الشهوة ؟ والاكتشاف
سلام مراد
في الآونة الأخيرة كثرت الروايات العربية التي تتناول موضوع الجنس، حتى كادت تكون "موديل" الساعة واليوم؛ أي حدث الساعة الأكثر حضوراً في الآونة الأخيرة.
والكتابة في هكذا موضوع ليست بالسهلة كما يظن فالمستويات تتفاوت من كتابات سطحية إلى كتابات عميقة، ومنها دراسات تهدف إلى شد القارئ ولكن تكون بمستوى تجاري تسويقي، أو تكون بمستوى عالٍ من حيث الدراسة والبحث، من خلال تسليط الضوء على جوانب غير مطروقة في الحياة الاجتماعية، خاصة أن موضوع الجنس هو من المحرمات في الثقافة فهو من ضمن المحرمات الثلاثة الممنوعة: دين، جنس، سياسة في الفكر العربي الإسلامي.
ومن الروايات التي صدرت مؤخراً رواية اكتشاف الشهوة للروائية الجزائرية فضيلة الفاروق تبدأ الرواية بكلمات:
"جمعتنا الجدران وقرار عائلي بالٍ، وغير ذلك لاشيء آخر يجمعنا، فبيني وبينه أزمنة متراكمة وأجيال على وشك الانقراض لم يكن الرجل الذي أريد...
ولم أكن حتماً المرأة التي يريد، ولكننا تزوجنا.
تزوجنا، وسافرنا، ومن يومها انقلبت حياتي رأس على عقب".
نكتشف من خلال مقدمة الرواية أن "باني بسطانجي" الشخصية الأساسية في الرواية غير راضية عن زواجها، وأنها تزوجت بطريقة تقليدية وكذلك زوجها؛ فليس هناك انسجام ومعرفة سابقة وحب سابق.
هناك رفض لهذا الواقع الخاطئ الذي بدأ بدايات خاطئة وحتماً سيكون مسار الحياة والنهاية كذلك خاطئة. فالمقدمات الخاطئة دائماً تؤدي إلى نتائج خاطئة.
تعترض الروائية من خلال شخصية "باني" على تصرفات وشخصية الرجل، الذي هو زوجها.
فتقول: "لم يحاول أن يوجهني، لم يحاول أن يفهم شيئاً من لغة جسدي، أنهى العملية في دقائق، ورمى بدم عذريتي مع ورقة "الكلينكس في الزبالة".
"عجزت عن الحركة بعد تلك الغارة. ما اخترقني لم يكن عضوه، كان اغتيالاً لكبريائي، وفيما أشعل سيجارة انتصاره ليتمم بها متعته قمتُ منكسرة نحو الحمام.
غسلت جرحي وبكيت".
من خلال السرد وبالضبط من مونولوج الشخصية الأساسية في الرواية والتي هي "باني" نلاحظ أن الزوجة معترضة على التصرفات الخاطئة والعنيفة للزوج الذي تصرف معها بطريقة غير إنسانية بل هي أقرب لطريقة تعامل الوحوش مع الفرائس، فليس هناك مراعاة لمشاعر وردة فعل الزوجة، فالزوج يهتم بتلبية نزواته وشهوته فقط من دون الإحساس بالطرف المقابل.
شبهت الروائية فعل الزوج مع الزوجة بالغارة، والغارة تحصل من قبل جيش معاد وليس طرفاً شريكاً في عملية لا تكتمل إلا بوجود طرفين يكملان بعضهما.
نلاحظ أن الزوجة تعترض على تصرفات الزوج وتبين لنا أن الزوج يسعى إلى تلبية شهوته فقط من دون التفكير بالطرف المقابل ودون مراعاة لإنسانية المرأة، فالزوج يقترب من حالة "سادية"، لأنه يفكر بنفسه فقط ولا يكلف نفسه التفكير بالآخر. هناك اعتراض وشجب وفضح للمجتمع الذكوري.
فالروائية تحاول أن توصل لنا رسالة ألا وهي أن الرجل الإنسان ليس فقط ، وليست الذكورة مرادفة للإنسانية، وليست المرأة جنساً آخر أو نوعية أدنى من البشر.
فالذكورة والأنوثة هما الجانبان الجوهريان للوجود البشري، لكل منهما خصائصه وسماته ودوره.
إنها ترفض واقعها وحياتها تماماً، فهي ليست راضية عن واقعها ووضعها بشكل عام، فهي تبين أن زواجها ومسار حياتها فرضا عليها من المحيط الاجتماعي الذي ولدت فيه.
تتابع الروائية سرد قصة حياتها، منذ البدايات في مدينة قسنطينة، ويظهر رفضها لهذه الحياة البائسة التي تفتقد إلى الألوان والتنوع بل تَظهر على أنها تعيش في مجتمع ذكوري تتوافر فيه كل أمراض الكبت والقهر و خاصة على النساء.
ثم ننتقل مع باني وزوجها مود إلى باريس، وفي باريس تصبر على كل تصرفات زوجها، لعلها تصل إلى ضوء في نهاية النفق المظلم. فباريس مدينة النور والحرية والانطلاق نحو المستقبل.
تظهر لنا ظلم وقهر الرجل لها، لكنها تكمل الوجه الآخر لهذا الغبن والقهر؛ فهي تبدأ بالخروج على العرف والعادات والتقاليد كما خرج زوجها عن الدين والإنسانية من خلال تصرفاته معها.
تبدأ بالتفكير بآخرين وهي على ذمة زوجها، ثم تغوص في الخيانة الزوجية.
لكننا نتساءل هل أخطاء وتصرفات زوجها تبرر لها أن تكون خائنة لهذا الزوج؟!
نعود لوصف الروائية لمدينة قسنطينة التي ولدت فيها، كل تلك الحارات المتعانقة التي تنتهي عند قسنطينة الحديثة بمبانيها الفرنسية الأنيقة، وشوارعها المكتظة بالناس، و..؟.. الذي لا يليق بها.
تكبر باني وتكبر معها مشكلاتها ومعاناتها فالوعي يزيد من إدراك الإنسان متاعب الحياة والمجتمع.
كما قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمفي الثالثة عشرة تماماً، اكتشفت أن أحلامي تتعثر ببروز نهدين صغيرين لي، بوجع يتكوَّر ويكبر، ويضع مهانتي بإتقان.
ومن هنا ما عاد بإمكاني أن أرافق والدتي إلى حمام "دقوح"، ولا أن أتعرَّى أمام أحد، وصرت عدائية نحو الجميع بداية من نفسي!.
تعرض "باني" لنا واقع أسرتها وحال جدتها العجوز المعقدة؛ وتعرض واقع المجتمع الذي تعيش فيه مشكلاتها ومآسيها كلها كما هي من دون أي رتوش.
"يتناهى لي صوت جدتي المقعدة من غرفتها الصغيرة وهي تناديني بصوت مخدوش ومتعب، فلا أرد عليها ولكني أظل واقفة أمام الشباك المطل على "شارع شوفالييه".
أتأمل ذاك المنعطف الذي تمله سخرية القدر؛ عشرات الشبان العاطلين عن العمل يستندون إلى الحيطان في انتظار انقضاء العمر.
تبين لنا أن هناك عاطلين عن العمل لا ينتظرون أي أمل.
كما أنها تستهزئ بالثقافة الشعبية التي تستند إلى أحكام عامة تبتعد عن العلم والمعرفة؛ أي أنها تبين مدى الجهل المسيطر على الواقع الاجتماعي والثقافي والفكري عند الناس، وأجل هناك فقر اقتصادي واجتماعي وفكري؛ "والزنقة" تعني مجموع ما يحيط بيتنا من بيوت وحوانيت، وشوارع ضيقة، ولفيف الحزن الذي يطوّق الجباه والفرح الذي يأتي متنكراً، والفقر الذي يتبنانا جميعاً، والحاجة والعوز والمرض الذي كيفما كان نداويه بالنعنع.
الزنقة!
عالم الرجال الطليق، والشقوق النسائية، وبكاء الرضع والأطفال، وصرخات الذين يلعبون ويمرحون، وتراكم القهر الداخلي.
الزنقة!
يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، ودهراً بعد دهر هي ذاتها...
إنها ترفض الواقع الأليم وتظهر القهر والسلبيات وتنقد العادات والتقاليد والمجتمع الذكوري وتنتقد الطب الشعبي الذي يداوي كل الأمراض بالنعناع.
لكنني أتساءل هل الثقافة الشعبية كلها تقاس بمقياس واحد؟ لا حتماً؛ فأي مجتمع فيه سلبيات وإيجابيات، وفيه خرافات، وفيه علم، والعادات والتقاليد والأعراف ليست كلها سلبية.
منها السلبي والإيجابي، وهناك خرافات، لكن يقابلها الجانب الإيجابي الذي لا يخلو منه أي مجتمع.
فحتى العلم هو نتيجة تراكمات اجتماعية وشعبية، كلنا يعلم أن هناك العلم التجريبي الذي نعيش جزءاً كبيراً من إنجازاته.
وهو نتيجة تجربة وخبرات انتقلت عبر الأجيال، وحتى الإنسان نفسه يُعرفه كثير من المثقفين والكتّاب، على أنه كائن تاريخي، أي تنتقل التجارب والخبرات له عبر التاريخ الإنساني. والعلم والمعرفة والحضارة التي وصلنا إليها ليست اختراعاً حديثاً ومفاجئاً بل هي نتيجة سعي وتراكمات ومعرفة وعلم عبر الأجيال.
تعرض باني علاقتها بزوجها مود في باريس، المدينة التي تحتضن الجميع.
"أتعبتني الحمى حين استيقظت باكراً.
كانت الغرفة تفوح برائحة الثياب المبللة التي رميتها قرب سريري.
"مود..." لم يعد إلى البيت كعادته.
جسدي ملتهب، فراشي ملتهب، عينان تدمعان... منظري مخيف في المرآة!.
أخذت حبتين "بنادول" ومكثتُ في فراشي، نمت بعض ساعة، واستيقظت ثانية على وقع خطوات "مود..." عاد منتشياً يغني بلسان مثقل أغنية لفضيلة الجزائرية. واضح أن ليلته لم تكن خالية من "اللحم الأبيض المتوسط" على رأيه.
لم أهتم....
دفنت رأسي في المخدة واستسلمت مرة أخرى للنوم.
كان جسدي مفككاً. وقد حلمت بيد باردة تمر على بعض المواضع.
ثم استيقظت مرة أخرى على صوت "مود..." يكلم فتاته على الهاتف، تناهى لي صوته من الحمام وهو يقول لها: "نامي الآن يا قطتي الصغيرة، غداً ينتظرنا يوم طويل.
تمدّد بعدها بقربي ككومة من الأقذار، تفوح منه رائحة الجنس إلى حد الغثيان".
توضح باني خيانة مود لها وهي طبعاً تبادله الخيانة مع ذكور آخرين، فباريس مدينة كبيرة وتتسع لكل شيء وفيها ألوان ومشارب متعددة.
هي تعرف "إيس" الشاعر اللبناني الذي يقيم في باريس وتحبه أكثر من زوجها بل تستمتع بكلامه وقبلاته وصورته وهو حاضر دائماً في ذاكرتها.
إنه "إيس".
"في السادس من شباط/ فبراير ولد شاعر عربي في بيروت اسمه "ايس"..."
"تقمصت يومها سادية "إيس" فتركت شرف في مقهى "فلور" بـ"بولفارسان جرمان" مشدوهاً غير مستوعب تماماً ما الذي حدث، فقبلها بأيام كنتُ أوهمه أنني أحبه دون أن أقصد ذلك بالفعل. فعلت باني ذلك مع شرف، أما بالنسبة "لإيس" فطيلة الوقت كانت تفكر فيه. وقالت عنه:
"أن نفكر في رجل لا يبالي بك المأساة نفسها، وأن تفكر المرأة في رجل لا تعني له أكثر من ثقب شهوة فهذا يعني المأساة مضاعفة".
"إيس..." كان من النوع الذي يدخل عالم المرأة دون أن يطرق الباب، ويخرج دون أن يستأذن ويعتذر.
المرأة بالنسبة له قيمة مستباحة.
ماري تقول إن أغلب المثقفين العرب لا ينظرون إلى المرأة سوى أنها ثقب متعة ولذلك يناضلون من أجل الحرية الجنسية أكثر مما يناضلون من أجل إخراج المرأة من واقعها المزري.
إنهم على عجلة من أمرهم ولذلك هم في واد والمجتمع في وادٍ آخر".
ماري تقول إنها لا تقع في الحب بسهولة وهذا ما يجعلني أجدها قوية، إنها ليست مثلي أنا التي وقعتُ في حب رجل لمجرد أنه قبّلني أمام الملأ قبلة مفاجئة!.
كنت أظن أن رجلاً بهذا السلوك رجل عاشق يقول الحب بتصرفات علنية. ظننته ذلك النموذج الرومانسي الذي تقدمه لنا السينما الأمريكية. وكنتُ مخطئة بالتأكيد، الرجل العربي في داخله ميراث قرون من الجاهلية. ماري تقول إنها "ملحدة رومانسياً" وقد وجدت في هذا التعبير شيئاً جديداً لم أكتشفه في النساء من قبل.
إنها امرأة ذكية، تعرف تماماً أن الرجل كائن يتقن حرفة الصيد قبل أي حرفة أخرى.
-لماذا نحبهم إذن يا ماري؟ لماذا؟
تهزّ كتفيها وتجيب بهدوء:
ـ إنها سُنَّة الله في خلقه.
تمارس "باني" شيئاً وتفكر وتميل لشيء آخر إنها شخصية المثقف، والازدواجية التي تعاني منها نسبة عالية من الكتاب والمثقفين.
أخيراً تقول إنها رواية حققت حضوراً قوياً فقد طبعت منها طبعتان خلال أشهر قليلة، لا نعلم ولا توجد لنا إحصائية عن الذين قرؤوا الرواية من أي المستويات هم، فأغلب هذه الروايات يقرؤها الشباب لأنهم يجدون فيها الجرأة في التطرق إلى موضوع الجنس والعلاقة الجنسية.
إلا أن الرواية لم تكن تعرض فقط موضوع العلاقة بين الذكر والأنثى بل تناولت مواضيع وعادات وحياة اجتماعية واقتصادية وفكرية وسياسية. والسرد وأحداث الرواية هي التي تشد القارئ ؛فهي وظفت الجنس بشكل خدم روايتها إلا أنها كانت مغامرة وجريئة إلى درجة الفضائحية فالجنس كان واضحاً وصارخاً بشكل غير مسبوق في الكثير من الروايات العربية،لكننا نترك للقارئ انطباعه وتحليله للرواية وهذا الرأي والانطباع يختلف من قارئ إلى آخر .
إنها فضيلة الفاروق.
المؤلفة:
جزائرية تنتمي لعائلة بربرية عريقة.
ولدت في 20 نوفمبر تشرين2 1967 في عاصمة الأوراس (أريس) بالشرق الجزائري.
-ماجستير في اللغة العربية وآدابها سنة 2000.
-حالياً تحضر لشهادة الدكتوراه منتسبة لجامعة وهران (غرب الجزائر).
-عملت في حقل الصحافة المكتوبة والمسموعة في الجزائر من 1990 إلى 1995، وكان لها زاوية شهيرة في أسبوعية "الحياة الجزائرية".
-انتقلت إلى لبنان سنة 1995 بعد أن تزوجت بلبناني.
-لها إسهامات في الصحافة اللبنانية (الكفاح العربي- الحياة- السفير- وعناوين أخرى).
صدر لها:
-لحظة لاختلاس الحب (قصص)- دار الفارابي، بيروت 1997.
-مزاج مراهقة (رواية) دار الفارابي بيروت 1999.
-تاء الخجل (رواية)، رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت 2003.
الكتاب: اكتشاف الشهرة
الكاتب: فضيلة الفاروق
الناشر: دار الريس 2006
See Translation