هكذا سلم هؤلاء بيت المقدس للفرنج الصليبيين -
تأليف: الدكتور عمار محمد النهار
الناشر: مؤسسة فلسطين للثقافة
بالتعاون مع مؤسسة القدس الدولية
الطبعة الأولى 2011

جاء في مقدمة المدير العام لمؤسسة فلسطين للثقافة:

لم تكن هذه الدراسة من نوعية الدراسات المترفة التي تبحث في التفاصيل التاريخية المغرقة في تخصصيتها التي يهتم بها المؤرخون فحسب بل هي دراسة تاريخية ذات بعد سياسي معاصر بامتياز، تتحدث عن حقبة مظلمة كانت قريبة الظهور من حقبة مضيئة أخذت صيتاً تاريخياً مدوّياً، ففتح صلاح الدين لبيت المقدس عام 583 هـ أحدث هزة تاريخية وسياسية واجتماعية هائلة، وسجّله التاريخ العربي والفرنجي الأوروبي بتفاصيله، وما زالت آثاره يصل مداها إلى اليوم عبر أفلام سينمائية ضخمة تحكي قصة الفتح وظروفه، وما زالت سيرة صلاح الدين تستدعيها ذاكرة الأمة الجمعيّة في ظروف الاحتلال والحصار والهزيمة فيما ما تزال مدينة بيت المقدس تحت احتلال الصهاينة.
يتحدث هذا الكتاب عن قضية الورثة الذين يضيعون تراث الآباء العظيم ويسرفون في سحب الأرصدة الشعبية الهائلة التي بذلها آباؤهم، وتتحدث عن المصالح الضيقة والمكاسب الصغيرة وضيق الأفق السياسي وكيف تتحول القضايا الكبيرة عند صغار السلاطين والحكام إلى سلعة قابلة للتداول والمساومة.
في هذا الكتاب تجد حقائق مؤلمة عن التفريط السياسي بحق المدينة المقدسة في الحقبة الأيوبية بعد الإنجاز الكبير الذي حققه مؤسس الدولة صلاح الدين الأيوبي وقيادته وأمته الملتفة حوله، ويتحدث عن انهيار شعبية السلطة الأيوبية وسقوط هيبتها واحترامها بين الناس بسبب ذلك عدة مرات، وهو الأمر الذي أدى من جملة ما أدى إلى انهيار الدول الأيوبية بسرعة على يد مماليكهم العسكريين، وتفاصيل ذلك مما أورده الكتاب غنية بالدروس السياسية التي يجب أن يقرأها صانع القرار السياسي الفلسطيني والعربي والذي باتت جرأة بعض النافذين فيه عجيبة في إعادة تاريخ من سقطوا قبلهم ممن فرط في المسجد الأقصى ومدينة بيت المقدس عبر اتفاقات أو تفاهمات أو محادثات أو استعدادات تتلخص كلها في أنها تفريط حقيقي بهذه المدينة.
وسيلحظ القارئ لهذا الكتاب مقدار التشابه الكبير بين التبريرات التي ساقها حكام ذلك الزمان لإقناع الجماهير بخطواتهم الكارثية عبر إبراز شكليات ترضي السطحيين من الناس وبين التبريرات السياسية اليوم في تعليل مسلسل التنازلات السياسية للمحتل الصهيوني والإصرار على إضعاف المقاومة وتهميشها وعزلها.
كانت الفكرة الأولى لهذا الكتاب مما يشغلني أثناء بحثي العلمي في تاريخ هذه المدينة لكنني كنتُ أجنح إلى ضرورة أن يكون هذا المبحث الخطير مما تدوّنه أقلام المتخصصين، وكان أخي الدكتور عمار النهار واحداً من المؤرخين الشباب الذين كاشفتُهم بأهمية هذا البحث وخطورته، وبعد حوار طويل معه وهو الخبير بتاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الأيوبية والمملوكية اطمأن قلبه للكتابة في هذا الموضوع، فاستغرق فيه بشغف، وبعد أشهر قليلة نتج لديه هذا الكتاب الحافل الذي أنصح بقراءته مراراً لنتمكن من استيعاب إسقاطاته المعاصرة، وتقريب التجربة التاريخية وأهمية فحصها ليستفيد منها صانع القرار في هذا العصر.
وجاء في تقديم مدير عام مؤسسة القدس الدولية:
مثّل صلاح الدين الأيوبي معاني العزة والانتصار في أمتنا، لا سيما بعد انتصاره في معركة حطين الفاصلة، وقد ترك بعد وفاته (589هـ/1193م) دولة واسعة الأرجاء, وأولاداً تنازعوا من بعده على الملك، فدارت بينهم الحروب والمؤامرات، التي أضعفت الأمة، وأطمعت أعداءها بها.
ولم يكد يمضي على إعادة صلاح الدين بيت المقدس، إلى رحاب الأمة، خمساً وثلاثين سنة، حتى فرّط فيها "الملك الكامل محمد بن الملك العادل الأيوبي"، الذي حكم مصر نحواً من عشرين عاماً، إذ يسجل التاريخ واحدة من أغرب الحوادث، التي أضاع فيها حاكم مسلم أحد أقدس المقدسات، بطيشه واستهتاره ورغبته في تحصين ملكه.
وكان "الكامل محمد" استطاع هزيمة الصليبيين في حملتهم الصليبية الخامسة على مصر، بعدما شك في قدرته على ذلك، وحقق النصر بفضل تضامن أشقائه، ورفض المصريين جعلَ بيت المقدس ثمناً لعودة الصليبيين عن مصر، لكن خلاف "الكامل محمد" مع أشقائه، ولا سيما "المعظم عيسى"، حاكم دمشق، على الملك، جعل كلاًّ منهما يستقوي بأعداء الأمة على بني جلدته، بل على أخيه بالدم.
وهكذا استعان حاكم دمشق بالسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية، واستعان "السلطان الكامل" بالإمبراطور فريدريك الثاني إمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوروبا، وكان ثمن دعم فريدريك الثاني؛ بيت المقدس، وجميع فتوح صلاح الدين الأيوبي بالساحل الشامي!.
الأغرب في الأمر كله؛ أن القدر شاء أن يأتي فريدريك الثاني إلى بلادنا لدعم "الكامل محمد"، وقد توفى الله شقيقه اللدود "المعظم عيسى"، ما يعني بطلان الاتفاق على تسليم بيت المقدس، لذهاب الموضوع الذي قام الاتفاق -غير المشروع- على أساسه، ومع ذلك فقد "أوفى" السلطان "الكامل محمد" بعهده لفريدريك الثاني وأعطاه القدس، مبرراً فعلته بأنه أعطاه الكنائس فقط، بينما بقي المسجد الأقصى بيد المسلمين!.
أرخى هذا "الجنون" بظلاله على أمة الإسلام، فأقيمت المآتم في المدن الكبرى، وبكى المسلمون القدس خمسة عشر عاماً حتى حررها الخوارزميون عام 642هـ/1244م.
وما يهمنا اليوم من هذه القصة الغريبة أنها تماثل إلى حد كبير طيش وجنوح حكامنا المعاصرين، وصراعهم على النفوذ، وتنافسهم على إرضاء العدو مقابل الحكم، ولو كان الثمن بيع ما لا يملكون.
إن اتفاقية التنازل عن القدس التي عرفت باتفاقية يافا تجد لها نظيراً اليوم -بكل أسف- باتفاقية اسمها اتفاقية كامب ديفيد، واتفاقية أوسلو، واتفاقية وداي عربة، كما أن مبررات التنازل عن المقدسات – أو التخفيف من وزرها- التي ظهرت لدى مفتي السلاطين في واقعنا المعاصر، تشبه إلى حدٍ كبير ما نقله لنا التاريخ في الماضي أيام الدولة الأيوبية... ما أشبه اليوم بالبارحة!.
وقد جاء في مقدمة الدكتور عمار النهار :
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لقد مرّت الأمة العربية والإسلامية بأوقات عصيبة، وتعاورتها مصائب محرجة، فليس كل تاريخنا مضيء، فهناك من خرّب المصباح، ولو لوقت قصير، ولكنه مؤثر، إذ خفض الأمة بعد أن رفعها القادة والأبطال.
وكانت قضية تسليم بيت المقدس من القضايا والوصمات المؤلمة في تاريخنا، وقد حيّرتني منذ كنت طالباً في جامعة دمشق، وكنت كل فينة وأخرى أطّلع على كتابين أو ثلاثة أشاروا إلى هذه الحادثة، وكنت أستغرب أشدّ الغرابة مما حدث؛ إذ لم يكد يمضي على عودة بيت المقدس إلى أحضان المسلمين خمسة وثلاثون عاماً حتى كان عرضة للمساومة والتفريط من قبل السلطان الكامل بن العادل الأيوبي سلطان مصر، في واحدة من أعجب التنازلات وأغرب الطائشات التي يقدم عليها حاكم مسلم، فيفرط في المقدسات التي لا يملك التصرف في أمرها شيئاً.
وللحقيقة؛ لم يخطر في مخيّلتي يوماً أن أسطّر عن هذه القضيّة كتاباً، إلى أن التقيت بالأستاذ العزيز الدكتور أسامة الأشقر، الذي وجّهني إلى الكتابة في هذا الموضوع، فله يعود الفضل في ظهور هذا الكتاب، والذي أتمنّى أن يكون وافياً، وأن تظهر الأحداث فيه على حقيقتها، بعيداً عن المجاملات للحكام التي تغصّ بها مصادرنا التاريخية.
وكنت – لمّا أقدمت على هذا العمل – أظن أنّني سأتحدّث عن خيانة واحدة اسمها: خيانة بيت المقدس، ومن حاكمين هما: الكامل والصالح إسماعيل، وإذا بي – ومع تقدمي بالبحث – أنجرّ للحديث عن خيانات وليست خيانة، ومن حكّام وليس حاكمين فقط.
والمحزن في هذه الإشكالية التاريخية؛ أن الأسباب التي دفعت هؤلاء إلى هذه الخيانات كانت أسباباً تافهة كما سنرى، وغير حقيقية، بل إن المؤلم أن هؤلاء قد أضاعوا فرصاً تاريخية لو استغلّوها لَتَغيّر وجه المنطقة، إذ كانت الجبهة الصليبية – في خضمّ هذه الأحداث – تمر بفترة تَضعْضُعٍ وتَقَهْقُر.
فلقد مضى على الصليبيين عشرات السنين وهم يذوقون مرارة الهزائم على أيدي المسلمين تحت قيادة عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين، وخلال ذلك كانوا يفقدون قوّتهم وكرامتهم وعنفوانهم، ويخسرون مدنَ وحصونَ المسلمين التي كانوا يسيطرون عليها.
إذ أعاد عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين لدولة الإسلام وحدتها وعزّتها، ثم جاء من فرّقها لأطماع شخصية دنيوية، وأتى أشخاص فرّطوا بهذه الإنجازات التي لم تكن ملكهم بل ملك الأمة، وأظهر هؤلاء التشتّت والتفرّد في الحكم، فكانت أحوالهم تماماً كما عبّر (كروسيه) شامتاً: «وبدلاً من أن يتّحد الأمراء المسلمون ضدّ الصليبية، واجهوها فرادى، وفرادى سُحقوا، الواحد تلوَ الآخر، وتغلغلت الصليبية بينهم.
لقد بيّنت قضيّة تسليم بيت المقدس بروز عوامل الضعف على الجبهة الإسلامية، وكيف مكّنت الفرنج الصليبيين من السيطرة على الأراضي المقدسة، وكيف مكّنت من إطالة أمد وجودهم في الشرق، حتى لفظ العدوان الفرنجي الصليبي أنفاسه الأخيرة على يد المماليك بعد أن جثم على صدورنا قرنين من الزمان.
إن إشاعة فكرة أو ثقافة معينة لأيّة أمّة يجعل سلوك المجتمع متوافقاً معها، وتصبح (ثقافة الخيانة) أمراً هيّناً، فما أشبه الحاضر بالماضي، فاتفاقيات: كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة تفصح عن هذه الحقيقة.
ولذلك؛ فإنّ أخطر ما في هذه القضية التي نناقشها، هي تلك الآثار النفسية التي ترتّبت عليها، فلقد كان صلاح الدين همّاماً عبقرياً، فبإنزاله الضربات المتلاحقة على الفرنج الصليبيين، استطاع أن يعلي من همّة المسلمين، ويقوّي من معنوياتهم، وكان لهذا الأثر النفسي القوّة ذاتها المتمثلة بالإبلاء في المعارك والشجاعة والفروسية، في حين كان الأثر العكسي تماماً على معنويات المسلمين بما قام به الكامل ومن لفّ لفّه فيما بعد.
والأخطر في هذه القضية أيضاً؛ أن لا تقتصر العلاقات مع الأعداء على المسالمة والمهادنة فحسب، بل أن تتعدى ذلك إلى التخلي عن فريضة الجهاد، والتي بها وضع الأيوبيون التيجان على رؤوسهم، فوصولهم إلى العروش كان بفضل جهاد صلاح الدين وأمثاله.
وأن تتعدى أيضاً إلى عدّ الفرنج و(الأعداء) قوة سياسيّة إقليميّة لا يتورّعون عن مهادنتها والتحالف معها في مقابل تنازلات إقليمية عن أراضٍ مقدّسة، إما ّثمناً للحفاظ على عروشهم وكراسيهم، وإما لتصفية الحسابات الصغيرة فيما بينهم، وإما لتحقيق مطامح إقليمية في دول بعضهم البعض.
إن الصليبيين كانوا يدفعون الغالي والرخيص، ويرمون ملايين المقاتلين للحصول على موطئ قدم في بلادنا، ويحدّثنا التاريخ – الذي لا يرحم – أن هؤلاء لم يستطيعوا تحقيق ذلك الهدف إلا بشراء ذمم بعض المسلمين وخاصة الأمراء والحكام منهم، فكان هؤلاء عوناً للصليبيين على المسلمين.
ويخبرنا التاريخ، أن هؤلاء الصليبيين ما كانوا يخافون ويرتعدون خوفاً إلا من المجاهدين الحقيقيين الذي كانوا يدكّون مضاجعهم، ويخيّبون آمالهم. والمؤلم هنا أننا لم نعد نسمع اليوم صيحاتٍ حقيقيةٍ تخرج لاستعادة بيت المقدس كتلك التي كانت تخرج من أفواه أولئك المجاهدين أمثال نور الدين وصلاح الدين وقطز وبيبرس وقلاوون والناصر محمد بن قلاوون والأشرف خليل.
وأخيراً؛ إن التاريخ ليس بِعَظةٍ أو عبرة فقط، وإنما هو مستودع القوانين، ومن ألحّ القوانين التاريخية التي علينا أن نعيها في هذا الكتاب؛ أن حالة التمزق والضعف هي التي تخلق الخيانات، وهي التي تيسّر سيطرة الآخرين علينا، وتمنع من ظهور الأبطال، وتجعل منّا أمة تسير خارج التاريخ، بل وتجعل منّا مخالفين لقوله تعالى:
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران، 103).
فأملي أن يكون هذا الكتاب هزّة لغافٍ، وإيقاظاً لراقد.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي