نعم،قالت : سبحان الله بعينيك يا أبا سعيد،لا تُفت الرجال بهذا،ثم قامت منصرفة فأتبعها الحسن بصره ثم قال :
    "ما ضر امرءا كانت هذه عنده ما فاته من ديناه"){ ص 23 ( تحفة العروس ونزهة النفوس ) / محمد بن أحمد التيجاني / تحقيق : أبو هاجر / بيروت / دار الجيل / 1409هـ =1989}.

  4. #4


    لمحات من مذكرات الحاج مالك الشباز "4"

    نبدأ هذه الحلقة من الفصل الثالث "ابن البلد" ،وحديث الحاج مالك عن "الطبقية بين السود" .. (كان كل من يملك بيتا وسكن المرتفع يعتبر نفسه أفضل،حتى وإن دفعته الحاجة إلى تأجير بعض غرفه. وكان الذين ولدوا هناك ينظرون باستعلاء إلى الجنوبيين النازحين الكادحين من أمثال إيلا،في حين كان الزنوج الأمريكيون بمن فيهم الشماليون والجنوبيون يحتقرون زنوج الهند الغربية ويسمونهم "اليهود السود"الذين كانوا على غرار الجنوبيين يملكون أكثر من بيت،في حين لم يكن الشماليون يملكون في العادة إلا بيتا واحدا. وكان أصحاب المهن كالمعلمين والواعظين والممرضات يعتبرون أنفسه"خاصة الخواص"بينما كان سعادة البريد والبوابون والنادلون يتهادون في مشيتهم وكأنهم سفراء في اللباس الداكن المذيل. وكانت الأغلبية الساحقة من زنوج المرتفع تقوم بأعمال حقيرة تطلق عليها أسماء طنانة مثل قولهم إنه يعمل في "البنك"أو في"الأمن"وكأن الأمر يتعلق بروكفلر زمانه وليس ببواب عجوز مغلوب على أمره. وكانت عبارة الشائعة لتجميل عمل الخادمات والطبخات هي"أعمل مع أسرة عريقة"،وبالنسبة للسعادة المسنين الذين ينزلون المرتفع في بدلات داكنة وياقات بيضاء : "أعمل في القطاع المالي"أو في قطاع"العدل". وأنا إلى الآن لا أفهم كيف يستطيع الإنسان أن يتمادى في خداع نفسه إلى هذا الحد.){ ص 36}.
    ويعطينا "مالك"لقطة تخص الفترة التي كان يعمل فيها ماسحا للأحذية .. "ودين"له في ذمة "نجم"ّ
    (وما يزال جوتي هودجر،عازف السكسفون في فرقة ديوك إليغتون،الذي كان شورتي شديد الإعجاب به،ما يزال إلى يومنا هذا مدينا لي بثمن تلميعة. كان مندمجا في نقاش مع ضارب الطبل في الفرقة سوني غريبار وأنا أمسح حذاءه. وانتهيت وضربت على نعله فنزل وأدخل يده في جيبه ثم أخرجها فارغة ولوح بها وهو يواصل نقاشه ثم انصرف بكل بساطة ولم يدفع لي. ولم أكن من الوقاحة حتى أطالب بخمسة عشر سنتا رجلا يفعل الأعاجيب بأغنية"داي دريم"){ ص 42 - 43}.
    آخر لمحة من هذا الفصل تتعلق بعملية تليين الشعر،أو تنعيمه ..أو تسريحة"الكونك" تشبها بالبيض :
    (وذهبت إلى غرفة شورتي المهترئة التي يسكنها مع ابن عمه (..) وقشر الباطاطتين وقطعهما قطعا صغيرة ووضعها في زجاجة وبدأ يحرك بمغرفة وهو يصب نصف كمية ماء الرماد ببطء (..) وتحول الخليط إلى معجون يشبه النشا فكسر البيضتين وبدأ يحرك بسرعة شديدة وهو ينحني حتى تحاذي تسريحته الكونك الزجاجة. وأصبح الخليط أصفر حائلا فقال:"إلمس"ووضعت يدي على الزجاجة ورفعتها بسرعة فقال :"أنت الآن تعرف أنها حارة"إنه ماء الرماد.سيحرقك الخليط عندما أسرح به شعرك. سيحرقك بشدة. عليك الصبر إذا أردت أن يصبح شعرك كالحرير"ثم أجلسني وشد المئزر حولي وبدأ يسرح رأسي. وبعد ذلك اغترف غرفة من علبة الفازلين ودلك بها شعري وجلدة رأسي ورقبتي وجبيني. وغسل يديه ولبس القفاز ومئزره ونبهني قائلا :"دلني على أي مكان تشعر فيه بلسع عندما أبدأ في غسل رأسك . إن الخليط إذا بقي منه شيء يسبب التهابا".
