في التغريب


مصطلح مستحدث في اللغة العربية صاغه الكتاب والمفكرون في العصر الحديث بعد شعور البعض بتفوق الغرب. وعُرِّف التغريب بأنه هجر الذات ما لها، وميلها إلى الغريب عنها، تتلبس به وتتقمصه بدافع جهل أو بدافع شعور بالدونية. ويظهر التغريب على الصعيد الفكري والحضاري باعتبار الميراث الحضاري الأوروبي ميراثًا متفوقًا على التراث العربي والإسلامي ومعيارًا وحيدًا للتقدم.
وهناك تعريف آخر يعرف التغريب بأنه الأخذ بأساليب الحضارة الغربية في كل شيء لينتقل المجتمع من المرحلة التقليدية إلى المرحلة التي وصلت إليها المجتمعات الغربية، سواء في مجال التقنية أو الفكر والأدب. فالغرب والتراث الحضاري الغربي ـ في رأي أصحاب هذا التعريف ـ هما الميزان المعتمد لتقييم تراث العرب المسلمين وواقعهم الحضاري. ولا يقتصر التغريب على اقتباس التقنية من مخزون معارف الغرب، ولا يعني استعارة العناصر الثقافية وتمثلها تمثلاً واعيًا لتتلاءم مع البناء الثقافي، بل يقصد به اتباع كامل بلا إرادة وبلا نقد أو تمييز لما يفرضه علينا الغرب. فعلينا أن نقبل ما يطرحه علينا الغرب من فكر وتقنية وأساليب سلوك. ويرى أنصار هذا الاتجاه أن عند الغرب حلولاً لكل مشكلاتنا، وهي الحلول التي تغلبت على مشكلات الغرب ويكمن فيها سر تقدمه ونهضته.
تعريف ثالث يرى أن التغريب حركة تهدف إلى دمج كل ثقافات العالم في نسق ثقافي واحد. وتعريف رابع يرى أن التغريب مصاحب لليبرالية والعلمانية، وهما أهم مظاهر حضارة المجتمع الصناعي الغربي التي هي التتويج الأسمى لتطور المجتمعات. وعلى الشعوب غير الغربية ـ كما يرى أنصار هذا الاتجاه ـ الاقتداء بالغرب باعتباره المثال الأرقى مثلما اقتدى بنا الغرب في بداية عصر النهضة وترجم تراثنا وتمثله. انظر: العولمة.
والحقيقة أن هذا المثال الغربي وليد شرعي لعصرالنهضة. فحركة الإصلاح الديني النصراني وفلسفات عصر التنوير ومبادئ الثورتين السياسية والصناعية، كل هذا يهدف إلى عَلْمَنَة الحضارة وعَقْلَنَة المجتمع اقتداء بالمنهج التجريبي. والتغريب ظاهرة عالمية يحاول أنصارها فرضها على العالم غير الغربي وهي دعوة باطنها باطل، إذ تهدف حركة التغريب إلى الإطاحة بكل القيم المتوارثة، وإفراغ الثقافة من مضمونها الأصيل، وجعلها مستوحاة من واقع مغاير.
والتغريب كما يبدو من هذه التعريفات، مفهوم يختلط ويتشابه مع مفهوم التحديث، إذ يتضمن الجمود والتبعية، وتشويه الهوية الثقافية، وإجهاض الأصالة والإبداع، ومن ثم فالتغريب ينكر التنوع الثقافي ويرفض الخصوصية الثقافية، متبنيًا نسقًا ثقافيًا واحدًا لعالم واحد هدفه القضاء على الثقافات الوطنية والسعي إلى إجهاض أي تطور ذاتي لها.
والمكونات الأساسية للثقافة العربية الإسلامية هي :
1- الدين منبع الثقافة ودعامتها،
2- اللغة، أداة الاتصال بين العرب ووعاء الفكر العربي.
