الشيخ أحمدو ولد محمدو حامد ولد آلَّـا
تأخذه حالة تعجب تطول إذا قال الطالب إنه لا يحفظ المتن!!
ولا يبرح يكرر "إن فلانا قال إنه لا يحفظ المتن"
ومرد تعجبه كونه لا يتصور غير حاله في الحفظ الذي أشتهر به، وسارت بخبره الركبان!
إن الذين يبالغون في حفظه يقولون: إنه يحفظ القاموس المحيط على ظهر لسانه! وأما القاسطون في أمره فيقولون: إنه يحفظ المتون المحظرية - بأسرها - عن ظهر قلب!
ويقول هو عن نفسه إنه يحفظ مثلث ابن مالك، مع عشرة شواهد من شعر العرب لكل بيت من المثلث.
وعرف عنه أنه لا يكتب بيده، لاعتماده على ذاكرته، فقد حفظ متون المحظرة من تكرار تلامذة والده، دون أن ترهقه كتابةً، وتقييدا، ومراجعةً وتكرارا!!

ذات طالعٍ ميمون من عام 1332هـ ولد للمرابط محمدو حامد ولد آلـا الحسني، ولده أحمدو الذي نهل غضا من معارف الوالد، وشب على طوق العلم، وحسن الديانة، فجاء رجلا من أولئك الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.
جاهد في الله حق جهاده، فهداه سبله، وقد وقذته العبادة، فكان يخاف يوما تتقلب فيه الأبصار، ولم يبرح ذكر هادم اللذات.
قال الدكتور عبد العزيز بن علي الحربي: "دخلت ليلة من ليالي رمضان على الشيخ وهو يصلي، ويقرأ سورة الحديد، فلما بلغ قوله سبحانه وتعالى: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" غلبه النشيج، واعترته رجفة، أخذ بي مثلها، ولهذا الموقف أثر في نفسي إلى اليوم"

قال الدكتور أسامة الأشقر: "كان الشيخ الذي قارب السبعين آنذاك قصير القامة، نحيل الجسد، كث شعر اللحية، يتلوّى على بعضه، ويجمع صدره إلى فخذيه في جلوسه واستلقائه، ويستر فاه بطرف عمامته، يأتيه بعض طلبة العلم واحدا واحدا يقرؤون عليه من متون العربية، أو يسألونه في مسائل الفقه واللغة، فقد كان الشيخ أيضا فقيها متمكنا في فقه المالكية، حافظاً لمتون المذهب مشاركا في تحقيق القول بأوجه الخلاف فيه، رغم عزوفه عن ذلك وجنوحه إلى الدرس اللغوي"
لزم والده، ولم يفارقه، وبلغ من حبه له الشيء العظيم!! فكان لا يذكر اسم من يماثله الإسم، إلا بـ "فلان سمي بَابَ" وهي كنية الوالد.
كان إذا أراد العزو لوالده في الدرس يقول: "إن بابَ رحمة الله عليه" و"إن" هنا بمعنى "قال" باللهجة الصنهاجية. وكان أحدهم يقول: إنها لا تطلب خبرا لها!!
ومن مستظرف فناءه في حب والده، أنه كان يزور العلامة ابَّاهْ ولد عبد الله في قرية "النَّبَاغِيَّه" فيباسطه الأخير الحديث بذكر أخبار والده، والثناء عليه، فيهش لذلك ويطرب، وتتحرك سواكنه لفرط حبه والده، وإذا أراد ابّاه مزايلة الموضوع إلى غيره يخاطبه أحمدو:
كرر على نازح شط المزار به --- حديثك العدب لا شطت بك الدار

ذات شوق إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، أرخى أحمدو الأعنة تلقاء طيبة، فألقى بها العصا واستقر به النوى، فمكث طويلا يدرس العلوم في الحرم النبوي، وأقبل عليه الطلبة ينهلون من صريح اللغة، ويانع علوم النحو، وصافي متون الفقه، فدرّس الألفية، والمثلث، واللامية، والمعلقات، ودواوين الستة، والمقصورة، والمقصور والممدود، وشعر غيلان وكان محبا له!
كما درّس نظم الغزوات، وأنساب البدوي، والجوهر المكنون في البلاغة، وتلخيص القزويني.
وفي الفقه نظم ابن عاشر، ومختصر خليل، وفي الأصول الكوكب الساطع، ومراقي السعود، وغير هذا من المتون الكثيرة المفيدة.