    وجدت الخليط دافئا في البداية ثم اشتعلت النار في رأسي عندما بدأ المشط يسحل جلدته فضغطت على أسناني وشددت بيديّ على حرف المائدة كأنني أريد أن أقسمها. وبدأت عيناي تدمعان وأنفي يسيل ولم أعد أطيق فاندفعت إلى الحوض وأنا أسبه وألعنه. فعل ذلك مرات عدة،ربما عشر أو اثني عشرة مرة وهو يخفض حرارة الماء في كل مرة،إلى بدأ ينزل بردا وسلاما على راسي ثم قال :"هل تشعر بأي لسع في أي مكان؟ فقلت له:"لا"وركبتاي تصطكان قال :"اجلس إذن واسترح.أظن أن العملية قد نجحت".(..) وعاد الألم عندما بدأ يجفف رأسي بمنشفة غليظة ويفرك بشدة وأنا أقول : "باللين يل رجل! باللين! فقال: "المرة الأولى صعبة دائما. ستتعود. لقد صبرت يا ابن بلدي ونلت تسريحة كونك جيدة". وسمح لي بالوقوف والنظر في المرآة فوجدت شعري المبتل متهدلا.(..) مهزلة! بلغ بي الغباء درجة الوقوف موقف المعجب بشعري وقد أصبح مثل شعر رجل أبيض والصبر على كل ذلك العذاب وإحراق لحمي وطبخ شعري الذي خلقني الله به. ذلك اليوم كنت قد خطوت خطوة نحو الانحطاط وانضممت إلى مئات الزنوج الأمريكيين الذين أصبحوا نتيجة تعرضهم لعملية غسل الدماغ،مؤمنين بأنهم فعلا أقل شأنا فشرعوا يغيرون خلق الله ليصبحوا جميلين بمقاييس البيض.
    إن هذه التسريحة التي يحملها الرجل الأسود على رأسه في كل مكان في أمريكا من المدن الصغيرة حتى المدن الكبرى ومن المطاعم الشعبية حتى فنادق وولدروف آسطوريا،وتلك الباروكات الشقراء الملونة بين الأخضر والوردي والبنفسجي والأحمر والفضي على رؤوس نسائنا السوداوات،لتبعث على الشك في أن يكون الزنجي ما زال يعرف أنه زنجي. ويؤلمني أن بعض الفنانين قد ساروا في هذا المساوئ ولذلك فأنا لا أملك إلا أن أعجب بالذين احتفظوا منهم بشعرهم كما هو ووصلوا إلى القمة من أمثال ليونيل هامبتون وسيدني بوتيي ولكل زنجي لم يلين قط شعره.(..) كما لا أعرف كيف ترضى امرأة سوداء معتزة بأصلها أن تُرى في الشارع إلى جانب رجل يحمل فوق رأسه شعار خجله من سواده. إنني أوجه هذا الكلام إلى نفسي قبل كل شيء،إذ لا يمكن أن يكون هناك زنجي واظب على تليين شعره مثلي. وللذين ما زالوا يفعلون ذلك أقول : لو كان السود،رجالا ونساء ينفقون من الوقت على تنمية عقولهم ما ينفقونه على تليين شعورهم،لأصبحت أحوالهم أفضل آلاف المرات مما هي عليه){ ص 45 - 47}.
    الآن نصل إلى الفصل الرابع"لوار" وسنجد – على امتداد الكتاب آراء سلبية جدا في المرأة،للحاج مالك .. وليست أتعجب من ذلك،فهو ينقل خبرته عن فترة كان يعمل فيها"قوادا"- أجلكم الله – فمن الطبيعي أن تنشأ لديه تلك الآراء السلبية.