وهاتان الدعامتان هما أساس هويتنا. فاللغة العربية لغة القرآن. ومن مكونات ثقافة الوطن العربي أيضًا التاريخ والعادات والتقاليد والقيم الإسلامية. ويسعى التغريب إلى طمس هذه المكونات وإثارة البلبلة والريبة حولها.
وقد آمن بهذا النموذج الغربي من وجَّه وجْهَهُ إلى أوروبا أو اعتقد في الاشتراكية كراهية الاستعمار العسكري. وكلا الفريقين فقد الثقة في هويته الثقافية وافتتن بالنموذج الغربي.
وقد بدأ التغريب يفرض سيطرته في مجالات الفكر والاقتصاد والسياسة والقانون والتعليم والأدب والعمارة والفن والأزياء وأنواع الطعام وألفاظ اللُّغة والعلاقات الاجتماعية. وبذا تكتمل حلقة التبعية. بل إن دعاة التغريب لم يترددوا في الدعوة إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، بدعوى عجز العربية عن استيعاب لغة العلم الحديث، وبدا التغريب مجسدًا في الشركات المتعددة الجنسية، ونادى البعض بأن على المسلمين أن يتعلموا مثلهم ويفكروا مثلهم ويتبعوا هداهم، لأنهم الأحسن. ولقد بدأت مظاهر التغريب والدعوة له تدخل المجتمع العربي عند بداية الاتصال بالغرب، ابتداء من حملة نابليون على مصر، وإرسـال محمد علي البعـثات إلى فرنسا، وانتشار نشاط الإرساليات التنصيرية والغزو العسكري لمصر وسوريا ولبنان والعراق والسودان وعدن وتونس والجزائر وليبيا وفلسطين والأردن، ناهيك بما فعله كمال أتاتورك في تركيا. فالغزو العسكري لم يكن ليكتمل دون فرض ثقافة المنتصر وخضوع المغلوب لثقافة الغالب.
وقد استغل المستعمرون سيطرتهم العالمية على وسائل الإعلام ابتداء من الإذاعات الموجهة والسينما والتلفاز والصحافة والقنوات الفضائية لاختراق الثقافات الأخرى ومسخها؛ إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من خلال برامج الترفيه.
وقد ترتب على المواجهة بين الثقافة المتوارثة والثقافة الوافدة انبهار وافتتان وإعجاب فريق بالثقافة الوافدة، وشعور بتفوقها والدعوة للاقتداء بها بلا تمحيص كافٍ، إذ يرون فيها صورة مستقبلهم. كما عانى فريق ثان من سيطرة الفكر الوافد وإحساس بالدونية، وهؤلاء شعروا بالاغتراب في أوطانهم بين أهلهم. ويقصد بالاغتراب هنا الإحساس بالعجز أمام تفوق الآخر، والانعزال، وضياع الذات، وعدم الانتماء، وازدواجية الفكر والسلوك. ودعا المؤيدون للتغريب إلى قبول مظاهر الحضارة الغربية واتباع خطوات الغرب، ونادوا بأن علينا أن نأخذ منهم أساليب الرقي من أجل الدخول إلى عصر جديد. وقد ظهر فريق المؤيدين للغرب نتيجة أسباب ثلاثة
1- قوة سيطرة الغالب على المغلوب
2- انتشار الأمية
3- عدم القدرة على التمييز بين النافع والضار.
ولكن المعركة لم تكن سهلة أمام أنصار التغريب؛ فقد ظهر فريق معارض تزعمه في العالم الإسلامي الإخوان المسلمون والسنوسية والسلفيون. وفي الشرق غير الإسلامي سادت تعاليم غاندي، وفي أمريكا اللاتينية ظهرت الحركات المناهضة للثقافة الاستعمارية. وتؤكد الحركات المعادية للتغريب في العالم العربي على الهوية الإسلامية، والمواءمة بين القديم والحديث، والعودة إلى الدين الصحيح، وأن الأصالة لا تتعارض مع المعاصرة.