كان بعض طلابه ينقمون عليه أشعرتيه، وتصوفه، ولم يمنعهم ذلك عن الأخذ عنه، فاشتهر عنهم في ذلك قول بعضهم: "إن أحمدو مكتبة مُتَنَگِّلَه! لكن العَكِيدَه خَرْبَانَه!"
يا سبحان الله كيف لها أن تخرب؟!! وقد رضع لبانها من ثدي صحيح الاعتقاد.
يقول تلميذه عبد العزيز بن علي الحربي: "وهو في الاعتقاد أشعري، - يعني الشيخ أحمدو - ينتصر لمذهبه الفقهيّ والاعتقادي، وإذا نوقش في شيء من مسائله غضب، واعترته رعدة، وقال: لا يمكن حمل هذه الألفاظ، كالاستواء، والمجيء، والنزول، ونحو ذلك على ظاهرها!! وكنت عزمت على مباحثته في لطف، وأدب - وفاء لحقه - فلم أجد صدره يتسع، فتركت ذلك .. والله يغفر لنا وله. وللعذر ميدان فسيح إذا كان المرء يتكلم عن غير هوى، وقصد التنزيه والتعظيم، فمثل هذا قوله منوط بنيّته، إذا بذل وسعه في طلب الحق، ولم يك الشيخ - فيما نحسبه - صاحب هوى"

تقبل الناس - في المدينة - أحمدو بقبول حسن، وأثنى العلماء على علمه وورعه، مثل: الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ جبران بن أحمد بن صالح... وغيرهم.
كان - رحمه الله - يأوي إلى ركن من الزهد شديد، فما كان يقتات بغير تمرات، ويسير من حليب، وفي الربع الأخير من عمره لم يشرب ماء، كما حدث عنه أحد تلامذته.
وفي الملبس بساطة، وفي البيت متاع قليل! ولا يعرف عن مستجدات التقنيات شيئا، كان إذا دخل مرآب السيارات في الحرم مع أحد طلابه، ليوصله إلى بيته يعجب كثيرا، من صفوف السيارات ويقول: "سبحان الله كيف تميزون دوابكم؟!"

حدثني الأخ النابه محمد عالي ولد فتى أنه لقيه في الحرم النبوي، فسلم عليه وعرفه بنفسه، فسأله عن الكبراء في "النَّبَاغِيَّه" وقال له: بلغهم تحيتي وأشواقي، وأورد له بيت غيلان:
ولم ينسني ميا تراخي مزارها --- وصرف الليالي مرها وانفتالها

كان متقنا للهجة صنهاجة، متكلما بها، رآه المرحوم جمال ولد الحسن ذات سفرة له في مطار جده، فسلم عليه متخفيا، وخاطبه قائلا: تَاگَشْكَنُّونْ" وهي كلمة بمعنى التحية، فتبسم أحمدو وقال: ما هذه اللغة الغريبة؟
كان المختار ولد حامد - أيان زمانه في المدينة المنورة - يزور لماما حلقة درس أحمدو - وذات مجيء، وجد المختار مع الشيخ تلميذه صفوان الشامي، ولمرابط أحمدو ولد محمذن فال ومحمد ولد المهاجر الحسنييْن، فلما أقبل المختار خاطبه لمرابط أحمدو بـ "كلام أژْنَاگَه" قائلا: " التاه، "هَيْلَّاگْ آلَّذْ" وتفصيح الجملة "التاه، إليك هذا المكان" فقال المختار: "تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض" فجلس حيث انتهى به المجلس.
وبعد أيام قال المختار الأبيات التالية:
بالشيخ أحمدو والأستاذ صفوان --- أنسي وتفريج آلامي وأحزاني
عبدان في سورة الفرقان وصفهما --- حُرَّان في برلمان العلم عضوان
وابن المهاجر فيما قلت مثلهما --- حرفا بحرف وعنوانا بعنوان
بـ "المالكية" عضو رابع لهمُ --- مقيد في تقاييدي وديواني
كأنني كنت إذ أغشى مجالسهم --- في غوطة الشام أو في شعب بوان

يقصد المختار بالمالكية "تَنْچَغْمَاچَكْ" وبعضوها: شيخ محظرتها لمرابط أحمدو ولد محمذن فال.
رحمهم الله جميعا.

أكثر القائمون على الحرم من مضايقته في الدرس بحجة عدم الترخيص، وكان بلغ من الكبر عتيا، فعاد إلى منازل "لَعْگَلْ" في موريتانيا، حيث نيطت عليه تمائمه، وأول أرض مس جلده ترابها.
ولزم رحلته مع العبادة، ونشر العلم إلى أن لقي ربه في شهر إبريل من عام 2007م رحمه الله تعالى.
- نقلته عن احمدو بايزيد



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي