(4)
فرحٌ في الزنازين
لم أكن أعرف عصر يوم الجمعة أن المحققين اليهود في إجازة السبت، لذلك عشت اللحظات الأولى من الزنزانة في حالة من الاطمئنان القلق، فلا أنا مصدق بنجاتي من أيدي المحققين، ولا أنا مكذب، ولاسيما أن بين يدي بطانية قذرة، فرشتها على الأرض، ومددت جسدي عليها لأول مرة منذ أربعة أيام، إنها بمثابة فرشة حرير؛ غرقت معها في نوم عميق، ما كنت لأصحو منه لولا صرخات السجناء المدوية التي تنطلق من الزنازين، وتوزع الأمسيات؛ أحدهم يصرخ: بنمسي يا زنزانة أربعة، فيأتي الرد: مليون. صوت آخر من بعيد، ينادي: بنمسي يا زنزانة 12، فيأتي الرد: مليووووون.
صرخات السجناء في الزنازين تعبر عن خلاص مؤقت، وفي الصرخات حاجة إنسانية للتواصل الاجتماعي، فالصرخات إعلان حياة وسط الموت، وللصراخ هدير يكسر الصمت، ويجتاز الرتابة، وفي الصراخ تعويض عن حاجة إنسانية لإثبات الوجود، ورفض الظلم.
في بادئ الأمر لم أبادل السجناء صرخاتهم، خجلت أن أرفع صوتي، وكان ردي على أمسيات السجناء لي متناسباً مع عملي في التدريس، وحتى حين جاءني صوت السجين محمد دحلان، قائلاً: بنمسي يا فايز، كان ردي عليه بصوت عادي: مساء الخير يا محمد. فلم أصرخ بلفظة "مليون" التي يبالغ السجناء في مدها، وفي طولها وعرضها.
لقد طغت صرخات السجناء التي تدوي في الزنازين على لحظات القلق، ولكنها لم تنزعني من التفكير في كيفية الخلاص من عذاب المحققين، وأنا أتحرك جيئة وذهاباً في مساحة مترين من الزنزانة، وأسأل نفسي: هل نجوت حقاً، أم سأعود للتحقيق ثانية؟
وسط هذا القلق المدوي لا أعرف متى نمت ثانية في الزنزانة، ولا عرفت الوقت الذي صحوت فيه على صوت رجولي شجي، كان يغني لأم كلثوم بصوت يملؤه الشجن، أغنية من كلمات الشاعر أحمد رامي، كان يقول في عتمة الزنازين: سهران لوحدي، بناجي طيفك الساري، سابح في وجدي، ودمعي على الخدود جاري. نام الوجود من حوالي، وأنا سهرت في دنياي، أشوف خيالك في عينيا، واسمع كلامك وياي، أتصور حالي أيام وليالي، مرت على بالي.
قلت في نفسي: من هو هذا السجين؟ أي مبدع هذا؟ وكيف استطاع أن يعبر عن مشاعري، وربما عن مشاعر عشرات السجناء؟ كيف استطاع اختراق مكنون وجداني في هذه اللحظات التي أقف فيها على مفرق طرق بين الحاضر والماضي، وبين الحياة والموت.
في صباح يوم الأحد 13/5 فتح باب الزنزانة، ووضع السجان القيود في يدي، ووضع الكيس في رأسي، وجرني إلى الطابق الثاني، حيث غرف التحقيق، لتبدأ هنالك الجولة الثانية من التعذيب، ولكن بشكل أكثر وحشية، وأشد وجعاً، ولاسيما بعد أن أدرك المحققون قوة جسدي، وأيقنوا أن عضلات بطني القوية أصلب من ركلات المحقق أبو عنتر، وأيقنوا أنني أكثر عناداً مما ظنوا؛ هذا ما اعترف فيه محقق يسمي نفسه أبو رشدي، انضم للمحقق أبو عنتر، وصار يشاركه جلسات التعذيب المكثف والمتواصل حتى يهلك كلاهما من التعب، فيأمرا السجان بربطي في ماسورة الحمام من المساء حتى الصباح.
يتبع غد