قصة خمسة علماء ….وصفوا بالزنادقة الكبـــار-
=================
على نفس درجة اهمية الانتصارات العسكرية للانتشار المبكر بعد الإسلام وقفت الانجازات المدهشة لأساتذة المسلمين وراء تأسيس سيادة الحضارة الاسلاميةعلى من عاصرها. يجدر بالذكر ان غزوات المغول التي شابهت الانتصارات الاسلامية من الظاهر فقط أفرزت امبراطورية مؤقته لكن بدون حضارة فلم تخلف فلولهم وراءها – بعد انسحابهم الى مواطنهم الاصلية في صحراء جوبي (شمال الصين) – سوى الخراب والدمار في المقابل أوجدت الانتصارات الإسلامية حضارة عالمية نمت وازدهرت حتى بعد تراجع السيادة العسكرية بزمن طويل.
أضاءت شعلة المعرفة الحضارة الإسلامية على مدى خمس قرون . ضمت المجرة المتلألئة كواكب مضيئة كثيرة مثل الكندي وابن سينا وعمر الخيام وابن الهيثم و ابن رشد وابن خلدون وغيرهم.ما كان لنسيج الحضارة الإسلامية أن يتلون بكل تلك الألوان الزاهية لولا وجود أمثال هؤلاء الرجال العظام. تحولت تلك الأسماء اللامعة في أيامنا هذه إلى مجرد رموز مبجلة للأنجازات السالفة. لابد من تُبرز كتب التاريخ والعلوم أنجزاتهم كما يجب اطلاق أسمائهم على المؤسسات والجمعيات. لم يأت التهديد والخطر لهؤلاء من أسراب الغير بل جاء من أخوانهم من أنصار الأصولية الدينية.للأسف-
فالتوتر بين المتطرفين والعلمانية (المدنية) بدأ منذ الحظة التي دخلت فيها العلوم اليونانية غلى الحضارة الإسلامية. احيانا كان التوتر مستتراً ومكبوتاً وأحيانا أخرى سافرا وعنيفا.وكثيرا ما شكلت المعارضة الأصولية تهديداً قاتلاً لدارسي العلم والفلسفة والمنطق مما دفع الجاحظ للتساؤل بغيظ عن ورع الفقهاء المزعوم المتمثل في مسارعتهم بإدانة المختلفين معهم والمنشقين واتهامهم بالإلحاد. لذلك اعتمد العلماء الكبار على دعم الخلفاء و الولاة المنتفعين لحمايتهم من بطش الشخصيات الأصولية القوية التي رأت في أعمالهم ضربا من ضروب الزندقة. ولا يخفي ان هذه الحماية فتحت الباب للغيرة الشديدة من جانب الفقهاء الذين لاحظوا كيف ان الوصول الى أروقة السلطة وحتى الى الخليفة ذاته كان أيسر بالنسبة لهؤلاء الأشخاص (الأساتذة) و المفترض انهم أقل منهم مرتبة.
فرض هذا الوضع بعض القيود الهامة على كم وطبيعة النشاط الثقافي والعلمي فقد جعل مهمة وصول العلم إلى عامة الناس امرا صعبا وبالتالي أصبح العلم قاصرا على الطبقة العليا فقط للمجتمع ولعل هذا كان السبب وراء مقولة ابن رشد الماثورة لما معناه “يجب على الحكام منع وصول كتب العلماء إلى العامة
الكندي 801 – 873-
----------------------------
مؤسس مدرسة المشائيين الفلسفية الإسلامية وله 270مؤلف تترواح ما بين المنطق والرياضيات إلى الفزياء والموسيقى ولقب بفيلسوف العرب اعترافا بجهوده التي لم تعرف الكلل من أجل جعل الفلسفة مستساغة للفقهاء وهو أول الفلاسفة العرب ولكونه من المعتزلة البارزين فقد كتب عن سمو الحق وشمولينه الكونية وبأن الفلسفة ما هي إلا شكل من اشكال الرسالة التي جاء بها الرسول. تجب الاشارة إلى أن لفظ “الحق” كما استعمله الكندي كان له معنى محددا جدا حيث كان يشير إلى تفسيرات الحكماء اليونانيون مثل بلاتو وأرسطو وغيرهم. أما عن دور الأساتذة فكان رأيه ” لاستكمال ما لم يوضحه السلف بقدر الإمكان وطبقا لاستخدامنا للغة زماننا وتقاليدنا
كرجل عقلاني رأى الكندي انه يمكن النظر الى بعض الآيات القرآنية التي يبدو ظاهرها متناقضا مع الواقع على أنها مجازية ليسترشد بها العقلاء آمن الفلاسفة الاوائل بما فيهم الكندي بوجود حقيقتين واحدة لعامة الجماهير غير المتعلمة وأخرى للمتعلمين والمثقفين. فأما الجماهير الساذجة التي لايمكنها إلا تقدير الامور البسيطة فوجب أستمالتها باستعمال أمور مثل حوريات الجنة وغير ذلك من المغريات المادية. أما المتعلمين من أصحاب العقل والمنطق فيرى أن بإمكانهم الوصول إلى معان اعمق من ذلك بكثير.
من منطلق التفسير المجازي المنطقي الذي اشتمله الكندي تناول الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَ مَن فِي الأرض وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابّ﴾ سورة الحج الآية 18.
يعطي نص الآية صورة للبسطاء بأن كل الأشياء ” تنحني” أثناء الصلاة تقدم الكندي في هذا الموضوع بجدل لغوي مفصل بما يفيد بأن الانحناء والسجود معناه الطاعة في حقيقة الأمر. على ذلك يتحول مفهوم السجود الساذج في العبادة إلى معنى الطاعة الكاملة لمشيئة الله. ثم يخطو الكندي خطوة أخرى لتصحيح هذا المفهوم بما يفيد بوجود قانون كوني عام لابد أن تطيعه من كل أشكال المادة حية كانت أو جماد وبهذا كما يقول الكندي تتحول امور تبدو متناقضة إلى شئ له معنى ومقبول إذا حسن تأويله.
بزع نجم الكندي في بلاط المأمون كألمع نجم في بلاط المراكز الثقافية تقدما في العالم. كما ظلت أطروحاته الأكاديمية على حيوتها ونشاطها في زمن الخليفة العقلاني التالي المعتصم ثم الواثق وأخيراً جاء الانحسار في عصر الخليفة السني الأصولي الخليفة المتوكل الذي أتى معه بنهاية عصر طويل من الحرية. لم يكن عسيراً على الفقهاء إقناع الخليفة بخطورة معتقدات الكندي. فلم يمض وقت طويل حتى أمر بمصادرة مكتبته الخاصة المعروفة للجميع آنذاك بالمكتبة الكندية.ولم يكن ذلك كافياً فقد تلقى الشيخ المناهز للستين عاماً المسلم الفيلسوف خمسين جلده أمام حشد من الناس. شهد المعاصرون للواقعة أن الحشد كان يهتف بالموافقة على العقاب مع جلدة.
رغم ان أحد أصدقائه تمكن من استعادة مكتبته فإن الكندي أصيب بحالة شديدة من الاكتئاب نتيجة الإهانة البالغة التي نالته من واقعة جلده العلني فاعتزل الحياه حتى توفى عام 873 وقد ناهز الاثنين وسبعين عاماً. كان الكندي اول الرموز العلمية الإسلامية البارزة التي تقع ضحية لرد فعل الأصولية تجاه العقلانية.
الرازي 830 – 925
-------------------------
اشتهر محمد بن زكريا أبو بكر الرازي الفارسي الاصل كأبرز الأطباء في الحضارة الإسلامية ولقب بأبو علم الطب وجالينوس العربي كما وصف بأنه أكبر عباقرة العصور الوسطى لإنجازاته الهائلة في مجال الطب. تلقى تدريبه في بغداد ثم عاد الى مسقط رأسه بمدينة الري بإيران ليتولى إدارة البيمارستان (المستشفى) بها حيث أشتهر برعايته الحريصة لجميع مرضاه سواء الفقير منهم او الغني.
بجانب أنجزاته في مجال الطب فقد كان فيلسوفاً حر التفكير وكان اكثر راديكالية من الكندي في ارتباطه بالعقلانية اليونانية. قيل عنه أنه معارض للنبوة حيث تناول أهمية الوحي بخفة وفي المقابل كان يؤكد ان الله خلق الانسان ومنحه جزءاً من منطقه ليصبح الإنسان قادراً على فهم طبيعة الكون المادي. اقتضت نظرية الرازي في خلق الكون أن تكون البداية قاصرة على وجود الله والروح والمادة والفضاء والزمن. خرج بعدها الكون المادي إلى الوجود بتدخل الله في بعض خصائص الروح ثم يرى نهاية الوجود بعد ذلك عندما تعود جميع الأرواح إلى مستقرها في السماء. من البديهي أن هذا المفهوم لمصير الكون وارتحال الأرواح لم يتماشى تماماً مع المعتقدات الشائعة عن الخلق.
كانت افكار الرازي الغير تقليدية عن الدين سببا في عدم شيوع محبته بين كل المسلمين. فرغم إعجاب الكتاب المتأخرين بعلمه الواسع إلا أنهم أدانوه بالتجديف لوضعه المنطق في مرتبة أعلى من الوحي. حتى أن بعض أصحاب البدع من الإسماعيليين مثل نصر خسراو (Nasr – I – Khusrau ) اتهموا بالزندقة دفع الرازي ثمناً غاليا لأرائه الراديكالية حيث بقيت معظم أعماله في طي النسيان.
في محاولة على ما يبدوا لإرضاء راعية الاصولي قام البيروني بمهاجمة الرازي حيث أرجع سبب إصابته بفقد البصر في آخر ايامه إلى الجزاء الإلهي. كذلك يقال أن فقده للبصر جاء نتيجة للعقاب الذي وقع عليه من أحد المراء المحافظين من عائلة المنصور في بخاري (مرجع5) حيث أمر الامير بأنيُضرب الرازي على رأسه بكتبه فإما ان تنفلق الكتب او تُهشم رأس الرازي.على ذلك فقد الرازي إبصاره وكذا رغبته في الحياة. جدير بالذكر ان احد جراحى العيون عرض على الرازي إجراء عملية جراحية له لاستعادة البصر فرفض الرازي قائلاً :” لقد رلأيت ما يكفي من هذا العالم ولا أرحب بفكرة إجراء العملية بهدف رؤية المزيد منه ” ثم توفى الرازي بعد ذلك بوقت قصير.
ابن سينا 980 – 1037 ---------------------------
يشابه الحسين بن عبد الله بن الحسن بن سينا أبو على نوربرت فاينر (Norbert Weiner) في ايامنا المعاصرة فقد كان عبقرياً غزير العلم وغطت أعماله مساحات شاسعة من المعرفة. أتم حفظ القرآن في سن العاشرة ثم أصبح طبيباً في سن السابعة عشر ثم تمكن من علوم الغيبات لأرسطو في زهاء عام.
أكبر أعماله كتاب ” القانون في الطب ” الذي ترجم إلى اللغات الأوربية واستمر كالمرجعية الأسلامية في تدريس وممارسة الطب في أوروبا لأكثر من خمسمائة عام وحتى مولد الطب الحديث. لم يكن لقب الـ”حكيم” وقتها قاصراً على ممارسة الطب وكان ابن سينا مثلا لا يباري في الحكمة. امتدت أعماله المذهلة أيضا الى مجالات الفلسفة والمنطق. كان التزام ابن سينا بالإسلام ثابتاً ولكن غير تقليدياً ويتضح ذلك من قوله في اثناء فترة نشاطه الدراسي:
” كنت إذا قاباتني مشكلة عويصة أتوجه الى المسجد للصلاة وأعكف على الدعاء لله خالق كل شئحتى تنفرج الابواب المغلقة علي يسهل الصعب. كما كنت كلما أقبل الليل اعود الى داري اوقد المصباح امامي ثم ادفن نفسي في القراءة والكتابة فإذا غلبني النوم وأحسست الوهن الجأالى كأس من النبيذ لاستعادة قواي
يتضح اسلوبه المميز وغير التقليدي هنا في طريقته لاستعادة نشاطه. كان ابن سينا – كالكندي – فيلسوفا قويا متميزا بحرية الفكر ومؤكد بأصرار على أولوية المنطق بالرغم من اعتراضه على أمور كثيرة من أمور المعتزلة. وقد تولى منصب الوزارة للأمير حمدان حيث اشتبك في جدل ديني مباشر مع بعض رجال الجيش المتدينين الذين طالبوا بإعدامه. ذهب الجنود الى داره فلما لم يجده سلبوا ممتلكاته ثم طلبوا من الأمير قطع رأسه. كان ابن سينا قد علم بالمؤمرة فاختبأ عند صديقه أبو سعيد دفداق (Abu Said Dafdaq ) حيث عكف على كتابة مؤلفه “القانون”. هرب ابن سينا عدة مرات من العدام ومن حنق الولاه. في ضوء مصادرة كتبه ومنعها ومع قوة أعدائه وكثرة مؤامراتهم ضدهقام اصدقاؤه باقتراح نوع من التسوية للأمور فكان رد ابن سينا عليهم “إني أفضل حياة قصيرة واسعة عن حياة طويلة ضيقة ” ثم واصل اعماله في بسالة. كثيرا ما اثار ابن سينا غيظ الفقهاء بمحاولاته المتكررة للتوفيق بين المعتقدات الدينيةوالعلم والمنطق. ومما يذكر انه نظم شعرا يدافع به عن نفسه ويدرأ اتهامه بالإلحاد فيقول ما معناه:
لـيس من السـهل اتـهامي الزندقة فلا إيمان بدين أقوى من إيماني
فإذا كنت الزنديق الوحيد في العالم كله فلا مسلم واحد بعدي.
رغم كل احتجاجات ابن سينا إلا أن سمعته كزنديق شاعت بين الأصوليينفي عصره كما استمرت من بعده لعدة قرون. حتى أن الغزالي افمام المعتدل وصمه بالإحاد خاصة فيما يتعلق بنقله لفلسفة أرسطو
فيما يتعلق بحكم الاساتذة والعلماء المسلمين فلا تختلف فظاظة وخشونة الأصوليون في الأزمنة الغابرة عنها في أيامنا هذه حيث نشرت إحدى المجلات الصادرة في لندن بتمويل سعودي مقالاً عاصفاً جاء فيه:
“إن قصة مشاهير العلماء المسلمين من القرون الوسطى كالكندي و الفارابي وابن سينا توضح انه إذا وضعت مسألة كونهم من المسلمين جانباً فلن يبقى فيهم ولا في أعمالهم شئ يمت للإسلام بصلة. على العكس فقد كانت حياتهم – على وجه الخصوص – لا إسلامية. أما امتداد طبيعي ومنطقي للتعليم اليونانية
كتب محمد كاليمار رحمن (Mohammed Kalimur Rehman) وهو هندي مسلم في إحدى المجلات المتخصصة في العالم الإسلامي شيئا مماثلا:
” كان معظم الفلاسفة إما من المعتزلة أو من الملاحدة. كثير منهم مارس الموسيقى و التنجيم والسحر وكلها إما محرمة او مكروهة في الإسلام …. الرازي لم يؤمن بالوحي والفاربي اعتمد على المنطق وحده – لا الشريعة – للتفرقة بين الخير والشر. أما الكندي فلم يعترف بصفات الله وأخيراً ابن سينا الذي لم يؤمن بالبعث… هكذا حدثت خسارة المجتمع تدريجياً للقيم الإسلامية
إن تواصل الخط الفكري بين الأصولية الحديثة والقديمة واضح تماما إذ يلاحظ أن مرور كل تلك القرون لم يسفر عن العفو عن أي من فلاسفة الإسلام. كذلك يلاحظ أسلوب رفض إنجازاتهم باعتبارها كلها ” امتداد طبيعي ومنطقي للتعليم اليونانية ” وهو موقف في الحقيقة مشابه إلى حد كبيرلازدراء أبناء الغرب للأنجازات العلمية الإسلامية. على فرض أن أحداً من غير المسلمين زعم بأن العلم الإسلامي ما هو إلا استرجاع للعلوم اليونانية فكان يتوقع أن يهاجمه المسلمون بغضب شديد أما وأن الزعم قادم في الأسلس من زعماء حماة العقيدة فلا عجب أن حظيت إهاناتهم للعلم الإسلامي بأقل قدر من الاهتمام.
ابن رشد 1126 – 1198
----------------------------
يعد أبو الوليد محمد بن رشد بلا منازع أشهر فلاسفة المسلمين في الغرب لدوره الرائد في الربط بين الفلسفاء الأرسطية وفلسفات عصر النهضة. كما انه احد اساتذة الصف الاول على مستوى العالم أجمع اعتبرت كتبه من كتب الزندقة في فترة الثورات الفكرية والفلسفية التي واكبت عصر النهضة في أوربا مما تسبب في تكرار مشهد حرقها عدة مرات غما من قبل الكنيسة وإما من قبل الفقهاء الأصوليون المسلمين. ترجمت أعمال ابن رشد إلى اللاتينية و العبرية. سريعا ما ظهرت تعقيبات على تعقيباته نظرا لأهميتها البالغة من حيث احتوائها على شروح تفصيلية وتعقيبات على فلسفات أرسطو. تعتبر الترجمات لبعض أعمال ابن رشد بمثابة الأثر الأساسي الموجود حالياً إذا أحرقت الأصول المكتوبة بالعربية. ويشير ذلك في حد ذاته إلى مدى تأثير ابن رشد كفيلسوف عقلاني على عقول من حوله في ذلك الوقت. أثار ابن رشد كغيره من العقلانيين السابقين غضب معارضيه لقوله بأن لا بد للوحي من الاسترشاد بالمنطق. ففي رأيه أن أسمي أشكال العبادة تكمن في دراسة الله من خلال أعماله باستعمال العقل. كذلك صمم أسلوبا مفصلا لتأويل القرآن معتمدا على الخصائص الدقيقة للغة العربية.على أية حال يظل تفنيده لأراء وحجج الغزالي على قمة الأسباب في شهرته.
تتضح من ردود ابن رشد على الغزالي الذي سبقه بحوالي سبعين عاما كثير من الامور التي شغلت بال المفكرين في ذلك الحين. لقد استعرضنا فيما سبق رؤية الغزالي لمسألة السببية حيث تتلخص في ان كل الأشياء و الأحداث إنما ترتبط مباشرة بالتدخل الإلهي المستمر فقطعة القطن المحترقة لا تحترق لأن طبيعة النار أن تحرق لكن لأسباب فوق طبيعة كتدخل الملائكة في المسألة.
يرى ابن رشد في هذا نوعاً من الهراء حيث لا يعقل أنه كلما احترقت قطعة قطن وجب هبوط عدد من الملائكة أو غيرهم من المخلوقات الإلهية لإنجاز المهمة وفي رأيه أن السبب المادي يؤدي إلى تأثير مادي. سجل الغزالي أرائه في كتابه ” تهافت الفلاسفة ” فرد عليه ابن رشد بكتابه ” تهافت التهافت ” وفيه يقول ما معناه :
من باب السفسطة إنكار وجود أسباب فاعلة في الأشياء الملموسة إن إنكار السبب يعني إنكار المعرفة وإنكار المعرفة يعني عدم إمكانية معرفة أي شئ في العالم “تحولت الأيام فبعد أن كان ابن رشد قاضيا لأشبيلية ثم لقرطبة أصبح الآن ضحية للمؤامرات السياسية وهدفا للأصولية الدينية تضاءل ثقل ابن رشد بعد وفاة الخليفة أبو يعقوب في عام1184م وتولى ابنه أبو يوسف الخلافة من بعده حيث صدرت أوامر الخليفة بمنع دراسة المنطق والعلم. في النهاية ابعد ابن رشد من قرطبة ورحل مع بعض الدارسين في صمت الى إحدى القرى القريبةوصدرت الأوامر بإحراق كل كتبه باستثناء الكتب ذات الطبيعة العلمية البحته ثم ارتحل في نهاية القرن الثاني عشر الى مراكش حيث توفى هنالك. أما حقيقة ان معظم أعماله المتبقية – بعد ضياع وحرق أعماله بالعربية – كانت تلك الترجمات غلى اللاتينية والعبرية فدليل واضح على انه بالرغم من تفنيده لمهاجمة الغزالي للعقلانية فلم يتمكن ابن رشد في زمانه من التأثير على الجماهير.
ابن خلدون 1332 – 1406 -------------------------------
يجوز اعتبار عبد الرحمن بن خلدون آخر عمالقة الثقافة في الحضارة الإسلامية. ظل ابن خلدون راقدا في طي النسيان حتى تبين لبعض الدارسين الغربيين في القرن التاسع عشر انه أستاذاً رائدا لعلم الإنسان المعاصر (الأنثروبولوجيا). السبب في حدوث هذا الإهمال على حد قول فيليب هيتتي (Philip Hetti ):
” ولد الفيلسوف في زمن خطأ وفي مكان خطأ. جاء متأخر جدا فلم يوقظ أي إحساس لدي معاصريه ومجتمعه الغارق في سبات القرون الوسطى أو ليجد من يهتم بترجمة أعماله من الأوربيين. لم يسبقه أحد في مجاله ولم يخلفه أحد. على ذلك فلم تتكون له مدرسة كباقي الفلاسفة والعلماء. ومض نجمه سريعاً في سماء شمال أفريقيا دون أن يخلف وراءه أية أضواء”. عقب أرنولد توينبي (Arnold Toynbee ) على إسهمات ابن خلدون في التاريخ وعلم الاجتماع قائلاً “استوعب وبلور فلسفة للتاريخ فكانت بلا شك هي الأعظم من نوعها على مر العصور”.
لم يكن ابن خلدون من المعتزلة كما كان معظم العلماء الكبار في العصور الإسلامية الوسطى بل على النقيض رفض الافتراضات الأساسية التي طرحها المسلمون من رواد الأفلاطونية الحديثة مثل الفاربي وابن سينا. ورأى في مذاهبهم البراقة الخاصة بالوجود ونظرية المعرفة ما يخالف الدين. كذلك فقد عارض بشدة الاشتغال بالكمياء.
تميزت إضافات ابن خلدون للفكر الإسلامي بالإجابية الشديدة ويرجع له الفضل في تشكيل قوانين السلوك الاجتماعي وخلق جنين علم الحضارة حيث بين بالتفاصيل المرتب كيفية تدخل طبيعة الأرض والسكان والعوامل الاقتصادية في تشكيل المجتمعات. وله في ذلك مقولة شهيرة ترجع أسباب الاختلافات المنظورة بين الأجيال إلى الفروق الاقتصلدية التي تميز كل منهما”. لابد هنا من مقارنة ذلك بمقولة كارل ماركس” إن وسائل الإنتاج لمتطلبات الحياة المادية تحدد- بصفة عامة – الخصائص الاجتماعية والسياسية والثقافية في مسيرة الحياة(مرجع13). لاشك في أن ابن خلدون قد سبق غيره من مفكري أوروبا في عصر ما بعد النهضة.
يرى الفقهاء الاصوليون أنه بالرغم من انتقاد ابن خلدون لمن سبقه من الفلاسفة المعتمدين على النظريات اليونانية إلا انه ظل عقلانياً. فقد ثاروا بحدة لتطبيقه مبدأ العصبيات (الولاء للمجموعة) على النبوة حيث أشار بلزوم اتحاد القبائل لتحقيق عقيدة مبنية على الوحي الإلهي.
كذلك أثارتهم ملاحظاته اللاذعة بشأن خشونة وفظاظة سلوك العرب إضافة إلى أنه عزا معظم أجاد العصر الذهبي إلى غير العرب حيث كتب يقول :
” من الحقائق المدهشة مع استثناء بعض الحالات القليلة ان معظم الأساتذة سواء في الدين او في العلوم الثقافية كانوا من غير العرب فإذا تصادف أن كان منهم من له أصول عربية فيلاحظ أنه غير عربي اللسان والنشأة وحتى معلميه كانوا من غير العرب. هذا بالرغم من الإسلام دين عربي ومؤسسه كان عربياً “
يلاحظ ان أصول ابن خلدون العائلية جاءت من اليمن ثم استقرت في إسبانيا مما جعل معارضيه يشيرون إليه بازدراء على أنه ” بربري جاهل ” في المقابل يشير هو إلى دولة العرب على أنها دولة همجية ذات ميول للنهب والتدمير.
في الوقت الذي فضل فيه بعض الأساتذة المسلمين تجاهل ابن خلدون اندفع آخرون في هجوم شديد عليه
في محاضرة له بعنوان ” مهنة الموت ” ألقيت في بغداد عام 1933 نادى سامي شوكت المدير العام السابق للتعليم في العراق ورئيس منظمة شبه عسكرية للشباب بنبش قبر ابن خلدون وحرق كل كتبه في العالم العربي
يصف طه حسين الأستاذ المصري المعاصر ابن خلدون كرجل منتفخ الذات لدرجة مؤذية كما أنه عقلاني غير شريف متنكر في زى الإسلام ---
• من المؤسف في حق الثقافة الإسلامية أن يبقى ابن خلدون أقرب إلى العدم الفعلي حتى يكتشفه المستشرقون والآن وبعد اعتراف الغرب به وبريادته يتبارى العديد من الأساتذة العرب – باستثناء العرب العنصريين الأصوليين المتطرفين – في الإشادة بابن خلدون.
---------------------------------------------------------------------------------------
المرجع كتاب الإسلام والعلم الأصولية الدينية ومعركة العقلانية …الفصل العاشر
========================================
البحث منقول بتصرف---
=========================================