    يصف "مالك"تعامل "عجوز"معه طرق عليها الباب من أجل حفيدتها .. (أفرجت الباب قليلا وتركتني بالكاد أدلف دون أن تقول حتى ""ادخل أيها الكلب". لقد واجهت في حياتي بعد ذلك رجال بوليس ومجرمين خطرين ولم يكونوا في جفاء تلك العجوز.
    كانت غرفة الاستقبال عاجة بصور المسح (..) وحيث أنها لم تكلمني فإنني لم أكلمها ولكنني الآن أفهمها. كيف كنت أريدها أن تستقبلني وأنا بتلك التسريحة وذلك الحذاء البرتقالي؟ الحقيقة أنها تحملتني كثيرا عندما لم تطلب البوليس ولو أن أحدا على ذلك الشكل طرق عليّ بابي اليوم وطلب رؤية إحدى بناتي لما تمالكت نفسي ولهجمت عليه.){ص 54}.
    ولمحة أخرى،حول المرأة أيضا :
    (ولم أعرف أبدا الدافع وراء سلوكها الجريء معي تلك الليلة.(..) ما جدوى السؤال؟ إن المرأة في هذه الحالة إما أن تكذب فتظل على جهلك بالحقيقة،وإما أن تقول الحقيقة فتندم على السؤال){ص 55}.
    نأخذ أخر لمحة من هذا الفصل ..( ولم تعد لورا تأتي إلى المشرب وأنا فيه،وعندما رأيتها آخر مرة كانت قد أصبحت امرأة ساقطة في روكسبوري ونزيلة سجون. (..) ولقد عانيت من الشعور بأنني أتحمل مسؤولية ذلك وزادني حسرة أنني فعلت بها ما فعلته من أجل امرأة بيضاء وليس لي من عذر إلا القول بأنني كنت واحدا من الصم العمي.){ ص 56}.
    أما الفصل الخامس فهو بعنوان"الهارليمي" هنا أيضا سنجد حديثا عن المرأة السيئة .. (كنا في ليلة الخميس،عطلة الخادمات،فكان عدد النساء يفوق عدد الرجال لاسيما وأن زوجات الجنود كن هناك أيضا في سحنة تغلب عليها الوحشة و الوحدة والتفرس في الرجال. وعندما خرجت سمعت مومسة تسب وتشتكي من مزاحمة الهاويات اللائي لم يتركن للمحترفات مجالا لكسب عيشهن.
    كانت المنطقة التي تشمل شوارع لينوكس والسابع والثامن،زاهية كسوق شرقي حافل بالأوان الطبيعية وكان مئات الشباب الزنجي الغرير يملؤها في لباس الجنود والبحارة. ولم يكن هناك جندي أو بحار أبيض واحد بسبب ما كانوا يتعرضون له من هجوم وسرقة وقتل. وكانت الشرطة تحاول إقناع المدنيين البيض أيضا بالابتعاد عن هارليم ولكن البعض منهم كان ما يزال رغم ذلك يرتادها. وكان الرجال الذين ليس معهم نساء عرضة لمعاكسات المومسات بتحريض من مشغليهم الذين كانوا يقفون على مقربة منهم ويهمسون من جهتهم : "هل تريد شقراء؟"في حين كانت أصوات الباعة المتجولين تتعالى بالصياح : "خاتم بمائة دولار.ماس حقيقي والساعة بتسعين.اسمع! هل تأخذهما معا بخمسة وعشرين؟". بعد سنتين أصبحت وحدا من هؤلاء الباعة وأتقنت كل خدعهم،ولكنني تلك الليلة بقيت أحملق فهيم كالمعتوه،ثم قررت بيني وبين نفسي أنه لا بد لي من أن أصبح هارليميا،أي بعبارة أخرى منحرفا ونصابا وعالة على المجتمع العامل. إن الثمانية ملايين الذين يسكنون نيويورك نصفهم يعمل ونصفهم الآخر يعيش عالة عليهم.){ ص 60 -61}.
    قبل أن يصبح"مالك"نصابا أقصد بائعا متجولا،عمل بائعا في أحد القطارات .. (وفي ذلك الوقت بالذات اعترض طريقي جندي أبيض من البراري أحمر الوجه سمين،يترنح من السكر كالثور ويقول لي بصوت سمعه كل من في العربة :"أريد أن أتعارك معك أيها الزنجي". شعرت بالتوتر أولا لأمر ثم ضحكت وقلت له :"أهلا وسهلا ولكن عليك أن تخفف من ملابسك أولا"وخلع معطفه العسكري ولكنني قلت له وأنا ما أزال أضحك إنه ما يزال مثقلا فمضى يخلع والرجال يضحكون وأنا أقول له الشيء عينه حتى لم يبق إلا السروال،وعندها جاء بعض الجنود وأخذوه ولم أنس أبدا أنني فعلت به بفكري ما كنت سأفعله بالهراوة){ ص 63}.
    نختم هذه الحلقة بلمحة عن تاريخ هارليم ..( وعرفت بدهشة أن هارليم لم تكن زنجية دائما،إنها كانت هولاندية في البداية قبل أن تغمرها أوربا بسيول جائعيها وعراتها وهم يحملون على ظهورهم كل ما يملكون. وأن الألمان جاءوا فهرب الهولانديون منهم وأصبحت هارليم ألمانية ثم جاء الإيرلنديون فرارا من مجاعة البطاطس فهرب الألمان منهم وأصبحت هارليم إرلندية وجاء الإيطاليون فهرب الإيرلنديون ثم جاء اليهود فهرب الإيطاليون منهم. والآن تهرب كل هذه الأجناس من الزنوج الذين كانوا هناك عندما وصلت وأفرغوا البواخر التي أقلتها. وتعجبت عندما عرفت أن الزنوج كانوا في نيويورك منذ 1683 وقبل أن تبدأ لعبة تداول هارليم تلك وأنهم سكنوا أحقر الأحياء في كل أرجائها. كانوا أولا في ناحية وول ستريت ودفع بهم إلى غرينتش فلاج ثم إلى ناحية محطة بنسلفينيا فالشارع الثاني والخمسين الذي ما زال يعرف حتى اليوم بشارع النشاط قبل أن يستقر بهم المقام في هارليم. ونجح تاجر عقار زنجي في 1910 في إسكان أسرتين زنجيتين أو ثلاث في عمارة يهودية ،فبدأ اليهود يهربون من العمارة ثم من المنطقة القريبة لأن الزنوج كانوا يدخلونها إلى أن أصبحت هارليم زنجية كما نعرفها.){ ص 66 - 67}.

    إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله

    س / محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

المواضيع المتشابهه

  1. ممحاة وقلم
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى حكايا وعبر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-16-2019, 03:17 PM
  2. لمحات من التاريخ
    بواسطة ميساء حلواني في المنتدى فرسان الأبحاث التاريخية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-21-2018, 02:06 AM
  3. لمحات من كتاب(7)
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-15-2012, 05:20 PM
  4. لمحات
    بواسطة مصطفى الطنطاوى في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-23-2009, 01:12 PM
  5. لمحات ذكية
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى استراحة الفرسان
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-25-2009, 01:05 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •