سأقول لكِ رغم كل العذابات، كل «آذار» وأنتِ بخير يا أمي.


عيد جديد يطلّ على مآسينا، يطوي شراع سنة أخرى ترحل، تترك لنا كومات من البؤس والفجيعة.
ونواصل الحلم يا أمي.. أعرف أننا عاقّون وفاشلون منذ مكّنتهم من اعتقال صوتي، ورجع أنفاسي.. يا أمي.. حالنا يقترب من اليأس، وهذا الركام الطافح يكاد يسدّ حلوقنا بالوجع.
هذا الجديد - القديم يطفح في خلايانا، ولا نجد غير الركن المكين نأوي إليه، وذاكرةٌ نستجديها كي تُبقي فينا نبض الألق.
يا أمي.. لن أنسى يوم وارينا أخي الثرى كيف أطلقنا العهد، أن لا نكتوي بحمّى النوم قبل أن نثأر، لكنهم، وضعوا على أفواهنا أقفالاً ثقيلة، وألقوا بنا في عتمة الزمن.
قالوا.. أنتم تعيشون على هامش المعطيات.!
حدثونا عن وطن يفاوضون من أجل استرداده.. عندما بحثنا في تفاصيله وجدناه فتاتاً.
أيّ وطن لا يعيدني إلى حضن ذاكرتي ليس وطني، قد يكون مكاناً لإقامة غرباء، لكنه لن يكون لي إلا إذا دخلته فاتحاً.. يا أمي المنكوبة بنا.
تناسينا أوجاعنا على موائد اللئام، وتعلمنا كيف نفرح على أشلائنا، ثم تجرّعنا كأس المهانة.
كنا أبناءك يوم كنا على حدّ الصدق في مسيرة الثأر، لكننا تلاشينا يوم أغدقوا علينا هباتَهُم.
أحبكِ.. فأنت المحيط، كم غيّب تحت سكونه جنون مداراتي، وكم ضخّ في رئتيَّ إكسير الحياة كلما شارفتُ على الاختناق، وكم مخرَ مركبي عبابه، وأوصلني إلى شواطئ الأمان.
كنتُ.. ألاقيك في النور كلّما أطلّ فجر، يدُكِ تُمسكني في وحشةِ الأنفاق فأخرج على متنها إلى قدري.
ثم.. غبتِ عني، فضيّعتني متاهات الحياة.!
اليوم، بعد غيابك الذي أضنى جسدي، وأعملَ فيما تبقى من عظامي تفتيتاً وتمزيقاً، فقوّس بعضها، وأرجفَ بعضها الآخر، فجأة تقتحم أشعة الشمس محرابنا عن قصد، ربما أشرَقت من مكان آخر، من مكان أنت فيه الآن، أشعّة شمس رائقة حملتها رفوف النوارس ذاتها، وحّطت بها تماماً فوق موقع النزيف..
بحثتُ.. بحثت، فلم أجدك إلا في سكون قبر، ونداوة رخامة، أعجب كيف تجرَّأتْ وأطبقت عليك.؟
أرى وجهك بين وجوه من يودعن في كلّ يوم أكبادهن، وأقف صغيراً.. صغيراً أمام هرمٍ شامخ على قمّته أنتِ.. يا أمي الغائبة في مكان ما.. في زمن ما.. تحت سماء ما.. صمدتُ، رغم شيخوختي تشدني إلى القاع بعنف.. تشبّثت بأظافري وأسناني..
تُرى، لو أنهم يقتلعون «المخيم» من بين أصابعنا، أين نمضي..؟
هو المكان.. هو الإرث الوحيد الذي أملك عليه السلطان، وهو الوحيد الذي أستطيع أن أطمئن فيه علينا، مكاناً، محطّة، مربضاً أعود منه إليكِ..
أعاني من عتمة التغييب والتفقير والتجويع، لكنني لن أستسلم.
قد يكون ذلك الفتى الصامد هناك، يشبهُني، وهو الوحيد الذي لم ولن يستسلم، ولا يملك غير قلمه وروحه.. لو صادروا قلمه تبقى الروح.
ولو خرجت الروح من مكمنِها على درب الصدق، فألف تحية لها وله.
يتقوّلون عليّ الأقاويل.. «غريب، مشرّد، إرهابي..».
نعم يا أمي أنا كلّ هؤلاء، ويوم نستعيد مجدنا سيأتي ذكري في فصول المدارس، سيقولون ويتحدثون عني:
ـ كان في سالف الزمن رجل لم يستسلم.. كان يقول: فلسطين لنا، كلّ فلسطين.
لكل هذا الأمل يا أمي، أتوسّل إليك ألا تبكي.
أعرف أنك تنزفين حزناً، تشتاق روحك إلى رديف جديد، ويوم جديد، ونزفٍ جديد.
إليك أمي.. تختصرين كلّ نساء وطني في دمعتك المحبوسة وراء ألف دائرة حب.
وسأقول لك.. لهن، رغم كلّ العذابات، كل سنة، وكل يوم وأنتن وفلسطين الخير.. بخير.