نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي






فـاعـتـنِ يـا عـزيـزي بإلـه أقـدارك إذ أنـت فـي زمـن أسـوء الأقـدار !




نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
وقـفـة مـع الـكاتبـة مـاكـريـت روثـن : فـي كـتـابـهـا " تـاريـخ بـابـل "يـا مـن تـحـدديـن قـدر الـملك الـذي يـهـابـك ويـا مـن تـمـنـحـيـن بـابـل مـحـاربـاً يـحـمي حـمـاهـا حـيـن تـنفض أصـابـعـك الـغـبـار ، غـبـار الـتـآكل ، غـبـار الـزمـن ، غـبـار الـنـسـيـان مـن ألواح بـابـل الـمـسـماريـة سـتـفـك لك الألـغـاز ألـغـازهـا ، وتـهـديـك إلـى كيـف أهـتـدى نـبـوخـذنصـر إلـى بـنـاء الـمـعـابـد والأبـراج الـبـابـلـيـة الـمـرصـعـة بـالـذهـب الـمـطـعـم بـالأحـجـار الـكـريـمـة : " لـقـد هـدانـي قـلـبـي لـبـنـاء الـهـيـكـل فـوضـعـت تصـمـيـمـه فـي مـخـيـلـتـي " وكان يـؤكـد فـي تـعـالـيـمـه بـخـصـوص بـنـاء الـمـعـابـد " عـنـد تـشـيـيـد بـنـاء ديـنـي عـلـيـنـا أن نتـأكـد من أنـنـا عـلـى اتـفـاق مـع قـوانـيـن الإنـسـجـام الـكـونـي " . وحـتـى أكثـر الـمـوضـوعـات جـفـافـاً وابـتـعـاداً عـن الـحسـيـة كالأرقـام والـريـاضـيـات والـدورة الـكـونـيـة مـنـحـهـا الـعـقـل الـبـابـلـي ظلالاً شـعـريـة إذ ابـتـكـر " نـظـريـة الـعـدد الـمـقـدس " . وهـم الـذيـن اتـخـذوا الـدائـرة كـمـركـز للدلالـة عـلـى الـوقـت واكـتمـال الـمـكـان ، بـل أخـذوا يـعـبـرون بالأعـداد ويـسـمـون الآلـهـة بـمـا يـتـنـاسـب مـع مـكـانـتـهـم ومـوقـعـهـم مـن الـدائـرة الـكـونـيـة ... لـقـد كـانـوا يـقـدسـون الأعـداد حـتى أنـهـم أطـلقـوا عـلـى الـمـسـطـرة إسـم " الـقصـبـة الـذهـبـيـة " ... وقـارن ، عـزيـزي الـقـارىء ، بـنـفـسـك وتـلـمـس بـذوقـك الـفـارق بـيـن الـتـسـمـيـتـيـن ! ... فالأبـهـة والـقـداسـة اللـتـان أحـيـطـت بـهـمـا الأعـداد آنـذاك اقـتـضـت هـذه الـتـسـمـيـة . لـنـقـف قـليـلاً عـنـد هـذا الـلـوح حـيـث خـطـت قـصـيـدة ديـنـيـة كـتـبـهـا رجـل خـلصـه مـردوخ مـن الـكـآبـة ، والـقصـيـدة " الـصـالـح الـمُـعـذَّب " وهـي تـرتـيـلـة لإسـتـنـزال الـرحـمـة ، مـولـولـوجـاً للتـطـهـر الـروحـي :تـلـفـتُّ ورائـي فـإذا سـوء الـطالـع يـلاحقـنـي وكـأَنـي لـم أقـدم لإلـهـي الـتـضـحـيـةَ الـمـعـتـادة وأصـبـحـت صـنـواً لـمـن كَـفـر .. ونـسـى سـيـده فـكـيـف تـحـول الـبيـت عـنـدي إلـى سـجـن واربـكـتِ الـسـاحـرِ عضـلاتـي الـمـتـعـبـة وارتـبـكَ الـعـرافُ مـن سـوءِ طـالـعـي ولـم يـضـع الـمُعـزُّم يـدَهُ عـلـى سـبـبِ مرضـي وقـد فُـتِـح الـقبـرُ ، وتـمـلـكَ الـقـدَرُ مـسـكـنـي !لـقـد كـان الـبـابلـي يـؤمـن بـأن فـي اللـغـة تـكـمـن قـدرة سـحـريـة هـائـلـة تُـعـيـنـه عـلـى اسـتـكـمـال الـواقـع الـذي يـواجـهـه ، إذ يـجـد فـي اللـغـة قـوة وارادة ، وفـي الإرادة يـكـمـن تـجـسـيـد الـواقـع الـمـتـوخـى ، لـذا كـانـت الأسـمـاء مثـلاً نـوعـاً مـن الـرمـوز ذات الـفـأل الـحـسـن ، وبـهـا كـان الـبـابلي ، وعـن طـريـقـهـا يـكـسـب رضـى الآلـهـة ويـحـظـى بـعـونـهـا وحـمـايـتـهـا . كـان يـوزع الآلـهـة بـتـنـسـيـق تـكـامـلـي يـعـبـر عـن رؤيـاه فـي تـرابـط الأشـيـاء فـي الـكـون . فإلـه الشـمـس وإلـه الـعـدل فـي الـقـسـم الـجنـوبـي مـن الـفـرات ، بـيـنـمـا إلـه الـعـاصـفـة وإلـه الـحـرب فـي جـهـة الـشـرق مـن الـمـديـنـة . كان هـذا الـهـرمـوني يـتـخـذ مـسـاريـن عـنـد الـتـشـكـيـل إمـا مـسـار الـتـطـابـق والـتـمـاثـل أو مـسـار الـتـضـاد الـمشـكـل لـوحـة رمـزيـة . فـشـمس الصـبـاح تشـبـه الـخـصـب وشـمـس الـظـهـيـرة الـشـديـدة الـحـر تـلـقـب بسـلـطان الـجـحـيـم والأوبـئـة ، وإلـه الـقـمـر يـلـقـب بـ " شـفـيـع الـقـوافـل " . وحتـى الـمـجـردات كـسـوهـا محـسوسـيـة شـاعـريـة الـصـيـغـة مـع كـامـل الـدلالـة الـفـكـريـة ، فـجـهـنـم يـنـعـتـوهـا بـ " البـلاد الـتـي لا عـودة مـنـهـا " والـهـة الـحـيـاة تـسـمـى " الـحـائـكـة " والإحـتـفـالات الإلـهـيـة تـدعـى " الـدرامـا الـمـقـدسـة " سـتـرى يـا عـزيـزي أن كـل شـيء يـنـضـح بـالـشـعـر والـشـاعـريـة مـن الـفـن الـمـعـماري الـذي امتـدت تـأثـيـراتـه إلـى بـلاد فـارس والإغـريـق واسـبـانـيـا ، إلـى نـقـوش الـجـدران والـكـهـوف والـمـقـابـر والـمـلابـس ، إلـى مـراسـيـم الـحـداد والـولادة ، إلـى الأعـراس والـكـنـفـالات ، إلـى الـتـمـاثـيـل والـبسـط وأوانـي الـطـعـام والأفـرشـة والـحـلـي . إنـك تشـعـر مـعـي الآن ــ عـلـى كـثـافـة هـذا الإجـتـيـاز ــ إن بـابـل هـي لـيـسـت حضـارة وحسـب بـل هـالـة مـن الشـعـر والـجـمـال والـنـور ... وتـرَّسـخ حـالـة بـابـل هـذه يـقـيـنـي بـسـداد مـقـولـة ارسـطـو " الشـعـر مـوسـيـقـى بـكـلـمـات والـمـوسـيـقـى شـعـر بألـحـان " . إن كـل الـفـنـون تـرقـى حـيـن تـقـتـرب مـن الـشـاعـريـة فـي عـوالـمـهـا الإبـداعـيـة الـمـحـقـقـة سـيـمـا الـفـنـون الـمـعـبـر عـنـهـا بـالـلـغـة والـلـون . لـقـد بـهـرت بـابـل كـل عـظـمـاء الـعـالـم الـقـديـم آنـذاك . هـنـاك مـن عـاداهـا ونـاصـبـهـا الـحـقـد وغـار وجـار كـي يُـغـرق الـمـعـجـزة بـالـدم ويـدفـن الشـمـس بالأنـقـاض ، وهـنـاك مـن ألـهـا مـأخوذاً بـجـلالـهـا وسـحـرهـا وابـهـتـهـا الـحضـاريـة ... ويـكـفـي ، يـا عـزيزي الـقـاريء ، أن تـعـلـم أن الـبـطـل الإغـريـقـي الـعـظـيـم الإسـكـنـدر الـكـبـيـر ظـل يـحـلـم بـربـط بـطـولاتـه الـمـلـحـمـيـة بـأبـطـال الـتـاريـخ الـبـابـلي . فـحـيـن وصـلـت جـحـافـلـه انـقـاض بـابـل الـتـي خـانـهـا لـيـخـربـهـا " غـوبـريـاس " شـرع بـتـرمـيـم هـيـكـل مـردوخ ويـبـعث الـمـعـابـد والـقصـور . راح الإسـكـنـدر الـعـظـيـم بـرفـقـة عشـرة آلاف جـنـدي يـعـمـل بـهـمـة الـمـتـعـبـد ولـهـفـة الـمـؤمـن عـلـى إزالـة الـتـراب عـن الآثـار الـمـتـداعـيـة ، إلاّ أن الـمـنـيـة وافـتـه بـعـد شـهـريـن ، فـدفـن هـنـاك فـي الـتـاريـخ الـمـجيـد صـنـواً لأبـطال الـمـديـنـة الأسـطـورة ... مـعـجـزة الـمـعـجـزات ، ومـع انـطـفـاء هـذا الـنـجـم الإغـريـقـي " راحـت بـابـل تـغـط فـي رقـاد عـمـيـق " ... كـمـا تـخـتـتـم الـكاتـبـة مـاكـريـت روثـن بـحسـرة كـتـابـهـا " تـاريـخ بـابـل " . حـيـن تـعـود ، عـزيـزي الـقـاريء ، مـن بـابـل الـجـنـائـن الـمـعـلـقـة ، مـن بـاب مـردوخ ، ادخـل إلـى مـتـحف اللـوفـر فـي بـاريـس ، تـوجـه إلـى الـجـنـاح الـبـابلي ، ودقـق فـي آثـار حضـارتـك الـمـسـبـيـة الـمـنـهـوبـة حـيـث سـيـنده عـليـك تـمـثـال ، كـان أهـدي مـن الـبـابـلـيـيـن إلـى الـمـلـك الآشـوري أداد ــ نـيـراري وأمـه الـمـلـكـة سـمـيـر أمـيـس . وحـيـن تـفـك الألـغـاز الـمسـمـاريـة سـتـضيء فـي ذاكـرتـك هـذه الـوصـيـة : يـا رجـلَ الـمـسـتـقـبـل كـن مـخـلصـاً لـنـابـو أولاً ولا تضـع ثـقـتـك بأي إلـهٍ آخـر !ولـفك اللبـس عـن بـالك فـ " نـابـو " هـذا هـو أبـن مـردوخ الـذي عـرفـتـه فـي مـسـتـهـل رحـلـتـنـا هـذه ، وهـو " إلـه الأقـدار " ... فـإعـتـنِ يـا عـزيـزي بإلـه أقـدارك إذ أنـت فـي زمـن أسـوء الأقـدار .


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي